ضوابط قبول الزوج المعدد (1)


ضوابط قبول الزوج المُعدِّد (1)

 

التعدُّدُ حاجةٌ اجتماعيَّة تُؤمِّن مستقبلَ المجتمع، وتَحْمي أفرادَه من أعظم خطرٍ قد يُداهمه ويُهدِّد عنصرَي بقائِه؛ الرَّجل والمرأة، خطر الهمجيَّة الجِنسيَّة الوحشيَّة، التي تَغرق في براثنها أممٌ كثيرة اليوم، ولا تَهتدي سبيلَ النجاة مِن هذا الخطر مع مرورِ الأيام، بل تزداد غَرَقًا من حيثُ تحسب النجاةَ والخروج من دوَّامتها.

 

يقول أحد المفكرين المسلمين: “إنَّني أنظر فأرى كلَّ مشكلة اجتماعيَّة قد تحتاج إلى تدخُّلٍ مِن التشريع بالتعديلِ أو التقييد، إلا مسألة تعدُّد الزوجات، فإنَّها تحلُّ نفسَها بنفسها، ولا توجد إلاَّ حيثما كان المجتمعُ في حاجةٍ إليها، وتسمح أوضاعُه وضروراته بها.

 

إنها مسألةٌ تتحكَّم فيها الأرقام، ولا تتحكم فيها النظريات، ولا التشريعات؛ (يعني أنَّها مسألة فرَضَها الواقعُ بالأرقام، لا أنَّها خارجةٌ عن الحُكم التشريعي)، ولستُ أدري كيف جاز أنْ تلوكَها الألسن؟! ولا كيف أصبحتْ مجالاً للأخْذِ والرد والنقاش؟! إلا أن يكون الهدف الكامِن من وراء لوكها في الأفواه، وفي الصُّحُف، وفي أجهزة التوجيهِ والإعلام الأخرى – هو غَمْزَ هذا الدِّين في خُبثٍ مقصودٍ؛ تبريرًا لإقصائِه عن نِظام الحياة، ولإحلالِ نُظم أخرى رَديئة مَحلَّه بطرق ملتوية، ليستْ لها حتَّى شجاعة الكُفر الملحِد الذي أعلنَه مِن قبلُ مصطفى كمال.

 

إنَّ في كلِّ أمَّة رجالاً ونساءً، ومتى توازن عددُ الرجال الصالحين للزواج، المستعدِّين له، المُقبِلين عليه، وعدد النِّساء الصالحات للزواج، الراغبات فيه، فإنَّه يتعذَّر عمليًّا أن يحصُل رجلٌ واحد على أكثرَ مِن امرأة واحدة؛ لأنَّ الأرقام هنا هي التي تتحكَّم.

 

إنَّ معنى استطاعةِ رجلٍ ما أن يحصُلَ على امرأة أخرى، هو أنَّ هناك امرأةً زائدة لا تَجِد رَجلاً يقابلها، ويستوي أن يكونَ هذا الرجل غيرَ موجود حقيقة أو حُكمًا؛ أي: أن يكونَ عدد النساء في سِنِّ الزواج أكثرَ عدديًّا من عددِ الرِّجال في الأمَّة، أو يكون أكثرَ مِن عدد الرجال الصالحين للزواج، أو القادرين عليه مِن جميع الوجوه، أو الراغبين فيه على فرْضِ استطاعتهم له.

 

فإذا لم يَزِدْ عددُ النساء الصالحات للزواج حقيقةً أو حُكمًا على عددِ الرجال، تَعذَّر – كما قلت – أن يجد أكثرَ مِن زوجة حتى لو أراد، وحلَّت المسألةُ نفسها بنفسها عن طريقِ الأرقام”؛ ا.هـ

 

إنَّ التعدُّدَ إذًا مطلبٌ اجتماعي ضروري؛ لتتساوَى كِفَّتَا ميزان المجتمع في تلبيةِ احتياجاتهما الجسديَّة والنفسيَّة، ولا يَعْني كونه مطلبًا اجتماعيًّا على هذه الصورة أنَّ هذا غايةُ تشريعه للعباد، بحيث لا يُدفَع إليه الرِّجال إلا مِن أجل اكتفاء النِّساء، وإنْ كان وجود النِّساء الخاليات عنِ الأزواج شرطًا لازمًا في كلِّ غاية أخرى، لكنَّ هذا كلَّه لا يعني قصورَ التشريع على تلك العِلَّة؛ علة زِيادة عددِ النِّساء المتطلِّبة لتشريع التعدُّد، وسيأتي بعضُ تفصيل هذا.

 

والإسلام يتعامل مع كلِّ “حاجة” كانتْ، معاملةً واقعيَّة تمامًا، فلا يعارضها ولا يُصادِمها في المسيرة البشريَّة، وكذلك لا يُعطيها قدرًا زائدًا يُخرجها عن “حاجيتها” إلى عَبَثها بالناس في أُطر منمَّقة ومزخرَفة، تجرُّ على الناسِ ويلاتٍ أكبرَ مِن ويلات تضييعها هي أوَّلاً.

 

والله – تعالى – لا يَشْرَع لعباده شيئًا إلا ومصلحتُه خالصة، أو غالبة على مفسدتِه، ولا يَمنعهم شيئًا إلا ومفسدتُه خالِصة أو غالبة على مَصْلحته، وهو – تعالى – يَعْلم بواطنَ خلْقه، وما يُصلحهم، فهو خالقُهم، وهو فاطرُهم، ثم هو – تعالى – مدبِّر أحوالَهم.

 

ولهذا لا يتسرَّب الخللُ بأيِّ حال إلى تشريعٍ وضعَه الله – عزَّ وجلَّ – في الناس، تمامًا كما لم يتخللْ كونَه بسمواته وأرْضه، وجباله وبحارِه، وكلِّ ذرة فيه آفةٌ أو عيب، فكما أحْسن – تعالى – خَلْقَ كلِّ شيء على هذا النِّظام العجيب، فقد أحْسن تشريعاتِه وأحكامَه، بحيث لا يتطرَّق إليها عيبٌ أو نقْص، فهذا حُكمه الكوني، وذاك حُكمه الشرعي؛ ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [آل عمران: 50].

 

وإنَّما يَدخُل الخللُ ممارسةَ العباد أنفسِهم للتشريع، إما جهلاً بمواقعه أو بعضِها، وإما تحايلاً عليه، أمَّا ذات التشريع فلا؛ لأنَّه حُكم العليم الخبير.

 

وتشريع الله – تعالى – للعباد التعدُّدَ يتضمن أمورًا عديدة، لعلَّ أهمها:

أنَّ وقوعه وَفْق ما شَرَعه الله – عزَّ وجلَّ – جائزٌ وممكن، وإلا كان تشريعُ الله – تعالى – له تشريعًا عبثيًّا؛ إذ لا تتحقَّق شروطه في الناس.

 

وبهذا نُغلِق الباب أمامَ الدعوات المغرِضة، التي تزعم أنَّ الرجل -كل رجل – ليس في مقدوره العدلُ بين امرأتين، أو أنَّه لا يُغطِّي حاجاتِ أكثر مِن بيت، سواء كانت حاجاتٍ ماديَّةً أو معنوية، وأنَّ أبناء الزوج المعدِّد يُعانون ما لا يُعانيه أبناء الزوجِ غيرِ المعدِّد.

 

ومثل تلك النتائج وإنْ كانت واردة، بل وواقعية، إلا أنَّها ليستْ لازمةً ضرورة، وإلا لم يكن للتشريعِ فائدة.

 

أنَّه موافِقٌ لفِطرة الرجل والمرأة؛ لأنَّ الله – تعالى – لم يَشْرَع لنا ما يُنافي فِطَرنا، فالتعدُّد متوافقٌ مع فطرة الرجل مِن ناحية قدرتِه على الجمْع، ومِن ناحية حاجته البشرية في جمْع أكثر من امرأة إليه أحيانًا، ومتوافِق مع المرأةِ فطريًّا مِن ناحية حاجتها الدائمة للرجل، مع ورودِ اكتفاء الرجل بغيرها، ومِن ناحية عدم مخالفة حاجاتِها الجسديَّة والنفسيَّة.

 

ومِن هنا نَتبيَّن فسادَ الأقوال الرامية إلى أنَّ الإسلام ظَلَم المرأة لحساب الرجل في إباحتِه له التعددَ، فالإسلام جاء بما يُوافق فِطرة المرأة مِن حيثُ لم يخالفْ لها حاجة، بل وعمل على اكتفائِها بهذا التشريع الحكيم، فهو أكْرَمَها زيادة به.

 

فرْق ما بين ضبْط مناط التشريع وبيْن ردِّه:

إذًا الحديث عن الرَّفْضِ المطلَق للتعدُّدِ حديثٌ مرفوضٌ مردودٌ على أصحابه، وأيًّا كانتْ تعليلاته، فهو يُصادِم حُكمَ الله – عزَّ وجلَّ – فالله – عزَّ وجلَّ – لم يظلمِ المرأة ولم يُهْنِها بإباحته – تعالى – للرجل التعدُّد، ولم يَخْفَ عليه – تعالى – أخلاقُ البشر وطبائعُهم، حتى يشرعَ لهم ما لا يُطيقون وما لا يستطيعون.

 

أمَّا الحديثُ عن ضوابطِ التعدُّد وتحقيقها على أفراد قضايانا، فهو حديثٌ حسنٌ مقبول، يَتعلَّمه المؤمنون والمؤمنات؛ ليمارسوا حُكمَ الله بلا غلوٍّ أو جفاء، وحتى يَسْعدوا بأحكامِ دِينهم على أتمِّ وجه، ويتحرَّروا من تحايلِ العابثين بالدِّين.

 

ردٌّ حُكمي: وهناك ردٌّ آخَر لتشريعِ التعدُّد، وهو ردٌّ حُكميٌّ، بحيث يتخفَّى أصحابُه في ضوابطَ تعجيزيَّة وضعوها للتعدُّد؛ جريًا وراءَ أهوائهم، أو تلبيسًا من النَّفْس والشيطان عليهم، وإقناعًا لهم بأنهم موافقون لشَرْع ربهم.

 

والواجبُ على المؤمِن تفقُّدُ بواعثه، فلا يُؤتَى مِن أهوائه وهو لا يَدري، فيردُّ أحكامَ الله – تعالى – بلا بيِّنة واضِحة مِن كتابه، أو سُنَّة رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – بل يتحرَّى حُكْم الله، ويُنصفه من نفْسِه وما تهواه، وهذا شأنُ أهل الدِّيانة.

 

وللحديث تتمَّةٌ في المقال القادم – إنْ شاء الله تعالى – والحمدُ لله ربِّ العالمين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
مبايعة النبي على السمع والطاعة
World Book and Copyright Day – UNESCO