فإنما هو استدراج
فإنما هو استدراجٌ
عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتَ الله يعطي العبدَ مِنَ الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج؛ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]))؛ [رواه أحمد في المسند، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة].
قال قتادة: بَغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سَكْرَتِهم وغرَّتِهم ونعيمهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغترُّ بالله إلا القوم الفاسقون؛ [رواه ابن أبي حاتم أيضًا].
فكلما زاد الله في عُمْرِ العبد ومتَّعه بكثير من النِّعم، ثم قابل تلك النعمَ بالجحود وعدم الشكر والخضوع لله، بل زادت قسوة قلبه، وزين له الشيطان ما هو فيه من الأعمال التي يكرهها الله، بل ترك متعمدًا العملَ بما أمره الله، بدَّله الله – استدراجًا- مكان الفقر الغِنى، ومكان المرض الصحةَ، حتى إذا فرِح بما أُعطِيَ فَرَحَ بَطَرٍ وأَشَرٍ، أتاه عذاب الله بقوة، مباغتًا له، فإذا هو هالك قد قَنَطَ من رحمة الله، ولم يبقَ له أثر، فما المقصود بالاستدراج؟
هو الأخذ بالتدرُّج، فكلما أذنب العبد زاده الله من النِّعم، وأنساه التوبة، فيُدنيه من العذاب قليلًا قليلًا، ثم يصبه عليه صبًّا.
وكيف يعرف الإنسان أن الله يستدرجه؟
علامة ذلك: أنَّ ما يحصل للعبد من الخير وهو مقيم على المعاصي مُؤشِّر من مؤشرات الاستدراج؛ فالواجب على المؤمن والمؤمنة الحذرُ من عقوبة الله وغضبه، والبِدارُ بالتوبة، والحذر من السيئات واقترافها.
أولًا: يحذرها، ويبتعد عنها، وعن أسبابها، وعن مجالسة أهلها.
ثانيًا: إذا وقعت السيئة، بادر بالتوبة، بادر بالإقلاع والندم، والإقلاع من المعصية، والعزيمة الصادقة ألَّا يعود إليها، يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله.
وقد يسأل سائل: متى يكون العطاء من الله استدراجًا؟ ومتى يكون إنعامًا؟ إذا أعطاك الله لأنك شكرته وحمِدتَه، فهذا إنعام؛ لأن الله وَعَدَ بالزيادة لمن شكر فقال: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، وأما إذا أعطاك الله وأنت ما تزال مقيمًا على معاصيك، فاعلم أن ذلك استدراج، ولا ينبغي أن نغترَّ بما أُوتِيَ الكفار من نِعَمٍ في الدنيا؛ لأن الله يستدرجهم ويملي لهم؛ قال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56]؛ قال أحد السلف: “رُبَّ مُستدرَج بِنِعَمِ الله وهو لا يعلم”.
ومن القصص المشهورة في سُنَّةِ الاستدراج ما رواه القرآن الكريم عن صاحب الجنتين؛ الكافر بأنْعُمِ الله، والذي وَهَبَهُ الله تعالى حديقتين من أعناب، حفَّهم الله بنخل، وأوسطهم بزروع مختلفة؛ وقد قال فيه تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33]، فلما اغتر وأورثه عدمَ إيمانه كِبرًا وغرورًا، وأشاح بقلبه فلم يَرَ الله تعالى في عَطاياه، تخيَّل أنه إذا افترض أنَّ هناك آخرة، فلا بد أن يُنْعم عليه بمثل نِعَمِ الدنيا؛ وفي هذا قال تعالى: ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 34 – 36]، وكان عاقبة غروره وظلمه لنفسه، وكُفْرُه بالله تعالى أنْ فاجأه الله تعالى، فجَعَلَ بين عشِيَّة وضحاها هلاكًا ودمارًا لكل شيء، وفي بلاغة شديدة عبَّر النسق القرآني عن هذا؛ فقال رب العزة سبحانه: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف: 42].
قال الحسن: كم مُستدرَج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه!
اللهم إننا نعوذ بك من أن نكون من الْمُسْتَدْرَجين، ونسألك أن تجعلنا من عبادك الشاكرين المخلصين، اللهم بصِّرنا بعيوبنا، واغفر لنا زلَّتنا واجعلنا من المهتدين.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدرر السنية.
ملتقى الخطباء.
تفسير ابن كثير.