عناية الله تعالى بعبده حيا وميتا (خطبة)


عناية الله تعالى بعبده حيًّا وميتًا

 

الحمد لله الذي أنشأ الخلائق بقدرته، وأظهر فيهم عجائب حكمته، ومنَّ عليهم بألطافه وسوابغ نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى جميع برِيَّتِهِ، صلى الله عليه وعلى سائر آله وأصحابه، ومن تبِعه في سُنَّته، وسلِّم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

 

فأوصيكم ونفسي بالسعي الدائم لمرضاة الله تعالى، والاجتهاد المستمر لتحقيق التقوى، حتى نلقى الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

عباد الرحمن: كلُّ مسلم يعلم أن الحكمة من خَلْقِهِ عبادة الله جل وعز، لكن تعالَوا نتأمل عناية الله بعبده قبل خَلْقِهِ، وبعد إيجاده، وبعد موته، مما يستوجب شُكْرَ ربنا سبحانه وحبَّه وإجلاله، وتعظيمه والحياء منه، فتعالَ عبدَالله إلى أوجه من عناية الله جل وعز بنا، ولطفه وكرمه، ورحمته وحكمته، وإنعامه وإحسانه، كيف لا وهو الذي يحب عباده المتقين والتوابين والمحسنين؟

 

قبل الخَلْقِ شرع لمن يريد الزواج حسن اختيار شريك الحياة، والذي بعده بإذن الله خلق الذرية، خلقك في أحسن تقويم، وشرع لأمِّك الفِطْرَ في رمضان إن شقَّ عليها الصوم في حملها بك أو رضاعتك، وبعد ولادتك تُسمَّى باسم حسن، وتُذبح العقيقة بهذه المناسبة السعيدة، وفَطَرَ قلوب والديك على محبتك، وجعل لك النفقة والرعاية، والملاطفة والملاعبة، تستمتع بطفولتك، وليس عليك تكاليف في صغرك، رغَّب الآخرين في رحمتك، وبعد السابعة إلى العاشرة تُؤمر بالصلاة أمرًا فقط بلا عقاب، في طفولتك إذا فعلت الخير، فلك الأجر، وإن فعلت الشر، لم يحاسبك.

 

رغَّب الآخرين في تعليمك وتوجيهك، والنصح لك، وجَعَلَ لهم الأجور الجزيلة ليُحفزهم على نفعك.

 

وبعدما كبِرت تجد عناية الله تعالى بك في حياتك في أمور كثيرة؛ فأمَرَ الآخرين أن يلقوك بالبشاشة والابتسامة، وحثَّهم على أن يُسلِّموا عليك ويصافحوك عند لقائك، ورغَّبهم في أن يكلموك بالكلام الطيب، واختيار الأحسن من الألفاظ، وأكَّد عليهم الأمانة والصدق معك، ورغَّب من هم أعلى مكانة منك بالتواضع لك، وحرَّم عليهم التكبر عليك.

 

ومن عناية الله وألطافه بك: أن حرَّم على الآخرين أن يغُشُّوك إذا اشتريت، ونهاهم عن النَّجْشِ، أو أن يبيعوا على بيعك، وأمرهم أن يكونوا سَمحين إذا باعوك.

 

رغَّب أرحامك وجيرانك في الإحسان إليك وصلتك، وحثهم والمسلمين على الصبر عليك لو أخطأت، وكتم الغيظ عنك، بل ورغَّب في العفو عنك، حرَّم على الآخرين أمورًا كثيرة تكدِّر خاطرك، وتؤذيك، فحرَّم عليهم أن يشتموك أو يعيِّروك، أو يشمتوا بك أو يحتقروك، أو يُفشوا سرك أو يلعنوك، أو يتناجى اثنان دونك، رهَّبهم قتلك وحسدك، وغِيبتك وسوء الظن بك، والنميمة.

 

نهاهم عن أكل الثوم والبصل وما يؤذيك، وأمرهم بأخذ الزينة والتطيُّب، حرَّم عليهم بُغضَك، وجعل ترهيبًا شديدًا وحدودًا في الدنيا، ووعيدًا في الآخرة، لو أن أحدًا قذفك، أو سرق مالك، أو انتهك عرضك، حثَّهم على بذل العارية لك إذا احتجت، ورغَّبهم في إقراضك إذا احتجت، وإنظارك إذا أعسرت، والوضع عنك من دَينِهم عليك، وحرَّم أخذهم الزيادة على مالهم، وجَعَلَ الربا من كبائر الذنوب.

 

أمرهم بإكرامك إذا كنت ضيفًا، وبعيادتك إذا كنت مريضًا، والصدقة من أموالهم عليك إذا كنت فقيرًا.

 

راعى مشاعرك فحرَّم مِنَّتَهم عليك، ومنعهم إخافتك ولو بالمزاح، ونهاهم أن يتدخلوا في خصوصياتك، وما لا يعنيهم، وحثَّ على مشاركتك الفرحة حال فرحك، وتهنئتك وإجابة دعوتك، وحثَّهم على مواساتك حال حزنك، والسعي في حاجتك حال كربتك.

 

حرَّم عليهم أن يكذِّبوك أو يخونوك، أو يُخلفوا وعدهم لك، أو يخطبوا على خطبتك، أو يكتموا شهادة حقٍّ تنفعك.

 

رغَّب الآخرين في أن يحبوا لك الخير كما يحبونه لأنفسهم، ورغَّبهم أن يدعوا لك بظهر الغيب.

 

ومن عناية الله بك في حياتك الزوجية: أن أمَرَ شريكَ حياتك بمعاشرتك بالمعروف وأداء حقوقك، وعظَّم حقك على أولادك، فجَعَلَ برَّك والإحسان إليك من أعظم الواجبات والطاعات، وجعل عقوقك من أكبر الكبائر، وأكَّد برَّهم بك حال كِبَرِ سنِّك وضعفك.

 

فاللهم لك الحمد لا نُحصي ثناء عليك، ألطافك علينا أكثر من أن تُحصر، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله اللطيف المنَّان، الرؤوف الرحمن، وأشهد أن لا إله إلا الله الحكيم الرحيم، الرفيق العليم، وأشهد أن محمدًا عبده ومصطفاه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

 

أرأيتَ – عبدَالله – عنايةَ اللطيف بك، وفضائله عليك، ورحمته بك، ومننه عليك، وتدبيره مصالحك؟

بل إن عنايته جل وعز بك حتى بعد مماتك؛ فقد جعل حُرمتك ميتًا كحرمتك حيًّا، فيحرُم كشف عورتك، وكسر عظمك، بل إنك تُغسَّل وتُطيَّب وتُستر في أكفان نظيفة، ورغب المسلمين في أن يصلُّوا عليك، ويدعوا لك، ويتبعوا جنازتك، ويدعوا لك بعد دفنك، وشرع للمسلمين أن يزوروا قبرك ويدعوا لك بعد رحيلك من الدنيا، فتنتفع بعد انقطاع عملك بمغفرة ذنوبك، وارتفاع درجاتك، ورغب ذريتك في ذلك؛ ليكون من البر الذي يرفع درجاتهم، وفي الآخرة الشفاعات العديدة، ورحمة أرحم الراحمين.

 

عبدَالرحمن: من عناية الله بك ولطفه أن نهاك أن تضر بصحتك أو نفسك.

 

بل إن عناية الله بك وفضله عليك حتى وأنت تعصيه، أمرهم بسترك، وألَّا يكونوا عون الشيطان عليك، وأن يترفقوا بنصحك ويدعوك بالتي هي أحسن، ومن عنايته جل وعز بك إمهاله لك وصبره عليك، فكم عصيت ثم عصيت ولم يعاجلك بالعقوبة! كم سَتَرَكَ مع تكرار ذنبك! يغفر لك كلما استغفرت، ويفرح بتوبتك بل يبدل سيئاتك حسنات، يغفر ذنوبك، ويقبل توبتك، ولو بارزته بالمعاصي تسعين سنة.

 

ختامًا: هذه ومضات في لطف الله بنا ورحمته وفضله الكبير علينا في حياتنا وبعد مماتنا، ومضات في عظمة هذا الدين ومحاسنه وكماله، تستوجب محبة ربنا وشكره والحياء منه، ومضات جمال هذا الدين تزيد المؤمن إيمانًا، وترغِّب الكافر في دين الله جل وعز، الدين الذي لا يقبل غيره.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
الغضب وعلاجه (خطبة)
مكتبه السلطان – اربع كتب تقرأهم عشان تطور اللغة الانجليزية!