صراع المبادئ والمصالح


صراع المبادئ والمصالح

 

المبادئ والمصالح في صراع منذ الأزل، يعلِّق البعض الأُولَى في مكتبه، ويعمل بالثانية، وهذا التناقض بين ما ندَّعيه وما نعمله، وما نقوله وما نمارسه، وما نعلنه وما نُبْطنه، هو مرض عُضالٌ سبَّب لنا الكثير من التأخر، وحرمنا التوفيق في كثير من المجالات، والحقيقة أنه لا يوجد اختبار نستطيع أن نقوم به لنعرف أصحاب المبادئ من أصحاب المصالح، لكننا نكتشفهم من خلال الممارسة والعمل، لكن الأمر ليس سهلًا كما قد يُظن؛ لأن البعض يكون صاحب مبدأ ثم يتحول مع الزمن لصاحب مصلحة، وهذا التحول تدريجي ليس له نقطة فاصلة تدل عليه، والبعض يكون صاحب مبدأ في أمر، وصاحب مصلحة في أمر آخر، كمن يمارس المبدأ في المعاملات الأخلاقية، لكنه صاحب مصلحة في القضايا المالية، وقِسْ على ذلك، وهناك من يمارس المبدأ في الحالات الطبيعية، لكنه ينقلب على عقبيه تحت ضغوط إدارية أو في ظروف معينة، وهناك من يخلط الأوراق ويدمج المصطلحات لأجل التضليل، فيتحدث عن المبادئ والمصالح العامة والأولويات، ثم يمرر من خلالها المصالح الخاصة والشخصية، وهنا وهناك.

 

ولأننا لا نستطيع معالجة نوازع النفس وميولها وتقلباتها، وضعفها في الظروف المختلفة، فإننا نؤكد على مرتكزات أربعٍ ينبغي لكل من تقلَّد أمرًا أن يراعيها ويوليها جل اهتمامه:

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]، هذه قاعدة سيرنا في هذه الحياة، دَعَك من كل المخلوقين، لا تعمل إلا لله ولا تستعين إلا به، وسوف تعيش حينها كبيرًا وسيكون كل ما حولك صغيرًا، حينما تسير بركني العبادة والاستعانة من الله تعالى، فقد استمسكت بالعروة الوثقى التي هي أقوى سبب وأكبر مدد، وهذا كما لا يخفى على كل لبيب لا ينفي بذل الأسباب المادية؛ لحصول متطلبات الحياة في البيت والعمل، لكنه يعني أن يكون عمل القلب متعلقًا بالله عبادة واستعانة في كل أمر، وهو وحده القادر ليس فقط على جلب المطلوب، ولكن على تيسير حصوله وتعظيم أثره وزيادة البركة فيه، ولا ينبغي حينها التعويل على مخلوق تزلُّفًا أو تملُّقًا أو استجداءً.

 

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، إذا فهمت المرتكز السابق وبدأت العمل بموجبه، فسوف تخوض تحديات كبيرة مع نفسك ومع الآخرين، فليست الحياة حلوة كما يُقال، بل هي اختبار وتمحيص ليتبين الصادق من الكاذب، والتقي من الدَّعِيِّ، ستمر عليك مواقفُ تقف فيها على مفترق طرق بين المصالح والمبادئ، ولا بد لك من اختيار أحدهما، وطريق المصالح مليء بالمغريات والمكتسبات القريبة، ويؤزُّك عليه هوى النفس وضعفاء النفوس، أما طريق المبادئ فلا حاديَ فيه إلا صوت الضمير، وحِسُّ الأمانة، ومكتسباته ومعطياته غيبية غير ظاهرة إلا بنور الإيمان والتقوى؛ لذا فإن معوِّلَك – أيها الموفَّق – ومنارتك التي تهتدي بها هي الآية التي بدأنا بها هذه الفقرة.

 

﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 24]، حين تغفُل عن المرتكز السابق، وتهم بالاستجابة لنداءات النفس الأمَّارة بالسوء، وتستهويك مغريات طريق المصالح، فتذكر هذه الآية، لا تظن أنك خِلْوٌ من التَّبِعات، وأنك إن أفلتَّ من عين رقيب الدنيا، ستفلت من عين رقيب الآخرة، تذكَّر هذا الوقوف وهذا السؤال، وسيكون موقظًا لك من غفلتك، ورادعًا لك عن التمادي في السير نحو حتفك.

 

﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36]، استصحب هذه الآية طوال سيرك في معتركات المصالح والمبادئ، اجعلها كهفًا تأوي إليه كلما أبانت الأيام عن وجهها الكالح، تدبرها كلما رأيت أنك تسير وحدك والعالم من يحولك يعُبُّ من مصالحه، ويصعد في سلالم الترقيات والمكافآت، والهِبات والأُعطيات؛ لأنه حابى هذا، وجامل هذا، وطوع النظام ليفعل ما لا يُرام، لا تقلق وأنت تأوي إلى ركن شديد، وتذكر أن السجود همس خفيٌّ يدُكُّ صعوبات الحياة.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
البركة عند السلف الصالح (خطبة)
وقت صلاة الوتر