زاد الداعية (2)
زاد الداعية (الجزء الثاني)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، فقد مَرَّ الكلام عن أهمية الدعوة، والآن يبدأ الكلام في زاد الداعية.
أولًا: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]:
أعظم ما يتزوَّد به الداعية لصلاح أمره واستقامته في سيره تحقيق العبودية لله والاستعانة به، فالأولى يصلح بها نفسه، والثانية يستعين بها على المشاقِّ والعقبات التي تواجهه في طريق الدعوة؛ ولذلك أوصى النبي معاذًا أن يقول دبر كل صلاة: ((اللهم أعِنِّي على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك))، فالداعية الذي ينشغل بالناس عن أوراده التعبُّدية من قيام ليل وصيام نوافل وأذكار الصباح والمساء ووِرْده من القرآن، سرعان ما ينقطع عزمه أو تفسد عليه نيَّتُه، ولا يستطيع مواصلة الطريق، ومن قصر في الاستعانة بالله وكله الله إلى نفسه، ومن وكله الله إلى نفسه وكله إلى عجز وضعف.
فسعيك في إصلاح نفسك هو أول لبنة في إصلاح غيرك؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، ولا فائدة في أن تنقذ غيرك ثم تضيع أنت.
قالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ المُبارَكِ وغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ: “صِنْفانِ مِن النَّاسِ إذا صَلَحا صَلَحَ النَّاسُ، وإذا فَسَدا فَسَدَ النَّاسُ، قِيلَ: مَن هُمْ؟ قالَ: المُلُوكُ، والعُلَماءُ”؛ تفسير ابن القيم.
واعلم أن ( كثرة التقرُّب والتعبُّد هي الدروس الصامتة التي ترسم للناشئة منهج حياتهم الجديدة العامرة بالإيمان والطاعة، وإن المتربين ليستمعون بقلوبهم إلى عباداتك أكثر من استماعهم بآذانهم إلى أقوالك وحديثك..المربي الذي يؤثِّر على طلابه من خلال سلوكه وأفعاله، سيكون طلابُه أكثر ثباتًا وتدينًا وتحقيقًا للأهداف التربوية)؛ التربية من جديد بدر الزهراني، 217.
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ لك اللهم نَخشعُ ونَذِلُّ ونستكينُ، إقرارًا لك يا رَبنا بالرُّبوبية لا لغيرك ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ وإياك رَبنا نستعين على عبادتنا إيَّاك وطاعتنا لك، وفي أمورنا كلها لا أحدًا سواك)؛ الطبري.
(فَأسْعَدُ الخَلْقِ أهْلُ العِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ والهِدايَةِ إلى المَطْلُوبِ، وأشْقاهم مَن عُدِمَ الأُمُور الثَّلاثَة، ومِنهم مَن يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِن ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ونَصِيبُهُ مِن ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ مَعْدُومٌ أوْ ضَعِيفٌ؛ فَهَذا مَخْذُولٌ مُهِينٌ مَحْزُونٌ، ومِنهم مَن يَكُونُ نَصِيبُهُ مِن ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ قَوِيًّا ونَصِيبُهُ مِن ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ضَعِيفًا أوْ مَفْقُودًا؛ فَهَذا لَهُ نُفُوذٌ وتَسَلُّطٌ وقُوَّةٌ، ولَكِنْ لا عاقِبَةَ لَهُ، بَلْ عاقِبَتُهُ أسْوَأُ عاقِبَةً، ومِنهم مَن يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِن ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، ولَكِنْ نَصِيبُهُ مِن الهِدايَةِ إلى المَقْصُودِ ضَعِيفٌ جِدًّا، كَحالِ كَثِيرٍ مِن العِبادِ والزُّهَّادِ الَّذِينَ قَلَّ عِلْمُهم بِحَقائِقِ ما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم مِن الهُدى ودِينِ الحَقِّ….ولِلَّهِ سُبْحانَهُ عَلى كُلِّ أحَدٍ عُبُودِيَّةٌ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ، سِوى العُبُودِيَّةِ العامَّةِ الَّتِي سَوَّى بَيْنَ عِبادِهِ فِيها؛ فَعَلى العالِمِ مِن عُبُودِيَّتِهِ نَشْرُ السُّنَّةِ والعِلْمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ما لَيْسَ عَلى الجاهِلِ، وعَلَيْهِ مِن عُبُودِيَّةِ الصَّبْرِ عَلى ذَلِكَ ما لَيْسَ عَلى غَيْرِهِ، وعَلى الحاكِمِ مِن عُبُودِيَّةِ إقامَةِ الحَقِّ وتَنْفِيذِهِ وإلْزامِهِ مِمَّنْ هو عَلَيْهِ بِهِ والصَّبْر عَلى ذَلِكَ والجِهاد عَلَيْهِ ما لَيْسَ عَلى المُفْتِي. وعَلى الغَنِيِّ مِن عُبُودِيَّةِ أداءِ الحُقُوقِ الَّتِي في مالِهِ ما لَيْسَ عَلى الفَقِيرِ، وعَلى القادِرِ عَلى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَن المُنْكَرِ بِيَدِهِ ولِسانِهِ ما لَيْسَ عَلى العاجِزِ عَنْهُما)؛ التفسير القيم، سورة الفاتحة.