فضل الاستغفار (خطبة)
فضل الاستغفار
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، أحمده على نعمه الغزار، وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله حثَّ على الاستغفار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، وسلم تسليمًا كثيرًا ما اختلف الليل والنهار، أما بعد:
فاتَّقوا الله عبادَ الله، وابتَغوا إليه الوسيلةَ، وتوكَّلوا عليه وأنيبُوا إليه، وأحسِنوا الظنَّ به، وادعُوه خوفًا وطَمَعًا، واذكروا وُقوفَكم بَين يدَيه، يقول الله تعالى جل ذِكْرُهُ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].
عباد الله، لقد أمر الله عباده بالتوبة والاستغفار، فهو سبحانه وتعالى الغفَّار، والغفور الرحيم: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [غافر: 3]، فإذا كان من غفـر ذنبه ما تقـدم منه وما تأخر صلى الله عليه وسلم يقول: ((وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مـرة)) فكيف بمن هو دونه؟!
ولقد وردت آيـات كثيرة جدًّا تختم باسمين من أسماء الله عز وجل ﴿ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾، ﴿ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ حتى يرغب عباده في مغفرته ورحمته وحلمه وعفوه فيتوددون إليه بالطاعات وترك المعاصي والمنكرات مستجيبين لأمره بكثرة الاستغفار والتوبة كما أمرهم سبحانه وتعالى؛ حيث قال: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وقال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وقال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 74].
ولقد امتدح الله الأنبياء وعباده الصالحين بأنهم يستغفرون ربهم في آيات عدة؛ حيث قال سبحانه: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 146 – 148].
والمغفرة من الله والتوبة أيها الإخوة لا يرجى الحصول عليها أو قبولها إلا بالإقلاع عن الذنب أولًا ثم عمل الطاعات وتقديم الصدقات والاستمرار على ذلك، وقد قيل: استغفار بلا إقلاع – يعني عن الذنب – توبة الكذابين.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 9]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12].
أيها المسلمون، خرج عمر رضي الله عنه يستسقي فلم يزد على الاستغفار، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء الذي يُستنزَل به المطر، ثم قرأ هذه الآيات.
وعن الحسن البصري رحمه الله: أن رجلًا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال: استغفر الله، وشكا إليه ثالث جفاف بستانه، فقال: استغفر الله، وشكا إليه رابع عدم الولد، فقال: استغفر الله.
وأما الأحاديث في فضل الاستغفار فمنها قوله تعالى في الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ))؛ أخرجه مسلم من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه.
وقوله سبحانه في الحديث الآخر: ((يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي))؛ رواه أبو داود من حديث أنسٍ رضي الله عنه وحسَّنه الألباني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فليفعل ما يشاء))؛ متفق عليه.
إخوة الإسلام، إن الاستغفار لا يحتاج إليه العُصاة وحدهم، بل أهل الطاعة محتاجون أيضًا إلى كثرة الاستغفار؛ لأن التقصير لا بُدَّ أن يحصل في العبادة، فينبغي للعابد أن يجبر هذا التقصير بالاستغفار عند الفراغ من العبادة؛ ولذا شرع الاستغفار عقب الطاعات: فشرع للمتوضئ إذا فرغ أن يقول: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِن التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ))؛ رواه الترمذي من حديث عمر رضي الله عنه وصحَّحه الألباني.
ويقول: “سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك”، وشرع للمصلي إذا انصرف من صلاته أن يقول: “أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله”، وشرع للحُجَّاج إذا أفاضوا أن يستغفروا الله؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ﴾ [البقرة: 199].
ولقد وعى المتقون ذلك، فكانوا يبيتون لربهم سُجَّدًا وقيامًا، حتى إذا كان السحر جلسوا يستغفرون الله، فمدحهم الله على ذلك، وآتاهم من النعيم ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 15 – 18].
فأكثروا – عباد الله – من الاستغفار، واعلموا أن المسلم مطالب بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات كما هو مطالب بالاستغفار لنفسه، اقتداء بالملائكة المقربين، والنبيين المرسلين، وعباد الله الصالحين، فإن الله تعالى قال عن الملائكة المقربين: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [غافر: 7].
وحكى تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [نوح: 28]، وحكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].
وأمر سبحانه نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات فقال: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، وقال تعالى عن عباده الصالحين: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10].
فعلى المسلم أن يشرك إخوانه المسلمين في استغفاره، وله على ذلك أجر عظيم، بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة))؛ رواه الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وحسَّنه الألباني.
وأولى المؤمنين بالاستغفار الوالدان تأسيًا بالأنبياء، وطاعة لله عز وجل؛ حيث قال: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستغفار للوالدين ينفعهما فقال: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟! فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ))؛ رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني. ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41].
عباد الله، وللاستغفار فوائد عظيمة، منها: أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، كما في الحديث السابق: ((فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ))، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
ومن فوائد الاستغفار: أنه يدفع العقوبة ويدفع العذاب، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33].
ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لتفريج الهموم، وجلب الأرزاق، والخروج من المضايق.
ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لنزول الغيث، والإمداد بالأموال والبنين ونبات الأشجار، وتوفر المياه، قال تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه:﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10-12]، وقال عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: ﴿ وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود: 52].
عباد الله، والاستغفار مشروع في كل وقت، وهناك أوقات وأحوال مخصوصة يكون للاستغفار فيها مزيد فضل، فيستحب الاستغفار بعد الفراغ من أداء العبادات؛ ليكون كَفَّارة لما يقع فيها من خلل أو تقصير، كما شرع بعد الفراغ من الصلوات الخمس كما سبق ذكره؛ لأن العبد عرضة لأن يقع منه نقص في صلاته بسبب غفلة أو سهو.
كما شرع الاستغفار في ختام صلاة الليل، قال تعالى عن المتقين: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]، وقال تعالى: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17].
وشرع الاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والفراغ من الوقوف بها، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199].
وشرع الاستغفار في ختم المجالس؛ حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقوم الإنسان من المجلس أن يقول: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ))؛ رواه أبو داود وغيره من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وصححه الألباني، فإن كان مجلس خير كان كالطابع عليه، وإن كان غير ذلك كان كفَّارة له.
وشرع الاستغفار في ختام العمر، وفي حالة الكبر، فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عند اقتراب أجله: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر:1- 3].
فقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ “رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”))؛ صححه الألباني، وفي سنن ابن ماجه بسند جيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا)) من حديث عَبْداللَّهِ بْن بُسْرٍ رضي الله عنه وصحَّحه الألباني.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأبرار، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.
عباد الله، ألفاظ الاستغفار متعددة، منها:
“أستغفر الله، أستغفر الله”، ومعناها: أطلب من الله المغفرة، أو أسأل الله أن يغفر لي، وكذلك: “أستغفر الله وأتوب إليه”، أو: “أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه”، أو: “رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم”، أو: “رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الغفور”.
أما سيد الاستغفار فهو ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ))، قَالَ: ((وَمَنْ قَالَهَا مِن النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِن اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
أيها الإخوة، كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ))؛ أخرجه مسلم.
فعلينا أيها الإخوة، أن نروِّض ألسنتا على كثرة الاستغفار مع حضور القلب، بعد الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، وإتْباع ذلك بالعمل الصالح؛ حتى نسعد في الدارين، ونفوز برضا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
ألا وصلُّوا – عباد الله – على رسول الهُدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمَّد، وارضَ اللَّهُمَّ عن الخلفاءِ الأربعة الراشدين.
اللهُمَّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنَّتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللهم مَتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، واجعلنا أهلًا لأن يُستجاب دعاؤنا يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا صالحين في ظواهرنا وبواطننا حتى نكون أهلًا لأن يُستجاب لنا.
واشفِ اللهمَّ مرضانا، وارحم موتانا، وعليك بمن عادانا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، آمين.
اللَّهُمَّ انْتَصِرْ لِعِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ المُسْتَضْعَفِينَ فِي مَشَارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبِها، الَّلهُمَّ لا تَجْعَلْ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُومِنِيـنَ سَبِيلًا، اللَّهُمَّ خُذْهُمْ أَخْذًا وَبِيلًا، اللَّهُمَّ انْتَقِمْ منْهم كما انتقمْتَ من فـرْعـونَ وَمَلَئِهِ، اللَّهُمَّ سَلِّطْ عليهمُ الأَوْجَاعَ والأَمْرَاضَ، اللَّهُمَّ أذِقْهُمْ عذابَ الخِزْيِ في الدُّنْيا قَبْلَ الآخِرَةِ، اللَّهُمَّ اقْتُلْهُمْ بِبَغْيِهِمْ، اللَّهُمَّ أبْدِلْ عِزَّهُمْ ذُلًّا، وَحَوِّلْ يُسْرَهُمْ عُسْرًا، وَأَرْجِعْ بَأْسَهُمْ ضُعْفًا، اللَّهُمَّ أَسْعِدْ قلوبنا بِعِـزِّ الإسْلام وظُهُور المُسلمينَ، ونَصْـرِ الفئةِ المؤمنةِ يا ربَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ اجْمَعِ القلوبَ على طاعتِكَ، اللَّهُمَّ اهْدِ ضالَّ المُسْلمينَ، وثَبِّتْ مُطِيعَهُمْ، وارْزُقِ الجَمِيعَ الاِسْتِقامةَ على دِينِ اللهِ وَالتَّمَسُّكَ بِوَحْيهِ الكَريم، اللَّهُمَّ احْفَظْ بلادَنا وبلادَ المُسْلمينَ منْ كُلِّ سُوءٍ ومكْروهٍ، اللَّهُمَّ رُدَّ كَيْدَ الأعْداءِ في نحورهِم، واجْعَلِ الدَّائِرَةَ عليْهم، اللَّهُمَّ احْفَظْ للمسْلمينَ دينَهُم ودنْياهُم، ووحْدَتَهُم وأمْنَهُم، اللَّهُمَّ لاَ تُؤاخذْنا بما فعل السُّفهاءُ مِنَّا، اللَّهُمَّ من أراد بالإسلام والمسلمين خيرًا فوفِّقْهُ لِكُلِّ خَيْرٍ، ومن أراد بالإسلام والمسلمين شَرًّا فأهْلِكْهُ بشرِّهِ، وأرحِ البِلادَ والعبادَ منْ شَرِّهِ، اللَّهُمَّ وَلِّ أُمُورَنَا خِيارَنَا، وَلا تُوَلِّ أُمُورَنَا شِرَارَنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ وِلايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ وَاتَّقَـاكَ، وَلا تَجْعَلْ وِلايَتَنَا فِيمَنْ فَسَقَ وَعَصَاكَ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا، وَارْحَمْ وَالِدِينَا، وَارْحَـمْ مَنْ عَلَّمَنَا، وَالمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.