عندما تتكافأ أقوال الفقهاء في مسألة
عندما تتكافأ أقوال الفقهاء في مسألة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه؛ أما بعد:
فإذا وقع في المسألة الواحدة اختلافٌ بين الفقهاء، وتكافأت فيها لدى المستفتي أو العامي أو المقلِّد الأقوالُ والأدلة والقائلون بها، فما العمل؟
الجواب:
في هذه المسألة تفصيل يمكن تلخيصه في نقاط ثلاث:
أولًا: إذا كان في المسألة دليل شرعي بالتخيير، كان المكلف في سَعَةٍ من أمره، وإن كان يستحب له أن يختار الأيسر؛ انطلاقًا من مقصد التيسير في الشريعة الإسلامية؛ ومثال ذلك: تخيير المكلف بين الخصال الثلاث في كفارة اليمين؛ الإطعام، أو الكسوة، أو العتق؛ لِما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري (3560)، ومسلم (2327) أنه صلى الله عليه وسلم ((ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعد الناس منه)).
ثانيًا: إذا كانت المسألة اجتهاديةً، وقع فيها الخلاف بين الفقهاء، فإن المكلف لا يخلو من إحدى ثلاث:
أ- أن يكون مجتهدًا: له قدرة على النظر في الأدلة ثبوتًا ودلالةً، فلا يجوز له التقليد، بل يجب عليه أن يجتهد ويبذل وسعه للوصول إلى الصواب في المسألة، وفق الضوابط الفقهية والأصولية المصطلح عليها، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور لحسن قصده، وجميل نيته.
ب- أن يكون طالبَ علمٍ: له قدرة على المقارنة بين أقوال المجتهدين والترجيح بينها؛ فعليه أن يوازن بين الأقوال، ويتبع أقواها دليلًا وأقربها حجةً، بحسب ما يرشده إليه حظه من العلم، لا بحسب ما يميل إليه هواه.
ج- أن يكون عاميًّا: لا يعرف الدليل ولا الاستدلال، فلا حرج عليه أن يقلد أحد العلماء المشهود لهم بالعلم والصلاح، ولا يجوز له البحث عن الآراء الشاذة وزلَّات العلماء ليأخذ بها، وإن تحيَّر ولم يدْرِ أي عالم يتبع، فإنه يختار العالم الذي يثق به في نفسه، ويطمئن قلبه لفتواه وأدلته، ويقدم عالم بلده على غيره؛ لعلمه بأحوال البلد وما يصلح لها، إذا كان مشهودًا له بالعلم والنزاهة.
ثالثًا: عودًا على بدء؛ إذا وقع في المسألة الواحدة خلاف بين الفقهاء، وتكافأت فيها لدى المستفتي أو العامي أو المقلد الأقوال والأدلة والقائلون بها، فهذه هي مسألتنا، وقد اختلف أهل العلم في ذلك على عدة أقوال؛ أقواها عشرة:
القول الأول: يتخير، فيأخذ بأيها شاء، وهذا القول كما ذكر الزركشي[1] نقله المحاملي عن أكثر أصحابه من الشافعية، وصححه الخطيب البغدادي[2]، وأبو إسحاق الشيرازي[3].
واختاره من الحنابلة: القاضي أبو يعلى، وأبو الخطاب، وذكر أنه ظاهر كلام الإمام أحمد[4]، وهو اختيار مجد الدين بن تيمية[5].
واحتجوا له بما يلي:
• أن النبي صلى الله عليه وسلم في موقعة بني قريظة لم ينكر على الفريقين اللذين اختلفا في صلاة العصر، ولم يعنف أحدًا منهما[6]، ونحن نعلم أن السرية ما خَلَتْ عمن لا نظر له ولا مفزع إلا تقليد وجوه القوم وعلمائهم، وكان ذلك المقلد مخيرًا، ولم يلحقه عَتبٌ ولا عيب فيما اختاره[7].
• أن الصحابة رضي الله عنهم لم ينكروا العمل بقول المفضول مع وجود الفاضل[8].
• أن الذي يجب عليه هو أن يرجع إلى قول عالم ثقة، وقد فعل، فيجب أن يكفيه ذلك[9].
القول الثاني: يعدل إلى مفتٍ آخر فيسأله، ثم ينظر مَن يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها[10]، وحاصله: أن يأخذ برأي الأكثر، فلو كان في المسألة رأيان: أحدهما قول الجمهور، فإنه يأخذ به؛ لغلبة الظن بصحته، كتعدد الأدلة والرواة، وهذا القول هو وجه عند الشافعية والحنابلة[11].
ويؤيده أن ما يغلب على الظن صحته يرجح ويُعمل به عند التعارض؛ كما هو الحال فيما إذا اختلف الرواة الثقات.
القول الثالث: يأخذ بالأشد أو الأغلظ؛ لأنه الأحوط، وهو محكي عن أهل الظاهر[12].
واستدلوا بما يلي:
• قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الحلال بيِّنٌ، وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه، وعِرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى، يوشك أن يرتع فيه، ألَا وإن لكل مَلَكٍ حمًى، ألا وإن حمى الله محارمه))[13]، ووجه الدلالة من الحديث: أن ما اختلف أهل العلم في تحليله وتحريمه يعد من الشبهات، فكان الخروج من الخلاف بالأخذ بالأشد اتقاءً للشبهات، واستبراءً للدين والعِرض[14]، ونحوه ما جاء عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دَعْ ما يريبك إلى ما لا يُريبك))[15].
• ولقاعدة (الخروج من الخلاف مستحب)؛ [ينظر: الأشباه والنظائر للتاج السبكي (1/ 111)، الأشباه والنظائر للسيوطي، ص: 136].
القول الرابع: يأخذ بالأيسر أو الأخف؛ وهو قول جماعة من الفقهاء[16].
واستدلوا بما يلي[17]:
• استفاضة الأدلة القاضية بالتيسير ورفع الحرج عن الناس.
• أن الله سبحانه وتعالى غني كريم، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين، كان التعامل على جانب الغني الكريم أولى منه على جانب المحتاج الفقير.
• اتباعًا للمنهج النبوي الذي علَّمه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأنه كان صلى الله عليه وسلم يحب التخفيف على الناس؛ ((وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما …))[18].
• أن الأحوط إذا كان فاضلًا، والأيسر مفضولًا، فلا مانع من ترجيح المفضول إذا كان هو الأنفع لصاحبه؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “مِن الناس مَن لا يصلح له الأفضل، بل يكون فعله للمفضول أنفع؛ كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر، أو بالذكر دون القراءة، أو بالقراءة دون صلاة التطوع؛ فالعبادة التي ينتفع بها فيحضر لها قلبه، ويرغب فيها ويحبها أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة؛ كالغذاء الذي يشتهيه الإنسان وهو جائع، هو أنفع له من غذاء لا يشتهيه أو يأكله وهو غير جائع … وهذه حال أكثر الناس قد ينتفعون بالمفضول؛ لمناسبته لأحوالهم الناقصة ما لا ينتفعون بالفاضل الذي لا يصلون إلى أن يكونوا من أهله”[19].
القول الخامس: يأخذ بقول الأوثق في دينه فـ”يجب عليه تقليد أعلمهما عنده، فإن استويا قلد أيهما شاء، وهو ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله تعالى؛ لأنه قال في الأم في القبلة فيما إذا اختلفوا على الأعمى: عليه أن يقلد أوثقهما وأدينهما عنده”[20].
القول السادس: يأخذ بقول الأورع؛ ذكره ابن القيم ولم يعزُه[21].
القول السابع: يأخذ بقول الأول؛ لأنه لزمه حين سأله؛ وهو وجه عند الشافعية[22].
القول الثامن: يأخذ بقول مَن يبني على الأثر دون الرأي؛ وهو وجه ثانٍ عند الشافعية[23].
القول التاسع: يجتهد في قول من يأخذ منهما؛ وهو وجه ثالث عند الشافعية[24]، ورجحه ابن القيم رحمه الله تعالى؛ حيث قال: “يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه … فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين”[25].
القول العاشر: التفصيل بين ما في حق الله تعالى وبين حق عباده؛ فإن كان فيما بينه وبين الله تعالى، أخذ بأيسرهما، وما كان في حقوق العباد فبأثقلهما؛ وهو وجه رابع عند الشافعية[26].
الترجيح:
الذي يظهر لي – والعلم عند الله تعالى – أن ترجيح قول من هذه الأقوال على وجه الإطلاق فيه نظر؛ فقد يكون الراجح منها في ظرف أو حال مرجوحًا في ظرف أو حال آخر؛ وذلك بحسب المصلحة الشرعية المبنية على حال المستفتي.
وعليه فيمكنني القول:
إن العبرة في هذه المسألة بحال المستفتي، والذي لا يخلو مما يلي:
• إن رَأَى المستفتي أو المقلد من نفسه وهواه ميلًا إلى الأيسر، فإنه يعدل عنه إلى الأحوط، وهو الأشد؛ لعموم النصوص القاضية بعدم اتباع الهوى.
• وإن رأى من نفسه وحاله حاجةً إلى الأيسر بحيث يشق عليه الأخذ بالأحوط؛ فإنه يعدل عنه إلى الأيسر؛ لأنه الأقرب إلى روح الشريعة.
• وإن استويا في حقه؛ فإنه يعدل إلى مرجح آخر؛ ككثرة العلم أو الورع أو العدد.
وهذا كله يحتاج إلى اجتهاد وتحرٍّ للصواب دون تشهٍّ أو هوًى.
وبهذا تجتمع الأدلة والأقوال، ولعل في هذا إعمالًا لقاعدة (مراعاة الخلاف).
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
[1] ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 367)، للزركشي (المتوفى: 794هـ)، الناشر: دار الكتبي، الطبعة: الأولى، 1414هـ – 1994م.
[2] ينظر: الفقيه والمتفقه (2/ 432)، للخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ)، تحقيق: عادل العزازي، الناشر: دار ابن الجوزي – السعودية، الطبعة: الثانية، 1421ه.
[3] ينظر: اللمع في أصول الفقه، ص (128)، لأبي إسحاق الشيرازي (المتوفى: 476هـ)، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: الطبعة الثانية، 2003م – 1424 هـ.
[4] ينظر: مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (4/ 580)، لابن النجار الحنبلي (المتوفى: 972هـ)، تحقيق: محمد الزحيلي، ونزيه حماد، الناشر: مكتبة العبيكان، الطبعة: الثانية، 1418هـ – 1997م.
[5] ينظر: المسودة في أصول الفقه، ص (462) وما بعدها، لآل تيمية: الجد: مجد الدين عبدالسلام بن تيمية (ت: 652هـ)، والأب: عبدالحليم بن تيمية (ت: 682هـ)، والحفيد: أحمد بن تيمية (728هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، الناشر: دار الكتاب العربي، بدون.
[6] أخرجه البخاري (946)، ومسلم (1770).
[7] ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 367).
[8] ينظر: السابق (8/ 367).
[9] ينظر: الفقيه والمتفقه (2/ 432)، واللمع في أصول الفقه، ص (128).
[10] ينظر: إعلام الموقعين (4/ 203).
[11] ينظر: أدب المفتي والمستفتي، ص (126)، لابن الصلاح (المتوفى: 643هـ)، تحقيق: د. موفق عبدالله عبدالقادر، الناشر: مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة، الطبعة: الثانية – 1423هـ-2002م، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ص (42) لابن حمدان الحنبلي (المتوفى: 695هـ)، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1397ه، البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 72).
[12] ينظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 367)، وإن كان كلام ابن حزم رحمه الله تعالى في “الإحكام” لا يدل عليه (6/ 159 – 160).
[13] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
[14] ينظر: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (1/ 143) لشهاب الدين القسطلاني (المتوفى: 923هـ)، الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة: السابعة، 1323 هـ.
[15] أخرجه الإمام أحمد في المسند (1727)، وصححه الترمذي (2518)، وابن خزيمة (2348)، وابن حبان (722)، والحاكم (2169)، ووافقه الذهبي.
[16] ينظر: الإحكام لابن حزم (6/ 159)، المحصول (6/ 159)، لفخر الدين الرازي (المتوفى: 606هـ)، دراسة وتحقيق: د. طه العلواني، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الثالثة، 1418 هـ – 1997م، روضة الناظر لابن قدامة (2/ 387).
[17] ينظر: المحصول للرازي (6/ 159)، الموافقات للشاطبي (5/ 104).
[18] أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327).
[19] مجموع الفتاوى (22/ 347).
[20] ينظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 368).
[21] ينظر: إعلام الموقعين (4/ 203).
[22] ينظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 368).
[23] ينظر: السابق (8/ 368).
[24] ينظر: السابق (8/ 368).
[25] ينظر: إعلام الموقعين (4/ 203).
[26] ينظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 368).