{ضربت عليهم الذلة}
﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ [آل عمران: 112]
﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112].
﴿ ضُرِبَتْ ﴾ [آل عمران: 112] لم يبيِّن الضارب، ولكنه معلوم وهو «الله» عز وجل، فأبهمه للعلم به؛ كقوله تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، مع أن الله هو الذي خلقه، ولكن من طريقة القرآن أن الأشياء غير المرغوبة يعبِّر الله عنها بصيغة الفعل المبني للمجهول، بخلاف الأشياء المرغوبة فيُعبِّر عنها باسم الفاعل؛ كقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [الجن: 10].
فالذي ضربها هو الله عز وجل، وسمَّى ذلك ضربًا كالضرب على النقود الذي يبقى منطبعًا لا يزول بمسح الأيدي، فكأن هذه الذلة مطبوعة عليهم لا يمكن أن تتغير.
وقيل: هي جملة بيانية لذكر حالٍ شديدٍ من شقائهم في الدنيا، ومعنى ضرب الذلة: اتصالها بهم وإحاطتها، ففيه استعارة مكنية شُبِّهت الذلة، وهي أمر معقول، بقُبَّة أو خيمة شمِلتهم، وشُبِّه اتصالها وثباتها بضرب القُبَّة وشدة أطنابها.
﴿ عَلَيْهِمُ ﴾ [آل عمران: 112] اليهود والنصارى ﴿ الذِّلَّةُ ﴾ [آل عمران: 112] الذلة هنا بمعنى الإهانة؛ أي: إن الله تعالى أهانهم، وهي تختلف عن الذل؛ لأنها تدل على ذلة معينة مخصوصة، فهذه الذلة – والعياذ بالله – لا تخرج من قلوبهم.
أي: أحاطت بهم الذلة كما يُحيط السُّرادق بمن فيه، وكما تحيط القبة بما في داخلها، فهم في نشاطهم وحركتهم في ذِلَّةٍ، لا ينتقلون من ذُلٍّ إلا إلى ذُلٍّ.
﴿ أَيْنَ مَا ﴾ [آل عمران: 112] ظرف مكان تدل أيضًا على عموم الأمكنة، ويؤكد عمومها «ما» الزائدة.
﴿ ثُقِفُوا ﴾ [آل عمران: 112] وُجِدوا، وأينما كانوا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ [البقرة: 191]؛ يعني حيث وجدتموهم.
فأينما وُجِدوا جماعاتٍ ووحدانًا، فجماعاتهم في ذلة، وآحادهم في جُبْنٍ؛ ذلك بأنهم فقدوا الإيمان بالله، والاعتزاز بعزَّتِهِ، فاعتمدوا على عزَّةٍ من الناس، ومن اعتمد على أن يستمدَّ عزته من غير الله، فهو الذليل، فأولئك الذين فقدوا الإذعان لأحكام الله تعالى قد استعانوا بغير الله، فحقَّت عليهم كلمة الذِّلَّة.
﴿ إِلَّا ﴾ [آل عمران: 112] استثناء منقطع ليس من الأول؛ لأن الذِّلَّةَ لا تفارقهم، لكن اعتصامهم بحبلٍ من الله، وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسْرِ، وسَبْيِ الذَّراري واستئصال أموالهم.
وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل؛ قال: “وهو استثناء من أعم عام الأحوال”، والمعنى: ضُرِبت عليهم الذلة في عامة الأحوال، إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس؛ يعني: ذمة الله وذمة المسلمين؛ أي لا عزَّ لهم قط إلا هذه الواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لِما قبِلوه من الجزية.
﴿ بِحَبْلٍ ﴾ [آل عمران: 112] بسبب ﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 112]؛ أي: بعهد وبذمَّة؛ يعني أن يكونوا من أهل الذمة، وذلك أن الإسلام يحمي أهل الذمة ويدافع عنهم، ولهذا يجب علينا بالنسبة لأهل الذمة حمايتهم ممن يعتدي عليهم في مال أو دمٍ أو عِرْضٍ؛ لأنهم تحت رعايتنا وهم يبذلون لنا الجزية ما لم ينقضوا الذمة، فإن نقضوا الذمة فإنهم يعودون كالحربيين، يُقتَلون لانتقاض عهدهم.
والحبل معناه في أصل اللغة: ما يربِط بين شيئين، ويُطلَق على العهد، وقد فسَّره جمهور المفسرين هنا بهذا المعنى؛ وهو «العهد»، فالمعنى: لا تُرفَع الذلة عن هؤلاء اليهود إلا بعهدٍ من الله تعالى، وذلك العهد هو «عقد الجزية» الذي يربط بينهم وبين المسلمين، فهو حبل من الله تعالى يصِلُهم بأهل الإيمان إذ هي بأمر الله تعالى، والوفاء بها وفاء بعهد الله ورسوله؛ إذ يقول سبحانه: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: 91].
فالجزية حبلٌ يربطهم بالمؤمنين؛ إذ يكونون بهذا العهد بين المسلمين، تُرعى حقوقهم، وتُحفظ أموالهم ودماؤهم، ويكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم.
وهذا تفسير حسن، وهو مشتق من قواعد الإسلام ذاتها، وأحكامه المقرَّرة الثابتة، ولكن يُلاحَظ أن الله سبحانه قرَّر في الاستثناء أن حبل العزة هو حبل من الناس، ولم يذكر أنه حبل من المؤمنين؛ بل قال:
﴿ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 112]؛ أي: أمان منهم ولهم؛ ولذلك يصحُّ أن يفسره بما هو أعمُّ من الجزية، فإن حبلَ الناس أوسع من معنى الجزية، وإن ذلك يُفسِّره بعض الوقائع التي تجري في العصور الأخيرة، فقد كانت لهم عزَّة وقتية بسبب اتصالهم ببعض الناس، وتخاذل المسلمين عن الأخذ بحكم الكتاب والسُّنَّة والهدي الإسلامي.
ومعلوم أنه إذا صلح اللفظ للعموم، فإن الأولَى أن يبقى على عمومه، فيكون المراد بالحبل من الناس؛ أي مساعدة منهم وحماية، كالعهد والأمان، والنصرة والولاية، وما أشبهها.
والعهد: هو الذي يجري بين المسلمين وبين الكفار، فيحصل بينهم عهد ألَّا يعتديَ أحدٌ على أحدٍ، وأن تبقى هُدنة كما حصل في غزوة الحديبية، وهو لا يكون إلا بين أهل الحلِّ والعقد؛ يعني: بين الإمام أو قائد الجيش، أو ما أشبه ذلك.
أما الأمان: فهو أن يدخل رجلٌ من المشركين، أو من اليهود والنصارى بأمانٍ من أحدٍ من المسلمين يُؤمِّنه، وهو يصحُّ من كل واحد من المسلمين؛ لحديث أم هانئ بنت أبي طالب تقول: ((ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستُره، قالت: فسلَّمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبًا بأم هانئ، فلما فرغ من غُسله، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفًا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه قاتلٌ رجلًا قد أجَرْتُه، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجَرْنا مَن أجَرْتِ يا أم هانئ، قالت أم هانئ: وذاك ضُحًى))؛ [البخاري].
• وفيه أن الناس قد ينصُر بعضهم بعضًا بالباطل، وهذا الواقع المحسوس أن مِنَ الناس مَن ينصر غيره بالباطل؛ لأن الناس ليسوا كلهم أهلَ عدلٍ، بل فيهم أهل الجَور وأهل العدوان الذين يساعدون أهل العدوان.
﴿ وَبَاءُوا ﴾ [آل عمران: 112]؛ أي: رجعوا، وأصله في اللغة أنه لزِمهم؛ أي: ألزموا؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ﴾ [الحشر: 9] أي: سكنوها، فهذه المادة (الباء، والألف والهمزة) تدل على الرجوع والاستقرار، والمعنى أنهم رجعوا بغضب من الله؛ أي: مصطحبين للغضب.
﴿ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 112] مستوجِبين غضبًا من الله، وهم يستحقونه، والتنكير للتفخيم والتهويل، و«من» للابتداء متعلقة بمحذوف وقع صفةً لغضب، مؤكدةً لِما أفاده التنكير من الفخامة والهول؛ أي: كائن وصادر من الله عز وجل.
• والغضب: صفة انفعالية لا فعلية، والفرق بين الانفعالي والفعلي أن الفعلي يكون باختيار الإنسان وبالجوارح الظاهرة كالبطش مثلًا، والانفعالي يكون بغير اختيار الإنسان وهو من القوى الباطنة؛ ولهذا تأتي للإنسان بغير اختياره، يستثيره أحد من الناس فيغضب، ويحمرُّ وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويقف شعره وربما يقتل من أمامه، وربما يُطلِّق نساءه، وربما ينتحر أيضًا، نسأل الله العافية.
وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألَا وإن الغضب جمرةٌ في قلب ابن آدم، أمَا رأيتم إلى حُمْرَةِ عينيه وانتفاخ أوداجه؟))؛ [الترمذي].
هذا بالنسبة لغضب الإنسان الآدمي البشر، أما غضب الله عز وجل فهو صفة من صفاته التي يجب إثباتها له على الوجه اللائق به جل وعلا، فهو سبحانه وتعالى يغضب، ويرضى ويسخط، ويكره ويحب، وكل هذه الصفات ثابتة لله تعالى على الوجه الذي يليق به جل وعلا.
• وهذه الآية مما يؤيد القول بأن المراد بقوله: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ [آل عمران: 112] اليهود؛ لأنهم هم المغضوب عليهم.
وربما يقول قائل: إنها أعم من أن يكون الغضب صادرًا من الله، بل بغضبٍ من تقدير الله، وعلى هذا تكون «من» للسببية، ويكون المراد بالغضب غضب الله وغضب غيره، وهذا هو السرُّ في قوله: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، ولم يقل: (غير الذين غضِبتَ عليهم)؛ لأن هؤلاء مغضوب عليهم من قِبَلِ الله، ومن قِبَلِ أولياء الله.
﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ [آل عمران: 112] الفَقْرُ، مشتقة من اسم المسكين وهو الفقير، ولعل اشتقاقه من السكون وهو سكون رمزيٌّ، أُطلِق على قلة الحيلة في العيش.
أي: أُلزِموا المسكنة قدرًا وشرعًا، فالله تعالى قدَّر عليهم الإذلال بسبب كفرهم وفسادهم، وحكم به عليهم شرعًا بما ضربه عليهم من الجزية.
والْمَسْكَنَةُ ضعفٌ نفسي، وصَغارٌ ينال القلب، فيستصغر الشخص نفسَه، ويُحِسُّ بهوانها مهما تكن لديه أسباب القوة متوافرة متضافرة، والفرق بينها وبين الذلة أن الذلة هوانٌ تجيء أسبابه من الخارج بأن يكون بفرض من قويٍّ، أو يكون نتيجة انهزام حربي، أما المسكنة فهي هوان ينشأ من النفس لعدم إيمانها بالحق، واتباعها للمادة، وإنَّ توارُثَ الذِّلَّة قرونًا طويلة يُورِث هذه المسكنةَ.
فبَواء اليهود والنصارى بغضب الله، وضَرْبُ المسكنة عليهم، لا استثناء فيه، بل هو أمر مستمر إلى يوم القيامة ما داموا على حالهم، ولا يغرنَّك ما عند النصارى وتقلبهم في البلاد، بل انظر إليهم إن أصابت فريقًا منهم هزيمةٌ، فإنهم يخرُّون للأذقان يبكون صاغرين، مما يدل على أن المسكنة في طبيعتهم؛ إذ عزَّةُ الحق قد فارقتهم.
وقيل: المسكنة هي الفقر، فهم أذلاء ليس عندهم شجاعة، فقراء ليس عندهم غِنًى، ولكن يجب أن نعلم أن الغِنى ليس كثرة العَرَضِ، إنما الغِنى غِنى النفس والقلب، فهؤلاء قد ضُربت عليهم المسكنة فهم دائمًا في فقرٍ، حتى لو حصل الإنسان منهم ملايين الملايين فهم في فقر؛ ولذلك حتى الآن نجد أن اليهود أحرصُ الناس على المال، وأنهم لا يمكن أن يبذلوا فلسًا إلا وهم يؤملون أن يحصلوا درهمًا، ولا يبذلون درهمًا إلا ويؤملون أن يحصلوا دينارًا، وهذه حالهم، ومن ثَمَّ صاروا من أغنياء العالم، إن لم نَقُلْ: هم أغنى أغنياء العالم، لكنهم أغنى العالم بكثرة العرض لا بالقلب والنفس، فهم أشد الناس فقرًا.
• والذلة التي ضربها الله على اليهود تشمل الذلة القدرية التي قدَّرها الله عليهم، والذلة الشرعية، بمعنى أن الله تعالى أمرنا بإذلالهم، بضرب الجزية عليهم.
قال الطبري رحمه الله: “«الذلة» هي الصَّغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين ألَّا يعطوهم أمانًا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله، إلا أن يبذلوا الجزية عليهم لهم.
وقال رحمه الله: أخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلًّا، وبالنعمة بؤسًا، وبالرضا عنهم غضبًا؛ جزاءً منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداءً وظلمًا منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافًا عليه”؛ [انتهى].
ومن هذا الباب قول تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأعراف: 167].
ويُقال: إن موسى عليه السلام ضرب عليهم الخراج سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج، ثم كانوا في قهر الملوك، من اليونانيين، والكشدانيين، والكلدانيين، ثم صاروا في قهر النصارى، وإذلالهم إياهم، وأخذهم منهم الجزية والخراج، ثم جاء الإسلام، ومحمدٌ عليه أفضل الصلاة والسلام، فكانوا تحت صغاره، وذمته، يؤدُّون الخراج، والجزية؛ [انتهى].
هذا هو واقع اليهود على مرِّ الأزمان، وحتى في هذا العصر الحديث لا تجد لهم محبة، ولا قبولًا في الأرض، وما مذابح الأوربيين لهم في أوروبا ببعيد، وهم يؤمنون بذلك، ولذلك لا يعيشون إلا منعزلين منطوين، أو أذلاء يَسْتَجْدُون النصرة من دول الكفر، والمنظمات الدولية.
قال ابن القيم رحمه الله في وصف اليهود: “فالأمة الغضبية هم اليهود، أهل الكذب، والبهت، والغدر، والمكر، والحيل، قَتَلَةُ الأنبياء، وأكَلَةُ السحت وهو الربا، والرشوة، أخبث الأمم طوِيَّة، وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، عادتُهم البغضاء، ودَيدَنُهم العداوة والشحناء، بيت السِّحر، والكذب، والحيل، لا يرَون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حُرْمَةً، ولا يرقُبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، ولا لمن وافقهم حقٌّ ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل، ولا نَصَفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة، ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة، بل أخبثُهم أعقلُهم، وأحذقهم أغشُّهم، وسليم الناصية – وحاشاه أن يوجد بينهم – ليس بيهودي على الحقيقة، أضيق الخلق صدورًا، وأظلمهم بيوتًا، وأنتنهم أفنيةً، وأوحشهم سجيةً، تحيَّتُهم لعنة، ولقاؤهم طِيَرة، شعارهم الغضب، ودِثارهم المقت”؛ [انتهى].
وهذه صفات اتفق عليها القاصي والداني، والقريب والبعيد؛ ولذلك لُوحِقوا، وطُورِدوا، على مرِّ الزمان، وحتى في هذا العصر لا ينعَمون بالأمان حتى في دولتهم المزعومة.
أما ما يراه البعض من وجود الغنى والعز لليهود في زماننا هذا، فهو لا يخالف معنى الآية، وبيان ذلك من وجهين مجملين:
1- ضَرْبُ الذلة والمسكنة على اليهود لازم لا يتخلَّف، وقد استثنى الله تعالى في «الذلة» لا المسكنة بقوله: ﴿ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 112]، فما تراه هو من هذا، وأما بمجردهم، فهم أحقر من أن يكون لهم عزٌّ ونصر؛ ولذلك لا يُعرَف لهم انتصار في معركة دخلوها وحدهم، ولا يزالون في حاجة إلى الشرق والغرب لتثبيت دولتهم، فإما مددهم من الله ليذِلَّ بهم من تركوا دينه، أو حبل من الناس: عهد وميثاق مع المؤمنين، أو تحالف مع دول الكفر لنصرتهم وتأييدهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب، فهذا لا يُعرَف، بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]، فاليهود من حين ضُرِبت عليهم الذلة أينما ثُقِفوا إلا بحبل من الله، وحبل من الناس، لم يكونوا بمجردهم ينتصرون، لا على العرب، ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضُرِبت عليهم من حين بُعِثَ المسيح عليه السلام فكذَّبوه؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آل عمران: 55]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14].
وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله: والمعنى: لا يسلمون من الذِّلَّة، إلا إذا تلبَّسوا بعهد من الله؛ أي: ذمة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائلَ أولي بأس شديد، وأما هم في أنفسهم، فلا نصر لهم، وهذا من دلائل النبوة؛ فإن اليهود كانوا أعزة بيثربَ، وخيبرَ، والنَّضِير، وقُريظة، فأصبحوا أذِلَّة، وعمتهم المذلة في سائر أقطار الدنيا.
2- أن «المسكنة» ليست هي «الفقر»، بل لعلهم أغنى الناس، لكن المسكنة التي ضربها الله عليهم هي إظهار فقرهم، وبخلهم بما في أيديهم؛ وقد أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه: ((ليس الغِنى عن كثرة العَرَضِ، ولكن الغِنى غِنى النفس))؛ [البخاري ومسلم]، وأنَّى لهؤلاء هذا الغِنى؟!
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ [البقرة: 61] خبرٌ من الله عن بني إسرائيل أنه ضُرِبت عليهم الذلة والمسكنة، «الذلة» هذه في الشجاعة، أذلة، لا يقابلون عدوًّا؛ قال الله تعالى: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ﴾ [الحشر: 14].
و«المسكنة» يعود إلى الفقر، فليس عندهم شجاعة، وليس عندهم غِنًى، لا كرمًا بالمال، ولا كرمًا بالنفس؛ لأن الشجاعة كرمٌ بالنفس، يجود الإنسان بنفسه لإعلاء كلمة الله، والكرم جُود بالمال، ثم – والعياذ بالله – ما حصل لهم هذا، ولا هذا، بل العكس ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ [آل عمران: 112]، فلا شجاعة عندهم، ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ [آل عمران: 112]، فلا جود عندهم، ولهذا لا يوجد أُمَّةٌ أفقرُ من اليهود، ولا أبخل؛ أي: لا أفقر قلبًا منهم، وليس مالًا، وإلا فأموالهم كثيرة.
• فهذه الذلة – والعياذ بالله – عليهم مضروبة، وكذلك المسكنة، فإذا قال قائل: الواقع خلاف هذا الأمر، قلنا: لا يمكن أن يكون الواقع مخالفًا لكلام الله ورسوله، وإنما الخطأ في الفهم، والتصور، أما كلام الله فلا يختلف، فنقول:
هذه الآية مطلقة؛ أي: قوله تعالى: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 61]، وفي قوله تعالى في آل عمران: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 112] يُقيِّد هذه الآية، ويصير المعنى: “ضربت الذلة والمسكنة إلا بحبل من الله وحبل من الناس”، فإذا وصلهم الله تعالى، أو وصلهم الناس، فإنهم تزول عنهم الذلة، ويكون معهم شجاعة وقوة.
• الحبل من الله ما هو؟ قيل: إنه الإسلام، والحبل من الناس: أن يمدهم الناس غير اليهود بما يمدونهم به، فاليهود الموجودون الآن في حبل من الناس يمدهم، وهم النصارى في كل مكان، يمدونهم؛ لأن الله يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [المائدة: 51]، وهذا خبرٌ، والخبر من الله لا يُخلَف، النصارى تمدهم من جميع أقطار الدنيا، إما علنًا وإما سرًّا، وإما مباشرًا أو غير مباشر.
الحبل من الله قلنا: إنه الإسلام – على ما ذكره كثير من أهل العلم – ويحتمل أنه أعم من الإسلام؛ لأنهم إذا أسلموا، زال عنهم وصف اليهودية، وصاروا من المسلمين، لكن عندي أن الحبل من الله: أنَّ الله قد يسلطهم على غيرهم؛ عقوبةً لهم، قد يسلطون على غيرهم، وتكون لهم الغَلَبَةُ، عقوبة على الآخرين؛ لعلهم يرجعون إلى الله عز وجل، لا سيما إذا كانوا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وعَصَوا وأبعدوا عن هذه الملة، فإن الله عز وجل يسلِّط عليهم من شاء من خلقه لعلهم يرجعون، وهذا الأمر هو الواقع، لو نظرنا إلى الذين جعلوا أنفسهم في مسير هؤلاء اليهود – وهم العرب – لَوجدنا أكثرهم ضالين – ولا سيما ذوي القيادات منهم – منحرفين عن الحق، بل ربما يصل أمر بعضهم إلى الكفر والعياذ بالله؛ فلذلك يسلَّط عليهم هؤلاء، ويحصل ما يحصل.
﴿ ذَلِكَ ﴾ [آل عمران: 112] إشارة إلى ما ذكر من ضَرْبِ الذلة والمسكنة عليهم، والبوء بالغضب العظيم.
﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ [آل عمران: 112] معناها السببية؛ أي ذلك بسبب أنهم ﴿ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 112]، جمع آية؛ وهي: العلامة على الشيء التي إذا وُجدت، كان الشيء موجودًا لأنها علامته؛ كالضوء مثلًا آية بزوغ الشمس.
﴿ اللَّهِ ﴾ أي: بسبب أنهم كانوا يكفرون بآيات الله؛ أي بأمارات الحق وأدلته التي يُقيمها الله سبحانه وتعالى عليهم في كتبه وخلقه، وعلى ألسنة رسله، وأنهم لا يكتفون بجحود الحق بعد قيام البينات عليه، وإنما حملهم على ذلك الكِبْرُ، والبغيُ، والحسد.
﴿ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ [آل عمران: 112] هذه الصفة ليست قيدًا، ولكنها كشف وإيضاح، لو قلنا: إنها قَيدٌ لزِم من ذلك أن ينقسم قتل الأنبياء إلى قسمين، قسم بحقٍّ، وقسم بغير حق، وهذا لا يكون؛ لأن قتل الأنبياء كله يكون بغير حق.
ولو قلنا: إنها للإيضاح والكشف، صار المعنى يختلف، فلا تكون قيدًا، بل تكون لبيان الواقع؛ أي إن قَتْلَ الأنبياء بغير حق، فيكون المقصود بذلك شدة التوبيخ لهؤلاء، وأنهم يقتلون أشرف الخَلْقِ بغير حق.
والحكمة في ذكر هذا أنهم لم يكن في اعتدائهم لهم أية شبهة حقٍّ، ولذا نكَّر كلمة “حق”.
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: “كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيٍّ، ثم يقوم سوق بقلهم في آخر النهار”.
وإسناد القتل إليهم مع أنه فِعْلُ أسلافهم؛ لرضاهم به، كما أن التحريف مع كونه من أفعال أحبارهم يُنسَب إلى كل من يسير بسيرتهم.
﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]؛ أي: إنما حملهم على الكفر بآيات الله، وقتل رسل الله، وقُيِّضوا لذلك، أنهم كانوا يُكثِرون العصيان لأوامر الله عز وجل، والغشيان لمعاصي الله، والاعتداء في شرع الله.
فارتكاسهم في المعاصي، وتعوُّدهم الاعتداء على الناس، جَعَلَ المعاصي تنكُت نكتًا سوداء في القلب، فإذا استمر الشخص عليها، وُضِعت عليه أغلفة من الظُّلمة، تمنع أن يصل الحق إليه، فعمى القلب عن الحق وصم؛ ولذا قال تعالى: ﴿ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ﴾ [نوح: 25].