فتح العلي المتعال في بيان حقوق الأطفال (خطبة)
فتحُ العليِّ المُتعال في بيان حقوق الأطفال
نص الخطبة:
الحمد لله ولي من اتَّقاه، من اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله، الأطفال نعمة كبرى على الناس، تملأ حياتهم بهجةً وسرورًا، وتزيدها أنسًا وحبورًا، وتمنحهم راحةً واستقرارًا، ويعيشون سعادةً وأمانًا، وهم مصابيح البيوت، وقرة العيون، وفلذات الأكباد، وبهجة الأعياد، ونبض المجتمعات، وهم أحباب الرحمن، وهم زهرة اليوم، وثمرة الغد، وأمل المستقبل، ويُقاس بنضجهم وتقدمهم ونجاحهم تقدم الأمم ونجاحها، قال الله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: 46].
واهتمَّ الإسلام بحقوقِ الطفل قبل ولادته، عبرَ إصلاح المحضن والمرتَع، الذي سوف ينشأ فيه الطفل؛ ولذلك حضَّ الإسلام على الزواج حتى ينشأ الطفل من خلاله على الطهارة والعِفَّة والاستقامة، وحرَّم الإسلام الزنا بكلِّ صوره؛ لأن الطفل عنده يكون نتاجَ نطفةٍ خبيثة مُهَانة، وعادةً يكون مصيرُه الضياع والفساد، وكذا حرَّم الإسلام عددًا من الأنكحة الفاسدة؛ حفاظًا على طهارة المحضن؛ مثل: نكاح المتعة، ونكاح الشِّغار، والمحلِّل، والاستبضاع.
أيها الأحِبَّة، إن مِن صور عناية الإسلام بالأطفال أنه جعل حسنَ اختيار الوالدين كل منهما حقًّا للطفل قبل مجيئه؛ ولذا أمر كلًّا منهما بإحسانِ اختيار الآخر، ووضع قواعد ومعايير تحقِّق هذا الإحسان في الاختيار، فعلى الأب أن يختار له أُمًّا صالحةً، وعلى أُمه أن تختار له أبًا صالحًا يتقي الله في تربيته.
ويُبيِّن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- المعالم التي تختار المرأة من خلالها، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ”؛ (رواه البخاري).
ولم يَقِف الإسلام في وجه من أراد المرأة الجميلة، أو ذات المال أو الحسب، ولكن بشرط ألَّا تتعارض مع الأخلاق والدين؛ فالمرأة الصالحة هي التي إذا نظر إليها زوجها سرَّتْه، وإذا غاب عنها حفظته، وهي التي تعين زوجها على طاعة الله -جل وعلا- وهي خيرُ عونٍ له على أمر دينه ودُنْياه.
فاختيار الأُمِّ الصالحة مهم؛ لأنها مثل الأرض، فإن كانت طيبة صالحة فطيب نبتها، وإن كانت خبيثة فخبيث نبتها؛ قال أبو الأسود الدؤلي لبنيه: “قد أحسنت إليكم صغارًا وكبارًا، وقبل أن تولدوا، قالوا: وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد؟ قال: اخترت لكم من الأمهات من لا تُسبُّون بها”.
♦ وكذلك حسن اختيار الزوج المناسب ليكون أبًا يشعر بمسئولياته، ويقوم بواجباته تجاه زوجته وأولاده، فأمر النبي الزوجة باختيار زوجها على نفس المعيار والأساس؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ“؛ [الترمذي].
وكذلك هنا لم يَقِف الإسلام مانعًا من زواج المرأة للرجل الغني بشرط ألا يكون ذلك على حساب الدين؛ ولا ريب في أن هذا الاختيار وذاك الأساس من شأنه أن يعود بالنفع التامِّ والمصلحة المباشرة على الطفل الذي يكون ثمرة هذين الزوجين الصالحين، لينشأ بعد ذلك في أسرة ودودة متحابَّة، تعيش في ظلِّ تعاليم الإسلام؛ فالأب الناجح (غالبًا) في إدارة الأسرة هو الإنسان الصحيح أخلاقيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وجسميًّا، وهو الذي يستطيع ألَّا يُحْدِثُ فجوات بينه وبين زوجته، وقَلَّ مثل ذلك في الزوجة الناجحة.
فإذا تمَّ الاختِيار توجَّه الأبوان الصَّالِحان بالدُّعاء في خشوع وإنابة إلى الله: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74] ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران: 38].
وبالمثال يتَّضِح المقال:
فهذا نجم الدين أيوب -والد صلاح الدين- والخاتون عصمة الدين -والدة صلاح الدين- قال نجم الدين أيوب؛ أريد أن أتزوَّج امرأة تتَّقِي الله، يكون لي منها ولد، تحسن تربيته، حتى يكون فارسًا يفتح الله على يديه بيت المقدس! فكان مرة جالسًا في قصر الملك، فإذا به يسمع امرأة تُحدِّث الملك من وراء حجاب، يقول لها الملك، عندما تَقدم لها رجل للزواج، ورفضت: لِمَ لم تقبليه زوجًا؟ فأجابت: إني لا أريده؛ إنما أريد رجلًا يتقي الله، يكون لي منه ولد يُحسِن تربيته حتى يكون فارسًا يفتح الله على يديه بيت المقدس! فتعجَّب نجم الدين أيوب -والد صلاح الدين- ممَّا سمع، فهو نفس كلامه الذي يحلم بتحقيقه، مع أنه لم يرها ولم يقابلها أبدًا في حياته! إنما حقَّق الله له هدفه، فتأمل أخي عندما يضع الإنسان هدفًا أمامه ويثق بالله! عندها طلب نجم الدين من الملك أن يُزوِّجه تلك المرأة، وفعلًا تمَّ ذلك، وأنجبا صلاح الدين! هذه نية صالحة وهدف سامٍ في الزواج؛ فما أعظمها من نية! وما أرقاه من هدف عظيم!
♦ ومِن صور عناية الإسلام بالأطفال الحفاظُ على حياته وهو جنين، والجنين هو الولد في بطن أُمِّه، وسمِّي جنينًا؛ لاجتنانِه واستتاره.
وقد جعل الإسلامُ له حقوقًا منذ بدْءِ تكوينه، فأوصى الإسلامُ الآباءَ باتخاذ كافة الوسائل والتدابير التي تكون بها حماية الطفل وصيانته من نزغات الشيطان، وذلك عند وضعه في الرحم؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام: “لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرُّهُ”؛ [صحيح البخاري].
♦ ومِن صُور عناية الإسلام بالجنين وهو في بطن أُمِّه، أنه حافظ عليه من الاعتداء، واحتفظَ له بحقِّه في الحياة، فحرَّم إجهاضه وإسقاطه بعد نفخ الرُّوح فيه، بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151]، ولو كان هذا الإسقاط أو الإجهاض باتفاقِ الزوجين؛ قال تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
ثم اختصَّ بيان حرمة قتل الأولاد، ليبين سبحانه وتعالى عظيم رحمته واهتمامه بهذا الوليد الذي لم يرتكب جرمًا ولم يقترف إثمًا، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: 151]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 31]، وقد أوجب الإسلام الدِّيَة في قتلِ الجنين مما فصَّلَه العلماء ودوَّنوه في كتب الفقه والأحكام.
♦ ومِن صور عناية الإسلام بالجنين: أن الشارع الحكيم أسقط عن الحامل بعضَ التكاليف الشرعية حال حملها؛ مثل الصيام إذا خافتْ على نفسها وولدِها، وذلك من أجل المحافظة على صحة الجنين حتى لا يتعرَّض للسقوط، ومحافظة على الأم؛ لأنها أصل الجنين، فأباح لأُمِّه الحامل الإفطارَ في رمضان وعليها القضاء؛ فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلاةِ وَالصِّيَامَ، وَعَنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِع”؛ (أبو داود).
وروى الشافعي في الأم قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَقَالَ: تُفْطِرُ وَتُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ.
♦ ومِن صور عناية الإسلام بالجنين أنه أوجب عدم تنفيذ العقوبة الشرعية على الأم الحامل؛ إذ إن المرأة الحامل من الزنا، إذا كانت متزوجة قبل ذلك، فإنها لا يقام عليها حَدُّ الرجم حتى تضع حملها، ولا يقتص منها في أي عقوبة أخرى حتى تضع حملها.
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن المرأة إذا اعترفت بالزنا، وهي حامل، أنها لا ترجم حتى تضع حملها؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]، وهذه الآية المباركة دليل على أن الإنسان لا يُؤاخَذ بذنب غيره، وفي رجم المرأة الحامل أو القِصاص منها اعتداءٌ على جنينها، وقتل نفس معصومة بغير ذنب.
وروى مسلم عن بريدة قال: جاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي وَإِنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَالَ: “إِمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي”، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَالَ: “اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ”، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
ومِن صور عناية الإسلام بالجنين: الإنفاق على أمه، فإن الله أوجب على أبيه أن ينفق عليه حتى يقوى ويشتدَّ عودُه، ولعل هذا الحق هو أسمى وأجل الحقوق التي كفلها الإسلام للطفل، فحاشا لله أن يغفل عن إظهار حق من حقوق الطفل حتى وهو في بطن أُمِّه، حتى وإن كانت مطلقة؛ قال تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطلاق: 6].
وذلك هو تكريم للأم، ورحمة منه سبحانه بهذا الصغير، حتى لا يكون فشل الوالدين في حياتهم وعدم التوافق بينهما نكبة على الصغير.
أيها المسلمون، ومن صور عناية الإسلام بالأطفال أن جعل لهم حقوقًا على والديهم، وهي كثيرة نذكر منها: التسمية بأحسن الأسماء: ففي سنن أبي داود بإسناد جيد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ».
ومن الحقوق كذلك استحبابُ البشارة به، والأذان في أذنه اليمنى، والإقامة في أُذُنه اليُسْرى؛ لقوله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: 71]، وقوله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: 101].
قال ابن القيم: “وسِرُّ التأذين -والله أعلم- أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا”.
وكذلك تَحنيك المولود، وهي سنَّة باقية في مجتمعِنا إلى يومنا هذا؛ روى أبو موسى رضي الله عنه، قال: “وُلِدَ لِي غُلامٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ”.
وكذلك العقيقة؛ إذ إنها من هديه عليه الصلاة والسلام؛ لقول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى”.
وحلق شعر رأسه والتصدُّق بوزنه فضة، وفي ذلك فوائد صحِّيَّة واجتماعيَّة، فمن الفوائد الصحِّيَّة: تفتيح مسامِّ الرأس، وإماطة الأذى عنه، وقد يكون ذلك إزالةً للشعر الضعيف لينبت مكانه شعرٌ قويٌّ، أما الفائدة الاجتماعية فتعود إلى التصدُّق بوزن هذا الشعر فضة، وفي ذلك معنَى التكافُل الاجتماعي ومما يُدْخِل السرور على الفقراء، روي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الحَسَنِ بِشَاةٍ، وَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ، احْلِقِي رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً»، قَالَ: فَوَزَنَتْهُ فَكَانَ وَزْنُهُ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضَ دِرْهَمٍ؛ صحيح الترمذي.
ومن الحقوق حقُّه في الرضاعة التامة: فقد أوجب الله على الأم أن تُرضِع صغيرها حولينِ كاملينِ؛ وهي مدة الرضاعة التامة، قال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 233].
وقد اتفق الفقهاء على أن الرضاعة واجبة على الأم ديانة تسأل عنها أمام الله تعالى، حفاظًا على حياة الرضيع سواء كان ذكرًا أم أُنثى، وسواء أكانت الأم متزوجة بأبي الرضيع، أم مطلقة منه، وانتهت عدتها.
ومن حقوق الطفل في دينِنا الحنيف: ملاعبته وملاطفته؛ أوْرد الإمام البخاري في صحيحه: قبَّل رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التَّميمي جالسًا، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ثمَّ قال: “مَن لا يَرحم لا يُرحم”؛ ولذلك قال العرب: لاعب ابْنَك سبعًا، وأدِّبْه سبعًا، وصاحِبْه سبعًا.
ومن أهمِّ حقوق الطفل في إسلامنا العظيم:
حقُّه في التربية، وأساس التربية أن نرعى فيه من أيَّامه الأولى بذرةَ “لا إله إلا الله محمَّد رسول الله” الَّتي جعلها الله في فطرة كلِّ مولود؛ جاء في الصحيحَين قولُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرة، فأبواهُ يهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه”، فكل مولود يأتي إلى دنْيا الناس مسلمًا موحِّدًا، يأْتي محبًّا لله ولرسوله، وعلى الأبويْن رعاية تلك الفطرة؛ يقول الله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30].
وعن الحاطبي قال: سمعت ابن عمر يقول لرجل: “أدِّب ابْنَك فإنك مسؤول عن ولدك ماذا أدَّبْته؟ وماذا علَّمْته؟ وإنه لمسئول عن برك وطواعيته لك”؛ رواه البيهقي.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عَشْر، وفَرِّقُوا بينهم في المضاجع”؛ رواه أحمد وأبو داود.
ولا ننسى هنا بعد هذا وصيَّة الأب الشفوق الناصح لولده، المهذِّب لعقيدته وأخلاقه، ذلكم هو لقمان الحكيم وقد ذكَرها الله تعالى في كتابه؛ لتكون خيرَ مُعينٍ على البرِّ والتربية، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ…..﴾ [لقمان: 13] الآيات من سورة لقمان.
♦ ومن الحقوق العدل بينهم: لا يميز بين الأبناء، ولا يفضل الذكور على الإناث، فهذا يؤدي إلى إحداث جَوٍّ من الشحناء والبغضاء داخل البيت؛ لذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الأولاد في الأمور المادية والمعنوية، وكذلك لا يجوز تمييز أحدهم في العطاء والوصية، ولا يجوز حرمان أحد من حقِّه في الميراث، فهذا حق فرضه الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قطع ميراثًا فرضه اللهُ ورسولُه قطع الله به ميراثًا من الجنة”؛ رواه البيهقي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله سبعين سنة ثم يحضرهما الموت فيضارَّان في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: 12]، قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وأخرجه أبو داود والبيهقي.
وقد أخرج أبو داود في سننه، عن النعمان بن بشير، قال: أنحلني أبي نُحلًا أو نِحلةً غلامًا له -عنده عبد أعطاه لولده- قال: فقالت له أمي عمرة بنت رواحة: ائتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأشهده، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال: إني نحلت ابني النعمان نُحلًا، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألك ولد سواه؟ قال: قلت: نعم، قال: فكُلُّهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟ فقال: لا، فلما قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: “فأرْجِعْه”.
وفي رواية: “فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم”، فرجع أبي في تلك الصدقة، وفي رواية: “فلا تشهدني إذن، فإني لا أشهد على جور”؛ ظلم.
وفي رواية: “فأشهد على هذا غيري”، وفي لفظ لمسلم: ثم قال: “أيسُرُّك أن يكونوا لك في البر سواء؟”، قال: بلى، قال: “فلا إذن”.
وفي هذا تعليل واضح من النبي صلى الله عليه وسلم لوجوب العدل والمساواة بين الأولاد؛ وعليه فإن ما يقوم به بعض الآباء من التمييز بين الأبناء هو أمر منهي عنه شرعًا؛ وذلك لما له من آثار نفسية على الأبناء.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، وبعد:
فيا أيها الآباء ويا أيتها الأمهات، يقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].
وعَنْ عبدالله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”؛ متفق عليه.
قال الإمام ابن القيم: وصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 31].
ثم يقول: “فمَنْ أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سُدًى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائضَ الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبتِ، إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا”.
فاتقوا الله في فلذات أكبادكم وقرة أعينكم؛ فأطفالكم أمانة كبرى في أعناقكم، وسوف تُسْألون عنهم يوم القيامة، فإن كنتم أحسنتم التوجيه فبها ونعمت، وإن لم تكونوا، فالفرصة ما زالت أمامكم، فانتهزوا هذه الحياة ووجِّهوهم للخير، ودلُّوهم عليه؛ ليعرفوا طريق الحق فيتبعوه، ويعرفوا طريق العلم فينهلوا منه، ويسلكوا طريق النور فلا يضلوا، واختاروا لهم الرفقة الطيبة؛ لأن الرفقة لها التأثير البالغ في حياة الإنسان، والمرء في معترك هذه الحياة؛ إما أن يؤثر، وإما أن يتأثر، فإن كان قوي الإيمان والعقيدة، حسن الأخلاق والسلوك، أثَّر في الناس بأخلاقه الطيبة، وإن كان ضعيف الإيمان، متذبذب الآراء والأفكار، تأثر من غيره بالخصال الذميمة، وعلى الآباء والأمهات أن يتابعوا أبناءهم دائمًا، ويسألونهم عن أصحابهم، وماذا يفعلون، وماذا يقولون حتى يقضوا على صفات وخصال هؤلاء الأصحاب؛ سواء أصحاب المدرسة أو الشارع، أو الحي أو النادي أو المسجد.
وليضع الجميع نُصْب أعينهم في هذا المنهج قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: “مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمَّا أن يحذيك أو تشتري منه، أو تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك، أو تجد منه ريحًا مُنْتنةً”؛ رواه البخاري، ومسلم.
وقوله: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم من يخالل”؛ رواه الترمذي.
وقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “إيَّاك وقرين السوء؛ فإنك به تُعْرف”؛ رواه ابن عساكر.
وعلى الآباء والأمهات أن يُعوِّدُوا أبناءهم منذ صغرهم على ذكر الله، فالذين مع الله لا يندمون، والذين مع الله فائزون، والذين مع الله يعيشون في سرور وحبور؛ كما يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: “أخلص دينك يكفيك القليل من العمل”.
كما يكون ذكر الله بكلمة طيبة، بإماطة الأذى عن الطريق، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالصلح بين اثنين، بالتعاون والتسانُد، كما يكون ذكر الله كذلك بصدقة لفقير أو يتيم أو محتاج، بالبشاشة في وجوه الناس، والمعاملة الكريمة في البيع والشراء، ويكون ذكر الله جل وعلا بكل ما يحبه الله ويرضاه.
أيها الإخوة الأفاضل، هذا ما فتح به عليَّ العليُّ المتعال في بيان حقوق الأطفال، وأسأل الله أن ينفعنا بكل ما نقول وما نسمع، وأن يجعله حجةً لنا لا علينا، كما أسأله جل وعلا أن يُصلِح لنا ولكم الذرية، وأن يحفظ أولادنا من كل مكروه وسوء، وأن يُجنِّبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وأقِمِ الصلاة.