سجود جميع الكائنات لله وخضوعها لسلطانه


سجود جميع الكائنات لله وخضوعها لسلطانه

 

إن عموم الكائنات العلوية والسلفية خاضعة لسلطان الله تعالى لا تنفك عن عبوديتها لخالقها.

 

وله تسجُد ولعظمته تذل وتخشع؛ كما قال سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18].

 

“أي: يخضع خضوعًا مطلقًا كل من في السماوات والأرض طوعًا أو كرهًا، والسجود طوعًا هو بإرادة العبادة من العقلاء المختارين، والسجود كرهًا؛ أي: بحكم الخضوع المطلق لإرادة المنشئ للكون الواحد القهار”[1].

 

وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جميعها لله تعالى وخضوعها”[2].

يوضح شيخ الإسلام مفهوم سجود الكائنات، فيقول رحمه الله:

“وَالسُّجُودُ مَقْصُودُهُ الْخُضُوعُ، وَسُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ سُجُودًا يُنَاسِبُهَا وَيَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلرَّبِّ” [3].

 

ويقول رحمه الله أيضًا: “ومعلوم أن سجود كل شيء بحسبه ليس سجود هذه المخلوقات ووضع جباهها على الأرض” [4].

 

والسجود من أعظم مشاهد كمال خضوع وذل هذه المخلوقات، وانقيادها لخالقها وبارئها سبحانه، وذلها لربوبيته وعظيم سلطانه.

 

ويوضح البقاعي (ت: 885)معنى السجود أيضًا، فيقول رحمه الله: “يسجد له؛ أي: يخضع منقادًا لأمره مسخرًا لما يريد منه تسخير من هو في غاية الاجتهاد في العبادة والإخلاص فيها”[5].

 

والحقيقة الثابتة كما قرر أئمة التفسير كابن جرير الطبري وابن كثير، وغيرهما من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم – أن الكائنات تسجد سجودًا حقيقيًّا علَّمها ربُّها إياه، وهو يعلمه منها على وجه يليق بها ويناسبها، والبقاعي أول السجود هنا إلى الخضوع نافيًا سجودها مؤولًا له ببعض معانيه وهو الخضوع، والبقاعي مع جلالة قدره له تأويلات لصفات الرب جل في علاه، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: نفيه للحرف والصوت في كلام الرب جل في علاه، وقد أجمع السلف على أن الله تعالى تكلَّم بحرف وصوت، فقال في نظم الدرر:

“والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة، هو الصفة الأزلية من غير صوت ولا حرف، ولا بعد في ذلك كما لا بعد رؤية ذاته سبحانه، وهي ليست بجسم ولا عرض ولا جوهر، و(ليس كمثله شيء)[6].

 

ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله-: “وهو سجود الذل والقهر والخضوع، فكل أحد خاضع لربوبيته ذليل لعزته مقهور تحت سلطانه تعالى” [7].

وسجود الكائنات كلها سجود حقيقي، وهو سجود ذل وخضوع وخوف من خالقها وبارئها سبحانه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل: 49-50].

 

وتأمل قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ *يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:48-50].

ثم تأمَّل قوله سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].

حتى الشمس تسجد تحت العرش خاضعة لسلطان خالقها؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 38 – 40].

 

ثبت عند البخاري من حديث أَبِي ذَر الغفاري رضي الله عنه قال: كنتُ معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجدِ عِندَ غُروبِ الشمسِ، فقال: “يا أبا ذَرٍّ، أتَدري أينَ تغرُبُ الشمسُ، قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: فإنها تَذهَبُ حتى تَسجُدَ تحتَ العرشِ، فذلك قولُه تعالى: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾” [8].

 

وثبت في الصحيحين من حديث أَبِي ذَر الغفاريّ رضي الله عنه أيضًا قَالَ: “سأَلتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قولِه: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا)، قال: مُستقَرُّها تحت العرش”[9].

 

“وَقد أنكر قومٌ سُجُود الشَّمْس وَهُوَ صَحِيح مُمكن، وَلَا مَانع من قدرَة الله تَعَالَى أَن يمكَّن كل شَيْء من الْحَيَوَان والجمادات أَن يسْجد لَهُ”[10].

 

فالله تعالى قد أثبت سجود الكائنات، وبيَّن سبحانه صفة سجود بعضها، وهو بفيء ظلالها ذات اليمين والشمال، ولا يتبادر للذهن إلى أنه يلزم أن يكون سجودها مثل سجود البشر على سبعة أعظم، وإذا كان الله قد أثبت لها السجود وجب الأخذ به، وعدم الحيد عنه وتأويله عن ظاهره؛ إذ إن الكائنات لها السجود اللائق بها على الوجه الذي جبلها الله عليه وأراده منها.


[1] زهرة التفسير: (9/ 4960).

[2] تفسير ابن عطية: (6/ 226).

[3] مجموع الفتاوى (1/ 45).

[4] المرجع السابق (21/ 284).

[5] نظم الدرر للبقاعي: (13:26)؛ نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المؤلف: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885هـ) الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة عدد الأجزاء: 22 .

[6] نظم الدرر في التناسب بين الآيات والسور للبقاعي: (8/ 77). وكثير من المتكلمين يعدون أهل السنة هم: الأشاعرة والماتريدية، ولذا يقول البقاعي: (والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة)، وأهل السنة يقولون أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، ويعتقدون أن القرآن كلام الله وأن الله تعالى تكلم به بحرف وصوت وسمعه جبريل، وأما الأشاعرة فقولهم في القرآن: أن ما بين الدفتين مخلوق؛ لأنه عندهم عبارة عن كلام الله تعالى؛ لأن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت، فينفوا الحرف والصوت، وقد خالفوا أهل السنة في أمور شتى مبسوطة في مظانها فلتراجع ثم الباحث.

[7] مدارج السالكين: (1/ 107).

[8] رواه البخاري من حديث أَبِي ذَر الغفاريّ رضي الله عنه، (4802).

[9] رواه البخاري من حديث أَبِي ذَر الغفاريّ رضي الله عنه، (7433)، (4803).

وفي صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: (159)، انظر شرح الحديث رقم: (6676).

[10] عمدة القاري (15/ 119).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
التأريخ الهجري (قصيدة)
خطبة: التهيؤ لرمضان