عقد الهبة مع الاحتفاظ بحق الانتفاع مدى الحياة
عَقدُ الهِبةِ مع الاحتفاظ بحق الانتفاع مدى الحياة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
الملكية تامة وناقصة:
تنقسم الملكية انقسامًا فرعيًّا إلى نوعين؛ تامة، وناقصة، والتامة أن يملِكَ الشخص رقبة الشيء ومنفعتها معًا، أما الناقصة، فلها شكلان:
الأول: أن يملك الشخص منافع الشيء دون رقبته، وتُستفاد ملكية المنافع وحدها بإحدى طرق أربع؛ وهي الإجارة، والإعارة، والوقف، والوصية.
الثاني: وهي قليلة، وخلاف الأصل في ملكية الرقبة التي من خصائصها أن تستتبع المنفعة؛ إذ لا فائدة من إيجاب ملكية جُرِّدت من حق الانتفاع.
وتجريد ملك الرقبة من حق الانتفاع حالة استثنائية تثبُت موقوتة، ثم تؤول إلى تبعية المنفعة للرقبة، ولا تكون إلا بطريق الوصية في صورتين فقط؛ وهما:
أولًا: إذا أوصى المالك لشخص بمنفعة شيء بعد وفاته مدة معينة، أو مدة حياة الشخص الموصَى له، فإن ورثة الموصي في هذه الحالة إنما يملكون بالإرث رقبةَ ذلك الشيء فقط، أما منفعته، فيملكها الموصَى له، ويتأخر إرثها، فيستوفيها الموصَى له على حساب المورَث لا على حساب الوَرَثة، وتعتبر العين كأنها محبوسة على ملك المورث في حق المنفعة الموصى بها.
ثانيًا: إذا أوصى مالك العين لشخص بمنفعتها مدةً معينة أو مدة حياته، وأوصى لآخر برقبتها، فإن الموصى له بالعين يكون مالكًا لرقبتها وحدها مدة انتفاع الموصى له بالمنفعة، حتى تنقضِيَ بانتهاء المدة المحدَّدة له أو بموته.
وفي كلتا الصورتين يكون انفكاك ملك الرقبة عن ملك المنفعة موقوتًا بمدة استحقاق المنتفع للمنفعة، فمتى انتهت، عادت المنفعة إلى تبعيتها للرقبة، فيصبح مالك الرقبة مالكًا للمنفعة على حكم الأصل[1].
أما هِبَةُ العين مع الاحتفاظ بحق الانتفاع مدى الحياة – وهو عنوان المقال – فيكون على صورتين:
الأولَى: أن يهَبَ شخص لآخر الرقبة والمنفعة، ويشترط عليه الواهب الانتفاع بالمنفعة مدى الحياة.
الثانية: أن يهَبَ شخص لآخر الرقبة دون المنفعة، وأن تكون المنفعة له بعد موته.
مناقشة الصورتين:
الأولى: تسمى هبة المجهول والمعدوم[2]، وصورتها أن يقول شخص لآخر: وَهَبْتُك بعض غنمي، أو وهبتك ما أكسبه من مال، أو وهبتك ما في بطن هذه الدابة، وهنا تضمنت الغَرَر[3] والجهالة، وهبة العقار بشرط الانتفاع مدى الحياة فيها جهالة في مدة حياة الواهب، وفي زمان قبض الموهوب، وللفقهاء في حكم هبة المجهول والمعدوم قولان:
فمنهم من قال بالمنع؛ وهو قول الحنفية[4]، والشافعية[5]، والمذهب عند الحنابلة[6] فيما لا يتعذر علمه[7]، وبه قال ابن حزم الظاهري[8]، ومنهم من قال بالجواز؛ وهم المالكية[9]، وهو قول في مذهب الحنابلة، وبه قال ابن تيمية[10]، وابن القيم[11].
كما أن الهبة هنا غير مقبوضة، وقبضها لازم عند الجمهور، وشرطٌ في صحتها، خلافًا للمالكية الذين يعتبِرون القبض من تمامها، وتصح بمجرد العقد.
وعلى ما سبق، فالصورة الأولى عقدٌ صحيح عند المالكية؛ لصحة هبة المجهول عندهم، وصحة عقد الهبة بالعقد دون القبض.
الصورة الثانية: في حقيقتها وصية مضافة إلى ما بعد الموت؛ ذلك أن الملكية لا تنتقل إلا بوفاة الواهب، وهو الموصِي على الحقيقة، وعليه فتكييف هذه الصورة وصية مضافة لِما بعد الموت.
والجدير بالذكر هنا، وللفائدة؛ أن فقهاء المذاهب في الشريعة الإسلامية خلافًا لعلماء القانون يفرِّقون بين ملك المنفعة، وحق الانتفاع من حيث المعنى، وحدوده بأن ملك المنفعة فيه اختصاص حاجز كحقِّ المستأجر في منافع المأجور، وحق الموقوف عليه في منافع الوقف، ففي كل ذلك معنى الملكية وُقُوتُها، أما حق الانتفاع المجرد فهو من قبيل الرخصة بالانتفاع الشخصي دون الامتلاك، كحق الجلوس في الأسواق والمساجد، واستعمال الطرق والأنهار فيما لا يضر العامة، والمبيت في المضافات، ودخول الأماكن التي يأذن أصحابها بدخولها، وتناول ما يسمحون بتناوله منها، ونحو ذلك، فملك المنفعة أقوى وأخص من حق الانتفاع وزيادة[12].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] المدخل الفقهي العام، مصطفى أحمد الزرقا، صفحة 349 – 351، دار القلم بتصرف يسير.
[2] قال ابن تيمية: “تنازع العلماء في هبة المجهول؛ فجوَّزه مالك، حتى جوَّز أن يهَبَ غيره ما ورثه من فلان، وإن لم يعلم قدره، وإن لم يعلم أثُلُثٌ هو أم رُبُع، وكذلك إذا وهبه حصةً من دار ولا يعلم ما هو، وكذلك يجوز هبة المعدوم؛ كأن يهبه ثمرُ شجرِه هذا العام أو عشرة أعوام، ولم يجوِّز ذلك الشافعي، وكذلك المعروف في مذهب أبي حنيفة وأحمد المنع من ذلك… ومذهب مالك في هذا أرجح”؛ [مجموع الفتاوى (270/31)].
[3] قال ابن القيم: “المعدوم الذي هو غررٌ نُهِيَ عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمِل هذه الأَمَة أو هذه الشجرة؛ فالمبيع لا يُعرَف وجوده، ولا قدره، ولا صفته… بخلاف الوصية؛ فإنها تبرع محض، فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم، وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر، وطرده الهبة؛ إذ لا محذور في ذلك فيها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبة الشعر حين أخذها من المغنم، وسأله أن يهبها له، فقال: ((أمَّا ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لك))”؛ [إعلام الموقعين (28/2)].
[4] انظر: المبسوط للسرخسي (74/12)، وتبيين الحقائق للزيلعي (94/5)، وحاشية ابن عابدين (440/8).
[5] الحاوي للماوردي (5/ 273)، وروضة الطالبين للنووي (435/4)، ونهاية المحتاج للرملي (411/5).
[6] المغني لابن قدامة (384/5)، والإنصاف للمرداوي (132/7).
[7] كأن يقول: وهبتك شاءً من غنمي، فهنا لا تصح على الراجح في المذهب، أما ما يتعذر عليه فتصح؛ مثل: إذا اختلط زيته بزيت صاحبه فوهبه إياه.
[8] المحلى لابن حزم (116/9).
[9] انظر: البيان والتحصيل، لابن رشد (422/13)، والذخيرة للقرافي (243/6)، ومواهب الجليل (6/8)، الإنصاف (132/7)، منح الجليل لغليش (176/8).
[10]الفتاوى الكبرى (434/5)، فتاوى ابن تيمية (270/31).
[11] إعلام الموقعين (28/2).
[12] بتصرف من المدخل الفقهي العام لمصطفى أحمد الزرقا، الصفحة: 374 و375.