شعبان في الهدي النبوي (خطبة)
شعبان في الهدي النبوي
خطبة الحاجة:
المقدمة:
قال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3]، وقال جل جلاله: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176]، وقال الله: ﴿ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ﴾ [طه: 99].
أيها الناس، إن في ذكر القصص وبعض أحداث التاريخ عبرة وعظة ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
والتاريخ هو خزانة الأمم، وإن من أعظم أحداث التاريخ عبرةً وعظةً ما سطَّره المسلمون عبر الأجيال، وما نقله إلينا الصحابة الأخيار الأبرار الأطهار، وكذلك ما تناقله العلماء الصادقون الناصحون الصالحون من أهل الدين والصدق والعدل ممن كان لهم دور في نهضة أمتهم الإسلامية على أسس شرعية دينية تاريخية؛ حيث نقلت لنا تلك الأجيال المباركة ممن تربوا على يدي خير الرُّسُل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، رسول رب العالمين، المؤيد من السماء وهو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وأصحابه وأزواجه أجمعين، الأحداث التي جرت وحصلت في التاريخ، وخاصة في عهد خير البرية عليه الصلاة والسلام، وعاصر تلك الأحداث خير الأصحاب رضي الله عنهم.
هذه الأحداث حصلت في شهر شعبان، وأردنا أن نسرد بعض تلك الأحداث، وخاصة التي حصلت في عهد خير البشر عليه الصلاة والسلام.
عباد الله، هذه الأمة أمة (اقرأ) أمة العلم، أمة جعلها الله تعالى شاهدة على سائر الأمم، فهذه مزية لهذه الأمة المباركة؛ ولهذا ما حصل من أحداث في شهر شعبان، وخاصة في العهد النبوي، علينا نحن أمة الإسلام، أن نأخذ من تلك الأحداث العِبَر والعِظات، كي نستلهم منها ما يفيدنا في عصورنا هذه المتأخرة، وأن تنطلق هذه الأمة المباركة في حياتها من خلال منهج الله القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وكذلك ما كان عليه أولئكَ الكرام من الصحابة الأخيار رضي الله عنهم.
أيها المسلمون، من تلك الأحداث التي حصلت في شهر شعبان:
في شهر شعبان من السنة الأولى للهجرة، ولد عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، وكان مولده حدثًا مهمًّا؛ إذ كان أول مولود يُولَد للمسلمين بعد الهجرة، وكان اليهود يقولون: سحرناهم فلن يولد لهم ولد، فكان عبدالله بن الزبير أول مولود في شهر شعبان من السنة الأولى للهجرة، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وأبوه الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله عليه الصلاة والسلام صفية رضي الله عنها.
ومن الأحداث التي حصلت في شهر شعبان فرض الصيام:
حيث إنه فرض الصيام في شهر شعبان من السنة الثانية لهجرة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
وصيام رمضان المبارك ركن عظيم من أركان الإسلام، نسأل الله تعالى أن يبلغنا وإياكم صيام شهر رمضان الكريم المبارك وقيامه.
ومن الأحداث التي حصلت في شهر شعبان تحويل القِبْلة من بيت المقدس- فكَّ اللهُ أسْرَه- إلى الكعبة المشرفة حرسها الله:
حيث ترجمت حادثة تحويل القبلة كامل انقياد الصحابة الأخيار الأبرار الأطهار رضي الله عنهم، انقيادهم لأوامر الله، وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وتسليمهم المطلق للوحي الرباني، بخلاف ما نحن عليه من الإعراض، والرد والصد إلا من رحم الله.
فقد ورد في صحيح البخاري رحمه الله: “بينما الناس في مسجد قباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة في صلاته، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة المشرفة”.
وهكذا على المسلم أن يسلم للأمر الرباني، وأن يصدق في محبته لله ولرسوله بأن يكون شعاره ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].
ومن أحداث شهر شعبان حيث إنه في السنة الثالثة للهجرة تزوج رسول الله عليه الصلاة والسلام بحفصة بنت عمر أُمِّ المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها، وكان عمر الفاروق رضي الله عنه عرضها على أبي بكر الصديق، فلم يجبه؛ لأنه قد سمع أن رسول الله عليه الصلاة والسلام ذكرها، فرضي الله عن الصحابة أجمعين.
وقد كانت حفصة رضي الله عنها من السابقات إلى الإسلام، كما كانت قانتة عابدة، مكثرة من الصيام والقيام والصدقة، وهكذا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.
وعلى المرأة المسلمة في هذا العصر وفي كل عصر أن تتشبَّه بأمهات المؤمنين، العابدات القانتات الصادقات العفيفات الطاهرات رضي الله عنهن وأرضاهن.
أيها الناس، ومن أحداث شهر شعبان مولد سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه، ورضي الله عمن ترضَّى عنهما؛ حيث ولد في شعبان من السنة الرابعة للهجرة، وهو سبط رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسيد شباب أهل الجنة، وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام، يحبهما حبًّا جمًّا؛ أي الحسن والحسين رضي الله عنهما، وقتل شهيدًا رضي الله عنه.
وفي درس للشباب أن يقلبوا صفحات التاريخ، التاريخ الناصع لهذه الأمة ولشبابها، فكان ذلك الجيل جيل الصحابة الأخيار الأبرار الأطهار، جيلًا فريدًا لم ولن يتكرر، كان هَمُّ ذلك الجيل وأولئك الشباب، كان همُّهم الأكبر نصرة الدين، والحرص على متابعة سيد المرسلين، والاقتداء والاهتداء بسنة وسيرة وأخلاق رسول رب العالمين:
فتشَبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّه بالكِرام فلاحُ
|
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين.
أيها الناس، قال سبحانه وتعالى: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].
أيها المؤمنون، التاريخ مليء بالأحداث والعبر، والمقصود من ذكر هذه الأحداث والوقائع أننا أهل الإسلام نتَّعظ ونعتبر ونستلهم الدروس والعظات من ذلك، ثم بعد ذلك نتخذ الإجراءات والخطط والبرامج التي يمكن أن نستفيد منها في حياتنا، وأن تكون لنا تلك الأحداث منارات في حياتنا.
أيها المؤمنون، ومن الأحداث التي حصلت في شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة كانت غزوة بني المصطلق، وحاصل هذه الغزوة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، بلغه أن زعيم بني المصطلق يتجهز ويُحرِّض على قتال رسول الله عليه الصلاة والسلام، فسارع رسول الله عليه الصلاة والسلام، للتأكد من ذلك وأرسل رسولًا ليتحقق من خبر القوم، فكان الخبر أن بني المصطلق يتجهزون لقتال رسول الله عليه الصلاة والسلام، فسارع رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى انتداب الصحابة الأخيار الأبرار الأطهار رضي الله عنهم لمباغتة بني المصطلق، وسبقهم رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى ماء يقال له “المريسيع”.
والتقى الجيشان، وتراشقوا بالسهام، ثم حمل عليهم المسلمون حملة رجل واحد، فانتصر المسلمون، وفرَّ المشركون، وغنم رسول الله عليه الصلاة والسلام منهم غنائم كثيرة، وسبا النساء والذراري.
والدرس المهم في هذه الغزوة أن المنافقين فضحهم الله، حيث كاشفوا العداوة للرسول وأصحابه، وظهرت عداوتهم للإسلام وأهله، وهكذا النفاق والمنافقين في كل زمان وفي كل مكان، حرب على الإسلام والمسلمين، وعداء واضح للدين وأهله المتمسكين به، ووقوف مع أعداء الإسلام والمسلمين من يهود ونصارى وملاحدة وحاقدين.
فالنفاق نبتة خبيثة، وشؤم على الأمة المسلمة، ما من خير إلا وحاربوه، وما من عمل ينفع الإسلام والمسلمين إلا ووقفوا صادِّين له، وما من شر وفساد وإجرام إلا وشجَّعوه ودعموه، وما من حق إلا وحاربوه، وما من باطل إلا وروَّجوا له ودعموه ونصروه ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9] ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10].
رجوعًا إلى حادثة حدثت في غزوة بني المصطلق وعلى ماء يقال له ماء “المريسيع” اختصم أنصاري ومهاجري على الماء، فقال الأنصاري: يا للانصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فكادوا أن يقتتلوا، فعلم رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: “أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم”.
فقال زعيم النفاق والمنافقين عبدالله بن أبي بن سلول: “أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: “سمِّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”.
ووصل الخبر الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأخبر الله عن المنافقين تلك المقالة، وفضحهم الله، وبيَّن تعالى ما يحمله أهل النفاق والمنافقين من خبث وحقد وغِلٍّ على الإسلام والمسلمين، قال سبحانه: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].
أيها المؤمنون، وفي منصرف المسلمين من هذه الغزوة كان حديث الإفك، تلك الفرية العظيمة التي افتراها أهل النفاق، بقيادة المجرم الكبير عبدالله بن أبي بن سلول لعنه الله؛ حيث عمل على إشاعة الإفك على أم المؤمنين الصدِّيقة بنت الصدِّيق رضي الله عنها، واتهمها المنافقون بما برَّأها الله في القرآن الكريم.