فائدة في التدرج في الدعوة


فائدة في التدرج في الدعوة

 

الحمد لله، قال الشافعي رحمه الله في “الرسالة” (ص 13 – 15) من رواية الربيع بن سليمان المرادي: “وقال: ﴿ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [الشورى: 7]، وأم القرى: مكة وفيها قومه، وقال: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، وقال: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44]، قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ قال يقال: ممن الرجل؟ فيقال من العرب، فيقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش. قال الشافعي: وما قال مجاهد من هذا بين في الآية مستغنى فيه بالتنزيل عن التفسير، فخص جل ثناؤه قومه وعشيرته الأقربين في النذارة، وعم الخلق بها بعدهم، ورفع بالقرآن ذكر رسول الله، ثم خص قومه بالنذارة إذ بعثه فقال: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾، وزعم بعض أهل العلم بالقرآن أن رسول الله قال: يا بني عبد مناف، إن الله بعثني أن أنذر عشيرتك الأقربين، وأنتم عشيرتي الأقربون”.

 

العشيرة الأقربون:

الآية الكريمة ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ تدل على أهمية الدعوة إلى الله، وأن الداعي يجب أن يبدأ بإصلاح نفسه، ثم يتجه إلى دعوة عشيرته الأقربين. فينبغي على الداعي أن يبدأ بدعوة أقرب الناس إليه، مثل والديه، وإخوته، وأبناء عمومته، وأقاربه. هذه هي أولى خطوات الدعوة إلى الله؛ أن تبدأ بمن حولك.

 

أخرج البخاري في “صحيحه” (2753) قال: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزُّهْري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبدالرحمن: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾، قال: “يا معشر قريش، أو كلمةً نحوها، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا”.

 

أخرج البخاري في “صحيحه” (3884) قال: حدثنا محمود، حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا معمر، عن الزُّهْري، عن ابن المسيب، عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: “أي عم، قل لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله”، فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه”، فنزلت: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، ونزلت: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [القصص: 56].

 

أم القرى:

بعد أن يتم الداعي دعوة عشيرته الأقربين، ينتقل إلى نطاق أوسع، وهذا ما بينه الله تعالى في قوله: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44]، وكذلك قوله: ﴿ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [الشورى: 7]، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته في مكة، حيث كان يدعو قومه إلى “كلمة سواء”، وهي كلمة التوحيد “لا إله إلا الله”، كان يناديهم أن يقولوا هذه الكلمة؛ ليملكوا بها العرب والعجم، وأن يفلحوا بها.

 

أخرج ابن حبان في “صحيحه” (15/ 79) برقم: (6686) قال: أخبرنا الفضل بن الحباب قال: حدثنا مسدد عن يحيى عن سفيان قال: حدثني الأعمش عن يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: مرض أبو طالب، فأتته قريش وأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وعند رأسه مقعد رجل، فقام أبو جهل فقعد فيه، فشكوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك يقع في آلهتنا، قال: ما شأن قومك يشكونك يا بن أخي؟ قال: “يا عم، إنما أردتهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية”، فقال: وما هي؟ قال: “لا إله إلا الله”، فقاموا فقالوا: اجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ قال: ونزلت: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ [ص: 1] إلى قوله: ﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5].

 

أخرج ابن خزيمة في “صحيحه” (1 / 274) برقم: (159) قال: أخبرنا أبو طاهر، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا أبو عمار، قال: حدثنا الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد – هو ابن أبي الجعد – عن جامع بن شداد، عن طارق المحاربي قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مَرَّ في سوق ذي المجاز وعليه حُلَّة حمراء، وهو يقول: “يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا”، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس، لا تطيعوه فإنه كَذَّاب، فقلت: من هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب، فقلت: من هذا الذي يتبعه يرميه بالحجارة؟ قالوا: هذا عبد العزى أبو لهب.

 

الطائف:

عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدودًا من أهل مكة، انتقل إلى الطائف، التي كانت قريبة من مكة، لكنه لم يجد استجابة هناك أيضًا.

 

أخرج البخاري في “صحيحه” (4 / 115) برقم: (3231) قال: حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: “لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا”.

 

أهل المدينة:

ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وبدأ يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، داعيًا إياهم إلى الله تعالى. كان يقول: “أيها الناس، من يحملني إلى قومه حتى أبلغ دعوة ربي”، مشيرًا إلى إصراره على تبليغ الرسالة رغم رفض قريش له.

 

وفي النهاية، الذين استجابوا لدعوته صلى الله عليه وسلم هم أهل المدينة الذين سموا لاحقًا الأنصار؛ لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا النور الذي أنزل معه.

 

أخرج ابن حبان في “صحيحه” (14 / 172) برقم: (6274) قال: أخبرنا عبدالله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبدالرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سبع سنين، يتتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة والمواسم بمنًى، يقول: “من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي؟” حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مصر فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك. ويمشي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا، ويؤمن به، ويقرئه القرآن، وينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها رهط من المسلمين، يظهرون الإسلام، ثم إنا اجتمعنا، فقلنا: حتى متى نترك النبي صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلًا، حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه بيعة العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علامَ نبايعك؟ قال: “تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقولها لا يبالي في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، وتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة”، فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إخراجه اليوم منازعة العرب كافةً، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أن تصبروا على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم جبنًا، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم، فقالوا: أمط عنا، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، فقمنا إليه، فبايعناه، فأخذ علينا، وشرط أن يعطينا على ذلك الجنة.

 

ختامًا:

من هذا، يتبين أن الدعوة يجب أن تكون بالتدرُّج، من الأقرب إلى الأبعد، وأن الدعوة إلى الله تتطلب جهدًا كبيرًا وإصرارًا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جاهد في سبيل تبليغ رسالته إلى كل من حوله، صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.







Source link

أترك تعليقا

مشاركة
لا تحزني
الذئب في الكتاب والسنة (خطبة)