صور في المسجد


صور في المسجد

 

رأيته وهو يدلِفُ عَتَبَةَ المسجد الكبير وسط المدينة، أفرَغ ما في أنفه من مخاط في منديل ورقيٍّ، وألقاه غير بعيد عن العتبة، داسته أقدامٌ، والتصق بنعل أحدهم، وأدخله إلى داخل المسجد دون أن يدري به، أدخل النعل في كيس ليضعه في رفٍّ مخصص للأحذية التي لا تَسْلَم من سرقات أحد اللصوص، ممن تعوَّدوا سرقة النِّعال التي تبقى على عتبة المسجد، حتى النعال في الداخل تخشى على نفسها انسلال يدٍ يستوي الحلال عندها والحرام، سقط المنديل على البساط دون أن تلحَظَهُ العيون، مخاط الرجل، صوت الإفراغ، شيء مقزز حقًّا، لم أشأ أن يبقى المنديل هناك، فلربما داسه أحدهم من جديد، أو سجد على مقربة منه، أخرجتُ من جيب سترتي منديلًا، غطَّيتُ المنديل الملقى على الأرض، وحملته بخفَّةٍ إلى سلة للمهملات في زاوية منعزلة من المسجد، حينها أيقنت أن الصلاة ما علَّمت هذا الرجل البائس أن الطهارة لا تكون في الثوب والبدن فحسب، وإنما تتعداها إلى كل شيء في الحياة.

 

رأيته وهو يركع ويسجد نقرًا كنقر الغراب، لا القيام فيه استواء، ولا السجود فيه انحناء، لا يكاد يكمل تسبيحة حتى يقيم جسده على عَجَلٍ ليعود إلى متجره سريعًا، فدنوت منه باسمًا أنصحه بالاعتدال في صلاته، فامتعض وقطب جبينه، ونهرني نهرَ زاجرٍ، فذابت بسمتي في دوامة نَهْرِهِ، وغرقت كلماتي في بحر امتعاضه، فأدركت أن التجارة وحبَّ الدنيا غلب عقله، واستعمر وجدانه، وما صلاته إلا كالكثيرين؛ عادةٌ أُلِفَت، وطقسٌ اعتادته نفوسهم.

 

رأيته يتجاذب أطرافَ حديثٍ مع رجلين، والأصوات ترتفع دون اعتبار لحرمة المكان، الْتَفَتُّ نحوهم، فرأيتُ عيونًا فرغت من تحية المسجد، وأخرى كانت تتلو ما تيسر من القرآن؛ علَّها تنتبه من غفلتها، وتخشع في هيبة المكان، فالوقت ليس لتبادل الأحاديث الفارغة، فقد علِمنا أن ما بين الأذان وإقامة الصلاة يحصِّل المرء أجرَ الانتظار، وهو زمن فراغ يطيب فيه اللسان بذكر الله، ويلين فيه القلب، فقُمتُ من مكاني، ودنوتُ منهم ملتمسًا منهم عدم رفع الصوت، فانتفض أحدهم كلَيثٍ جريح، وأمَرني بالانصراف، وأردف آخرُ وقد لوَّح جهتي بعكاز كان وراء ظهره آمرًا إياي بعدم حشر نفسي في حوار الكبار، فأيقنت أن هؤلاء ما علَّمتهم سنون من الصلاة كيفيةَ التأدب في بيت الله، ولا مخاطبة الآخرين برفق.

 

رأيته يُسرِعُ خَطْوَه نحو المسجد، وكان الإمام قد شرع في القراءة، وصدر الرجل يعلو ويهبط، يريد أن يدرك الركعة، لكأنما إعادتها تُثْقِل كاهله، فأخبرته بعد فراغنا أن يسير إلى المسجد وعليه سَكينة تَغْشَاه، فما أدركه من صلاة أدَّاه، وما لم يدركه أتى به، فنظر بعينين تطايَرَ الشَّرَر منهما، حتى خِلْتُ أنه فاتك بي لا محالة، فتنحَّيتُ عنه؛ لأني أدركت أن مثله لا ينتصح، مثلما أدركت أن الصلاة ما علمته أن الدين النصيحة.

 

رأيته والحنق علا ملمح وجهه، وهو يزجر صبيًّا وينحيه من جنبه بغير رفق ولين، فنفر الصبي من المكان، وارتعب من الشيخ العابس الذي ما زال بإشارة اليد يأمر الصبيَّ أن يتراجع إلى الخلف ليأخذ موضعًا في صفٍّ بعيد عنه، فعلمت أن هذا الشيخ ما علمته صلاته أن صنيعه هذا قد ينفر الصبي من القدوم للمسجد، فترتسم في ذهنه صورة مستقبحة عن المصلين، فينقطع كلية عن أداء الصلاة.

 

رأيته وهو يزجر متسولًا حذاء العتبة، ويأمره أن يبتعد عن المكان؛ لأن المصلين ما زالوا في الداخل بين مسبوق يؤدي ما فاته، وبين مصلٍّ لم يدرك الجماعة، فطأطأ المتسول رأسَه ولبَّى مبتعدًا، وبعض الأكف تمد له العطاء، فيشكرها ويدعو لها بالخير، بينما من زجره ما مدَّ له درهمًا، فخال أن فعله بالزجر أرقى من نفقة ولو يسيرة، فأدركت أن صلاته ما علمته أن نَهْرَ السائل منهيٌّ عنه؛ وكأني به لم يقرأ قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ [الضحى: 10].

 

رأيته – وكانت العشر الأواخر – وهو يدس نواةَ تمرٍ تحت بساط المسجد حتى تجمَّع نوى كثيرٌ، فتوجهت نحوه ألتمس منه بلين ألَّا يضع النوى تحت البسط؛ ففيها أذية للناس والمسجد، فانتفض في وجهي غاضبًا وقال: أنت من تظن نفسك قيِّمًا على المسجد؟ ألم تسمع عن حديث النبي عليه السلام: ((من حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))؛ [رواه الترمذي]، فنظرت إليه متعجبًا وقلت في نفسي: كيف لرجل يحفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ألَّا يعرف أن ديننا دينُ طُهْرٍ ونظافة ونقاء، فقلت وقد افترَّ ثغري باسمًا في وجهه: صدق رسول الله، أحسنت بارك الله فيك؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرًا فلْيُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))؛ [رواه مسلم]، وأنا رأيت منكرًا حزَّ في نفسي؛ إذ وضعك للنوى تحت البسط أمرٌ منافٍ للأدب في المسجد، فالأولَى أن يُوضَع في سلة هناك؛ حفظًا لنقاء المسجد ونظافته، فهَمَمْتُ بجمع النوى، فأمسك الرجل كفِّي، وحلف وأغْلَظَ اليمين ألَّا أفعل؛ لأنه من أخطأ فوجب عليه أن يصلح ما أفسد، فلبَّيتُ رغبته وشكرني على النصح، فأدركت أن بين المصلين أناسًا هذَّبتهم الصلاة، وليَّنت جوانبهم، ورقَّقت حواشيهم، فصَفَتْ خواطرهم، وزكت نفوسهم، فلا تحتاج إلا إلى تشذيب بين الفينة والأخرى؛ لتبرعم وتزهر فيفوح منها شذى الإسلام عبقًا في كل ناحية، فاطمأن قلبي، وسكنت جوارحي، فتناسيتُ ما كان من أمر أولئك الذين انتفضوا في وجهي، أو رفضوا نصحي، فأدركت أن بذرة الخير في نفوسهم كائنة تحتاج إلى سُقيا خيرٍ، فتنفلق وتُنبت، فتخصب جمالًا من الأخلاق يتلاءم مع العبادة؛ ليكتمل الوجهان معًا في صفحات الحياة.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
خطبة بداية العام