شمس الحق سوف تشرق بإذن الله (خطبة)
شمسُ الحقِّ سوف تُشرق بإذن الله
الخطبة الأولى
الحمد لله ناصرِ المظلومين، ومنجِّي المستضعفين، الحمد لله قاصم الجبابرة والمتكبرين، ومُهلِك الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه من خلقِهِ وحبيبه، الرحمة المهداة والنعمة الْمُسداة، أرسله الله رحمةً للعالمين؛ أما بعد، أيها المؤمنون:
فأوصيكم ونفسي المقصِّرة بتقوى الله، فاتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أيها الأحِبَّة الكِرام، إن شمس الحق سوف تُشرق من جديد، وثوب العار سوف يتمزق، وأعداء الله مهما مكروا، فإن الله سيستدرجهم من حيث لا يعلمون؛ ﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [الأعراف: 183].
معاشر الموحِّدين، إني سائلكم سؤالًا، هل يبزُغ الفجر قبل الليل؟ وهل تُشرق الشمس قبل الظلام؟ إن من سنن الله الكونية ألَّا يظهر الحق إلا بعد أن تستبين ظلمة الكفر، ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ﴾ [يوسف: 110]، فلا يأتي النصر من عند الله، إلا إذا اشتدَّ البأس، وعظُم اليأس، إننا لو تأملنا القرآن الكريم، لَوجدنا في آياته ما يُبشِّر أهل الإيمان أكثرَ مما نظن، حتى لَكأنَّ كلَّ سورة في القرآن تُبشِّر بنصر الله لهذه الأمة؛ ألم يقل الله عز وجل: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [البقرة: 212]؟ ألم يقل جل وعلا: ﴿ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]؟ ألم يقل تبارك وتعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]؟ ألم يقل تقدَّس في عليائه: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 103]؟ ألم يقل الحق سبحانه: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55]؟ وأما الأحاديث فكثيرة؛ منها ما قاله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أُمَّتي سيبلُغ مُلكُها ما زُوِيَ لي منها))؛ [أخرجه مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَيبلُغَنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين؛ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام وأهله، وذُلًّا يُذِل الله به الكفر))؛ [أخرجه أحمد، صحيح].
كل يوم يزداد ظلم اليهود المعتدين، وإجرام المجرمين، سواء كان في فلسطين، أو بعض بلدان المسلمين، فكلما ازداد ظلمهم وقتلهم، وإجرامهم وفسادهم، ازداد عذابهم؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ﴾ [النحل: 88]، وقال جل وعلا: ﴿ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 19].
لقد حذر الباري جل في علاه من هذا الداء المستفْحِل؛ فقال في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا؛ فلا تظالموا))؛ [رواه مسلم].
أيها المسلمون:
لقد ساق لنا القرآن نماذجَ وأمثلةً لمن استكبروا في الأرض، وطغَوا وبغَوا، وعاثوا فيها الفساد، وكيف كانت عاقبتهم ونهايتهم؟
استمع إلى قول الحق تعالى شأنه وتقدست أسماؤه: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 6 – 14]، لنتذكر جيدًا: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14].
﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾ [الكهف: 29]، وقال: ﴿ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الإنسان: 31]، وقال: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]، وقال: ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 59]، وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ [هود: 102]، وقال: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227].
أيها الأحِبَّة الكِرام:
إن عصابة الظلم والطغيان في كل مكان وزمان، تُحسِن تقديم المبررات والأعذار، حتى يوم القيامة يظنون أنه سينجيهم تذرُّعهم بــ: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾ [الأحزاب: 67]، وأين كانت عقولكم إذًا؟ أما كنتم تقرؤون قوله تعالى: ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14، 15]؟
لكن الباري يبيِّن لنا خزيَ أولئك القوم بقوله: ﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 25].
فيا ويح أهل الظلم والفُحش والعِدا إذا أقبلت يومَ الحساب جهنَّمُ
|
عن جابر رضي الله عنه قال: ((لما رجعت مُهاجِرة الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألَا تخبروني بأعجبِ ما رأيتم في أرض الحبشة؟ فقال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينما نحن يومًا جلوسٌ إذ مرَّت عجوز من عجائزهم تحمِل على رأسها قُلَّةً من ماء، فمرَّت بفتًى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرَّت المرأة على ركبتيها وانكسرت قُلَّتُها، فلما قامت التفتت إليه، وقالت له: سوف تعلم يا غادرُ، إذا وضع الله الكرسيَّ وجَمَعَ الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، سوف تعلم ما أمري وأمرك عنده غدًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: صدقَتْ، كيف يُقدِّس الله قومًا لا يُؤخَذ من شديدهم لضعفيهم؟)).
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ فيا فوز المستغفرين!
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعد:
فيا أيها المؤمنون:
إن الإجرام والإفساد والظلم كلما زاد واستشرى، فإنه مؤذِن بزواله: ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾ [الحاقة: 11]، ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 59]، ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 14].
رحم الله ابن تيمية، فقد صاغ قاعدةً نورانية في حفظ الحضارة الإنسانية: “إن الله لَينصرُ الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويهدم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة”، وتلك سنة من سنن الله؛ ثم تلا: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 52]، فالظلم مؤذِنٌ بالزوال، والعدل طريق الخلود والبقاء، فاليهود قد وصلوا الغاية في الظلم والإجرام، والإفساد، فزوالهم بات قريبًا بإذن الله.
وليتذكر اليهود وأعوانهم قول ملك الملوك: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 42 – 46].
اللهم أصلِحْ مَن في صلاحه صلاحٌ للإسلام والمسلمين، وأهلِك مَن في هلاكه صلاحٌ للإسلام والمسلمين، ونسألك أن تُبرِمَ لهذه الأمة أمرَ رشدٍ يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمَر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، ونسألك أن تجعلنا من الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، ونسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وتتوب علينا، اللهم هَبْ لنا توفيقًا إلى الرشد، وقلوبًا تتقلب مع الحق، وألسنةً تتحلى بالصدق، ونطقًا يؤيَّد بالحُجَّة، وعزائم تقهر الهوى، اللهم أسعِدْنا بالهداية، وتولَّنا فيمن توليتَ، ولا تُضلَّنا بعد الهدى يا ذا العلا، وصلِّ على محمد وآله ومن تلا.