فضل الرب العلي فيما فضل الله به النبي صلى الله عليه وسلم
فضل الرب العلي فيما فضل الله به النبي صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي نوَّر بجميل هدايته قلوبَ أهل السعادة، وطهَّر بكريم ولايته أفئدة الصادقين فأسكَن فيها ودادَه، ودعاها إلى ما سبق لها من عنايته، فأقبلت منقادة، الحميد المجيد الموصوف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة، نحمَده على ما أَولى من فضلٍ وأفاده، ونشكره معترفين بأن الشكر منه نعمة مستفادة.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، شهادة أَعُدُّها من أكبر نعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقائه، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أقام به منابر الإيمان ورفع عماده، وأزال به سنان البهتان ودفع عناده.
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته، واقتدى بهديه، واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أم الحبيب المحبوب حبيب علام الغيوب – صلى الله عليه وسلم – نقف اليوم مع أول خطبة من خطب فضائل الحبيب النبي – صلى الله عليه وسلم – لنقتطف من بستان فضائله زهرات، فأعيروني القلوب والأسماع.
أولًا: من أعظم فضائله – صلى الله عليه وسلم – أن الله تعالى أقامه مقام ذاته:
إخوة الإسلام، من أعظم تلك الفضائل والخصائص أن الله تعالى أقامه مقام ذاته جل جلاله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 10].
قال الحافظ ابن حجر – وهو يتحدث عن بيعة صلح الرضوان -: (والسبب في ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث عثمان ليعلم قريشًا أنه إنما جاء معتمرًا لا محاربًا، ففي غيبة عثمان شاع عندهم أن المشركين تعرضوا لحرب المسلمين، فاستعد المسلمون للقتال وبايعهم النبي – صلى الله عليه وسلم – حينئذ تحت الشجرة على ألا يَفِرُّوا، وذلك في غيبة عثمان، وقيل: بل جاء الخبر بأن عثمان قُتل، فكان ذلك سبب البيعة)[1]ا.هـ.
وقد بايع النبي – صلى الله عليه وسلم – جميعُ الصحابة الذين كانوا معه بالحديبية لَما أُشيع أن عثمان قد قُتل، ولم يتخلف عن تلك البيعة إلا الجد بن قيس، فإنه اختبأ تحت بطن بعيره)[2].
ثانيًا: إسلام قرينه – صلى الله عليه وسلم – من الجن: ومن فضائل وخصائصه – صلى الله عليه وسلم – إسلام قرينه من الجن؛ عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما منكم من أحدٍ إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإيَّاك يا رسول الله؟ قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير”[3].
في هذا الخبر دليل على أن شيطان المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أسلم، حتى لم يأمره إلا بخير، لا أنه كان يَسلم منه، وإن كان كافرًا؛ انتهى.
والحاصل: أن قرينه – صلى الله عليه وسلم – أسلم؛ معجزة له – صلى الله عليه وسلم – حتى لا يكون صاحبه إلا مسلمًا، وإن كان طبيعة الشيطان الكفر، إلا أن هذا من خوارق العادة؛ إكرامًا من الله سبحانه وتعالى لنبيّه – صلى الله عليه وسلم – وتبجيلًا له، وتفضيلًا، قال الله عز وجل: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 87]، والله تعالى أعلم»[4].
ثالثًا: ومن فضائله – صلى الله عليه وسلم – أنه لبنة التمام وزينة الأنبياء، فهو أشرفهم وأجملهم، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؛ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَكَانَ مَنْ دَخَلَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ هَذِهِ اللَّبِنَةِ! فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، خُتِمَ بِيَ الْأَنْبِيَاءُ»[5].
رابعًا: جعله الله إمامًا لجميع الأنبياء عليهم السلام في الدنيا ليلة الإسراء:
ومن فضائله – صلى الله عليه وسلم – أن جعله الله تعالى إمامًا لجميع الأنبياء، فصلى بهم في بيت المقدس، فآدم عليه السلام فما دون من الأنبياء حتى عيسى عليه السلام، صلَّوْا خلف حبيبكم – صلى الله عليه وسلم – تكريمًا وتشريفًا وزيادةً؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ – يَعْنِي: نَفْسَهُ – فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ[6].
خامسًا: اتَّخذه الله خليلًا:
ومن فضائله – صلى الله عليه وسلم – أيها الإخوة الكرام أن الله اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ عن جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: (سمعتُ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يموتَ بخمس وهو يقول: إني أَبْرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، وإن الله قد اتخذني خليلًا، كما اتَّخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنتُ متخذًا من أُمَّتي خليلًا، لاتَّخذتُ أبا بكر خليلًا)[7].
وهناك كلمة شائعة عند الناس: يقولون: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله وموسى كليم الله، ولا شك أن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – حبيب الله، فهو حابُّ الله ومحبوبٌ لله، ولكن هناك وصف أعلى من ذلك، وهو خليل الله، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – خليل الله، والذين يقولون: محمد حبيب الله قد هضموا حقَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأن المحبة أقل من الخلة، ولذلك نقول: لا نعلم من البشر خليلًا لله إلا اثنان: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لكن المحبة كثيرٌ كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، و﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ﴾ [الصف: 4]، وغير ذلك من الآيات.
سادسًا: أن الله تعالى فضله الله بستٍّ لم يُعْطَها أحدٌ من النبيين عليهم السلام؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيَتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ”[8].
سابعًا: خيَّره ربُّه تعالى عند مرضه بين البقاء في الدنيا والانتقال للآخرة؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ﴿ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69]؛ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ»[9].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فثامنًا: أعطاه الله تعالى الوسيلة والمقام المحمود:
من فضائل النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الله تعالى أعطاه الوسيلة والمقام المحمود، رفع قدره في الدنيا ورفعه يوم الأشهاد؛ لأنه سيد وخير العباد؛ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: “اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي أَنْتَ وَعَدْتَهُ، إِلَّا حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[10].
قال الإمام القرطبي: ((قوله تعالى: ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال: الأول – وهو أصحها -: الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله حذيفة بن اليمان، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا، كل أمة تتبَع نبيَّها، تقول: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود))[11].
فهذا المقام المحمود يحمَده عليه كلُّ الخلق؛ لأنه سبب فك الأزمة وانفضاض الناس من الموقف للحساب، وله عليه الصلاة والسلام في هذا الموطن شفاعات متعددة: شفاعة في استفتاح باب الجنة، وشفاعة في تقديم من لا حساب عليه لدخول الجنة، وشفاعة في ناس من الموحدين عندهم معاصٍ وذنوب، استحقوا دخول النار ألا يدخلوها، وشفاعة في ناس موحدين دخلوا النار أن يخرجوا منها، وشفاعة في رفع درجات ناس في الجنة، وشفاعة في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب.
الوسيلة حاصلة للنبي عليه الصلاة والسلام، فنحن لماذا ندعو؟ نحن ندعو أن يؤتيه الله الوسيلة حتى نستفيد نحن وننال الشفاعة؛ لأن من سأل له الوسيلة حلت له الشفاعة، فإذا أردت يا عبد الله أن تنال شفاعة رسول الله، فسل الله الوسيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نحن نقول هذا الذكر من الأذكار بعد الأذان: (آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا)، وهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
تاسعًا: من فضائله أنه لا يراه أحد إلا هابه وأحبه – صلى الله عليه وسلم -:
إخوة الإسلام، من فضائل نبينا الهمام – صلى الله عليه وسلم – أن ألقى المهابة على مظهره الشريف في القلوب، فما شاهده أحدٌ قط إلا هابَة، وأُلقِيت في قلبه الهيبةُ منه – صلى الله عليه وسلم – كان علي رضي الله عنه إذا نعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَن رآه بديهةً هابه، ومَن خالطه معرفةً أحَبَّه”[12].
جمع الله عز وجل لنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – صفات الجمال والكمال البشري، وكريم الصفات والأخلاق والأفعال، حتى أبهرت سيرته القريب والبعيد، وتَمَلَّكت هيبتهُ العدو والصديق، فكان – صلى الله عليه وسلم – صاحب هيبة تعلوه، ووقار يحيط به، وكان الذي يراه لأول وهلة يرى عليه المهابة والوقار، والذي يخالطه يرى تواضعه ورحمته، ويعرف مكارم وعظم أخلاقه، وعن عمرو بن العاص، قال: “وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ”[13].
وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: “قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ”[14].
قال الطيبي: “(وكان قد أُلقيت عليه المهابةُ)، كان هي التي تفيد الاستمرار، ومن ثم كان أصحابه في مجلسه كأن على رؤوسهم الطير، وذلك عزة منه لا كِبْر وسوء خلق، وإن تلك العزة ألبسها الله تعالى إياه صلوات الله عليه لا مِنْ تلقاء نفسه”، وعن قَيْلَة بنت مَخْرَمَةَ الغنوية: أنها رأت رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – في المسجد وهو قاعد القرفصاء, قالت: (فلما رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المتخشع، أُرْعِدْتُ من الفرَق (الخوف والفزع)).
قال البيضاوي: “والمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام مع اشتهاره بالتخشع، لما رأيته هِبته بحيث أُرْعِدْتُ من الفرَق, وهذا غاية في المهابة, ودليل على أن مهابته أمر سماوي ليس بالتصنع”، وقال الطيبي: “وهو مبالغة لكمال التخشع فيه وإلقاء رداء الهيبة عليه”، وفي “مسند أبي يعلى” عن البراء بن عازب ر ضي الله عنه قال: (إن كان لتأتي عليَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن شيء، فأتهيَّب منه).
قال ابن القيم: “والفرق بين المهابة والكِبر: أنّ المَهَابة أثرٌ من آثار امتلاء القلب بعظمه الله ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك، حلَّ فيه النور ونزلت عليه السكينة، وأُلْبِسَ رداء الهيبة، فاكتسى وجهه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبة ومهابة، فحنَّت إليه الأفئدة، وقرَّت به العيون، وأَنِست به القلوب، فكلامه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعمله نور، وإنْ سكت علاه الوقار، وإن تكلم أخذ بالقلوب والأسماع، وأما الكِبْر فأثرٌ من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحلت منه العبودية ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختُر، ومعاملته لهم معاملة الاستيثار لا الإيثار، ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهًا، لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ في الإنعام عليه، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقًّا، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، ولا يزداد من الله إلا بُعدًا، ولا من الناس إلا صغارًا وبغضًا”.
الحادي عشر: كان – صلى الله عليه وسلم – يرى بعينيه من خلفه كما يرى من أمامه:
إخوة الإسلام، أحباب النبي الهمام – صلى الله عليه وسلم – ومن فضائل نبينا وخصائصه أنه -صلى الله عليه وسلم – كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ فَوَاللهِ، مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلَا سُجُودُكُمْ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ وَرَاءَ ظَهْرِي»[15].
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَدِ انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي إِمَامُكُمْ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالْقُعُودِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ أَمَامِي، وَمِنْ خَلْفِي، وَايْمُ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، “قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: “رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ”[16].
قال ابن حجر: والصواب المختار أنه محمولٌ على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به – صلى الله عليه وسلم – انخرقت له فيه العادة، وعلى هذا عمل المصنف – البخاري – فأخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره[17].
ونحو ذلك قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها؛ لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة، وقال القرطبي: بل حملها على ظاهرها أولى؛ لأن فيه زيادة في كرامة النبي – صلى الله عليه وسلم[18].
ومن المعلوم أن هذا الأمر مقيَّد بالصلاة كما هو واضح من نص الحديثين، ولم يرِد في السنة ما يشير إلى أنه – صلى الله عليه وسلم – كان كذلك خارج الصلاة؛ قال ابن حجر: وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة [19].
اللهم استُرنا ولا تفضَحنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم لا تدَع لأحدٍ منا في هذا المقام الكريم ذنبًا إلا غفرتَه، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا دَينًا إلا قضيتَه، ولا همًّا إلا فرَّجتَه، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا عاصيًا إلا هديتَه، ولا طائعًا إلا سدَّدته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاحٌ إلا قضيتَها يا رب العالمين.
[1] فتح الباري 7/59، ص/448، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/315، تاريخ الأمم والملوك 2/631، دلائل النبوة البيهقي 4/134، البداية والنهاية لابن كثير 4/189، الجامع لأحكام القرآن 16/276.
[2] صحيح مسلم 3/83.
[3] وأخرجه مسلم (2814) (69)، وابن خزيمة (658)، والبيهقي في “دلائل النبوة” 7/100.
[4] «البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج» (43/ 504).
[5] البخاري (3534)، ومسلم (2287) (3)، والترمذي (2862).
[6] رواه مسلم (168)، والبخاري (3394)، والترمذي (3829).
[7] صحيح مسلم (1/ 377 – 378 رقم 532).
[8] وأخرجه مسلم (523) (5) في أول كتاب المساجد، والترمذي 4/123 في السير: باب ما جاء في الغنيمة.
[9] أخرجه البخاري (4435)، و(4586)، ومسلم (2444) (86)، والنسائي في “الكبرى” (10867).
[10] أخرجه البخاري في “صحيحه” (614) و(4719)، وفي “خلق أفعال العباد” (142)، وابن ماجه (722)، والترمذي (211).
[11] [الجامع لأحكام القرآن (309/ 10)].
[12] الترمذي (3638)، ومصنف ابن أبي شيبة (3180)، وشعب الإيمان للبيهقي (1350).
[13] المسند 4/ 203، ورجاله رجال الصحيح، عدا حبيب، وهو ثقة، ومن طريق شعبة أخرجه الترمذي 4/ 436 (2227)، وقال: حسن غريب صحيح، وابن أبي عاصم في السنة 2/ 745 (1110) وصحّحه الألباني – الصحيحة 3/ 145 (1155).
[14] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين، ولو كانوا مشركين، ح (45)، (2/ 694).
وأخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحَجر، ح (1466)، (1/ 121)
[15] رواه البخاري، انظر الفتح 2 (741)، ومسلم برقم (424).
[16] وأخرجه مسلم (426) (113)، وأبو يعلى (3957) و(3963)، وابن خزيمة (1602) و(1716).
[17] فتح الباري 1 /514.
[18] فتح الباري 2 /207.
[19] فتح الباري 1 /515.