عرفات.. سحائب عطايا مرسلات


عرفات سحائب عطايا مرسلات

 

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ [سبأ: 1-2].. ﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ﴾ [فاطر: 13].

وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، عنَت الوجوه لنور وجهه، وعجَزت العقول عن إدراك كُنْهه، أشرقت لنور وجهه الظلمات، واستنارت له الأرض والسماوات، ﴿ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾[الزمر: 5].

ونشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه من خلقه وحبيبه.. رسولٌ حلَّ من رُبَى النبوَّة أعلاها فعلاها، وحمل من أعباء الرسالة إِدَّهَا فاضطلع بـها وأدَّاها، فجلى الله به عن البصائر رَيْنَهَا، وعن الأبصار عَشَاهَا.

 

صلوات ربي وسلامه على من سعت الشجر إليه، وسبَّح الحصى في يديه، وسلّم الحجرُ عليه، وانشق القمر بإشارته، وحنّ الجذع لعبارته، وأحلَّه الله من السماء سدرة منتهاها، وطيب قلبه فولّاه قبلةً يرضاها.

مَن ذا يلومُ فؤادي في صبابته
الحبُّ فيه عباداتٌ بإجماعِ
صلى الإلهُ على المعصوم ما نظمتْ
كلُّ الخلائق أوزاناً بإمتاعِ

 

ألا فصلوا عليه وسلموا؛ فإن الله عليه قد صلى، والملأ الأعلى بالصلاة عليه تحلَّى، وبعد:

 

يا أيها المسلمون، ينبغي على المسلم أن يكون بفضل هذه الأيام عارفاً، وعلى تعظيمها عاكفا، ومن فوات فضلها قلقاً خائفاً، ولمولاه مناجيا، ولجلاله لاجئا، ولمضاعفة ثوابه راجيا.

 

لقد غنِم عشرَ ذي الحجة ذوو الحجا، وجلّوا بأنوار هباته من ظلمات المعاصي ما دجى، فيا فوز من خاف ورجا، ويالسعادة من قُبِل ونجا.

اللهُ أكبرُ كم أحْيَتْ ضمائرَنا
وأنْبَتَتْ في حنايا الرّوحِ إيمانا
اللهُ أكبرُ لا ندعو بها أحداً
غيرَ الذي وَهَبَ الإنسانَ إحسانا

يا أيها المسلمون، وإذا كانت ليلةُ القدر قد تربّعت على ليالي العام، وتسنّمت ذروة سنام شهر الصيام، فإنّ يوم عرفة ملك الأيام، وتاجُ إكليل الأنام، وأعظَمُ ما يمُرُّ على الدوام، ولئن كانت ليلةُ القدر تتنقل وتتجدّد، فإن عرفة موصوف معروف ومحدّد، ولئن كانت عشرُ آخر رمضان فُضّلتْ لاشتمالها على ليلة القدر، فإن كلّ يومٍ من عشر ذي الحجة بذاته مفضل، وبالخير العميم مجلّل، وبالعمل الصالح مكلّل، فلا شبيه لها ولا مثيل، ولا عوض عنها ولا بديل.

 

 

لقد رفع المولى -جلّ جلالُه- على سائر الأيام مكانَه قدره، وعظَّم شأنَه وأمرَه، وطيّب عبَقَه وذِكرَه، وجمَّل طيَّهُ ونَشْرَه، وضاعف فيه ثوابه وأجره.

 

يقول صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»[1].

 

ومن تعظيمه له -تعالى مجدُه- أنه أقسم به، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، قال الملك الجليل: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر: 1-3]، عند أحمد من حديث جَابِرٍ: «إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ»[2].

 

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «الْعَشْرُ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِنَّ: لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالشَّفْعُ: يَوْمُ الذَّبْحِ، وَالْوَتْرُ: يَوْمُ عَرَفَةَ»[3].

 

وهو اليوم المشهود المراد من قوله -جلَّ ذِكْرُه-: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 3]، عند الترمذي وغيرِه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اليَوْمُ المَوْعُودُ: يَوْمُ القِيَامَةِ، وَاليَوْمُ المَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ: يَوْمُ الجُمُعَةِ»[4].

 

إنّه يوم الشّرَف؛ لتشريف اللهِ له، حتى عَدَّه النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا قبل العيد فقال صلى الله عليه وسلم: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ مِنًى، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ»[5].

 

فهو عيد العبادة والعُبّاد، وموعد السّالكين والقُصّاد، وموسمُ المشمّرين والرّواد، وليس يومًا لإضاعة الأوقات، في تدبير الخَرْجات والروحات.

 

وقد قيل: إنما سمي هذا اليوم يوم عرفة؛ لانتشار الرحمات، لمن تعرّف لمولاه بالطاعات.

 

عرفات، -يا أيها الأحبة-، سحائب عطايا مرسلات، ومزون هبات مجلّلات.

هباتُ يوم عرفة كأنفاس الرّياح، يَعبَقُ بالرّيحان والرّاح، ويبلسم القروح ويداوي الجراح، ويحمل شذا الغفرانِ الفوّاح، ويبشر بالمنن العظام من الكريم الوهاب الفتاح.

 

يقول صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟»[6].

 

ويقول صلى الله عليه وسلم: «وَمَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ جَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لَمْ يَرَوْا رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ أَرَ يَوْمًا أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ»[7].

 

 

قال الحافظ ابن رجب -يرحمه الله-: يوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة، ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين؛ فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدًا لجميع المسلمين، في جميع أمصارهم، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده؛ لاشتراكهم في العتق، والمغفرة يوم عرفة[8].

 

فهنيئاً لمن عظَّم ربَّه وعرفه، وتاب مما جنى، واستغفر مما اقترفه، وأظهر ندمه وأسفه، وجعل في الله تلَفَه، فقَبِلَه مولاه وأسعفه، وخلَّصه من هواه وصرفه.

 

هنيئاً لمن أدرك عرفات، وما عرف الآفات.

عرفتُ ربي رحيماً لن يعذبَني
ما دام قلبي بِداجي ليلِه عرفهْ
أعصي وكم جاهل بالنار أرهبني
وما درى حجم عفو الله في عرفةْ

 

عرفات، الأمة بربّها متَّصِلة، وبدوام ذكره مبتهلة، وعلى القبلة مقبلة، والأيدي مرفوعة، والدعوات مسموعة، فيه القلوب مجتمعة، والأصوات بالابتهال مرتفعة، والأفواج مزدحمة، والأمواج ملتطمة، وللعارفين من الضجيج ما في عرفات للحجيج، يناجون عظيماً، ويسألون كريماً، ويرجون رحيماً، ويدعون قريباً مجيباً.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، فهو مستحقُّ الحمد وأهلُه، وهو أهلُ التقوى وأهلُ المغفرة، والصلاة والسلام على رسوله وخليله ومجتباه؛ محمد صلى الله عليه وسلم سيدِ ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا مصابيح الدجى، ونجوم الهدى، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين… وبعد:

 

عباد الله: في يوم عرفة، إذا حان الزّوال، وزال الاعتدال، استغرق العبّاد في الابتهال، وتزاحمت الأفواج كالأمواج، ولبّى الحجاج من شتى الفجاج، وشاركهم النَّاس، واشتهر الإيناس، وانعقد الإجماعُ، واطّرد الْقيَاس.

شعّ في أرواحنا عرَفَةْ
فهنيئاً للذي عرَفَةْ
ودعاهُ واجِلاً قِلِقاً
وبكى من سوءِ ما اقْترفَهْ!

 

فيا عبداً أوبقته الآثام والأوزار، وقيَّدتْه الذنوبُ والآصار، ها هي الفرصةُ سانحةٌ لفكاك رقبتك من النار، مُدَّ لمولاك كَفَّ الاعتذار، وقم على بابه بالذل والانكسار، وارفع قصة ندمك مرقومة على صحيفة خدك بمداد الدموع الغزار، وقل: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ﴾ [القصص: 16]، ﴿ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47].

 

يقول صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

 

 

فسرّح -يا عبد الله-، الطرف في مختلف الطاعات، ونزّه الفؤاد في متنوع العبادات، وغذّ الروح من جميع القربات، وأطلق عنان اللسان في مناجاة الملك المنان.

 

ابذل شتى الأسباب، وادخل من جميع الأبواب، من حديقة الصلاة، إلى قدسية الصيام، ومن حضرة الذكر، إلى روضة القرآن، ومن دوحة القيام، إلى عبق المناجاة، ومن جلال الدعاء، إلى جليل العطاء، ومن بستان الصدقة، إلى حرم البرّ والصلة.

 

يقال أنّ علي بن موسى الرضى فرّق ماله كلَّه بخراسان في يوم عرفة، حتى لم يبق له شيء، فقال له الفضل بن سهل: ما هذا المغرم؟ فقال: بل هو المغنم، لا تَعُدَنَّ مغرمًا ما ابتغيت به أجرًا أو كرمًا[9]. فطوبى لمن كان بالبرّ معروفا، وبالإحسان موصوفا.

إن دقّ بابَك مسكينٌ فمُدّ له
يدَ الكريم وأيقظ فيه إنسانَكْ
لرُبما سأل الرّحمنَ حاجتَه
يوماً وأعطاه ربُّ الناس عنوانَكْ

 

وبعد، عباد الله، دونكم الفضائل فاغنموها، وبين أيديكم الصالحات فالزموها، وأمامكم الطاعات فاعملوها، والدنيا مزرعة الآخرة فاعبروها.

 

اللهم أَعِنَّا ولا تُعِن علينا، وانصُرْنا ولا تَنصُر علينا، وامْكُر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصُرنا على من بغى علينا، ربنا اجعلنا لك شكَّارين، لك ذكَّارين، لك رهَّابين، لك مِطْواعين، لك مُخْبِتين، إليك أوَّاهين مُنيبين، ربنا تقَبَّل توبتَنا، واغْسِل حَوْبَتنا، وأجِبْ دعوتَنا، وثبِّتْ حُجَّتنا، وسدِّد ألسنتَنا، واهدِ قلوبنا، واسلُلْ سَخَائِمَ صدورنا.


[1] رواه مسلم في صحيحه، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس(2/ 818).

[2] رواه أحمد في مسنده، باب مسند جابر بن عبد الله رضى الله عنه(22/ 389).

[3] شعب الإيمان للبيهقي، باب الصوم في أشهر الحرم(5/ 306).

[4] رواه الترمذي في سننه، باب ومن سورة البروج(5/ 529)، والطبراني في المعجم الأوسط (2/ 18)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 242).

[5] رواه أحمد في مسنده، باب حديث عقبة بن عامر الجهني(28/ 605)، وأبو داؤود في سننه، باب صيام أيام التشريق(2/ 320)، والترمذي، باب ما جاء من كراهية صوم أيام التشريق (2/ 296)، والنسائي، باب النهي عن صوم عرفة بعرفة(5/ 252).

[6] رواه مسلم في صحيحه، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة(2/ 982).

[7] رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، باب مسند جابر(4/ 69)، وابن حبان في صحيحه، باب رجاء العتق من النار لمن شهد عرفات يوم عرفة(9/ 164).

[8] لطائف المعارف (276).

[9] غرر الخصائص الواضحة(359).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
The Color of Law: A Forgotten History of How Our Government Segregated America
Book Review – ‘Altered States: The Remaking of the Political in the Arab World’, edited by Sune Haugbolle and Mark LeVine