فائدة في الفارق بين (البيان) و (الجدل والبرهان)
فائدة في الفارق بين (البيان) و(الجدل والبرهان)
الحمد لله، يضم شرح “الرسالة” للإمام الشافعي رحمه الله لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور أحمد عبدالرحمن النقيب حفظه الله فوائد نفيسة متعددة، منها هذه الفائدة في الفارق بين (البيان) و(الجدل والبرهان). قال الشيخ حفظه الله بتصريف يسير:
يأخذ البيان أحيانًا بالألباب، ويجعل الإنسان لا يجد بدًّا من التسليم والقبول. ومن أبواب المنطق المعروفة ما يُعرف بـ”البرهان“، وهو ما يعبر عنه في لغة العرب بـ”البيان“، بينما يسميه أهل الجدل والنظر بـ”البرهان“.
البيان لغةً يعني الوضوح والإيضاح، وهو من الدلالة التي تجعل المعنى جليًّا أمام المتلقي. ويُطلق البيان كذلك على الحجة والبراهين القاطعة، وأيضًا على القول البليغ الفصيح. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا». فقد أخرج البخاري في “صحيحه” عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، أَوْ إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ»؛ (رواه البخاري برقم: 5146، في كتاب النكاح، باب الخطبة، وبرقم 5767 في كتاب الطب، باب إن من البيان سحرًا).
يُشير الحديث إلى أن قوة البيان وبلاغة التعبير يمكن أن تترك أثرًا في النفس يجعل المستمع متأثرًا، وقد يُقبِل على ما يُعرض عليه، حتى لو كان موضوعًا بسيطًا أو ضعيفًا، وذلك لقوة البيان وسحر التأثير. فبعض الناس يمتلكون القدرة على عرض أفكارهم بأسلوب بليغ ومنطقي، مما يجعلها مقبولة لدى السامعين، وربما يجعلهم يميلون إلى تصديقها وقبولها، وذلك لما فيها من قدرة على الوصول إلى القلوب والعقول بقوة الإقناع وبلاغة الأسلوب.
والبناء المنطقي للكلام يمكن المتحدِّث من إقناع من أمامه بصحة ما يطرحه. وقد اعتاد المناطقة قديمًا تدريب تلاميذهم على إقامة البرهان ليتمكَّنوا من إثبات صدق أمر معين، فإذا اقتنع الطالب به، قدموا له براهين تنقضه ليقتنع بنقيضه. وبهذه الطريقة، يتم تدريب التلميذ على القدرة على البرهنة والتفنيد من جميع الجوانب، حتى يصل إلى المهارة العالية في الجدل المنطقي.
وهذا الأسلوب يُعرف بـ”طريقة الجدل”، والتي يُحذَّر منها في بعض النصوص الدينية، قال الله تعالى: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]، كما حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة الجدل، أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: »ما ضلَّ قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل«، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58].
ومن هنا، كان ترك الجدل والمراء مرغوبًا، كما ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وبيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»؛ رواه أبو داود في سننه.
فالمراء والجدل المستمر لا يؤديان إلى نتائج محمودة، بل غالبًا ما يتسببان في انقطاع الود وتفاقم الخلاف.