فضل الصلاة وآثارها
فضل الصلاة وآثارها
الصلاة عبادة عريقة في القدم، وشعيرة مشتركة بين الديانات عامة، ولم يعرف تاريخ الأديان دينًا بغير صلاة. يذكرها القرآن في دعاء الخليل إبراهيم ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]، ويمدح بها الذبيح إسماعيل ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 55]، ويأمر الله كليمه موسى بإقامتها أول ما يأمره به في ساعات الوحي الأولى ﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 13، 14]، ويوحي إليه وإلى أخيه هارون ﴿ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [يونس: 87]، وفي وصية لقمان لابنه ﴿ يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]، وينطق المسيح عيسى في مهده ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]، ويأمر الله بها خاتم أنبيائه ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [العنكبوت: 45]، وهي أول عبادة فرضت على المسلمين؛ فقد فرضت في مكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، وكانت طريقة فرضيتها دليلًا على عناية الله بها؛ إذ فرضت العبادات كلها في الأرض، وفرضت الصلاة وحدها في السماء ليلة الإسراء والمعراج بخطاب مباشر من رب العالمين إلى خاتم المرسلين من غير واسطة.
ولها في الإسلام منزلة لا تعادلها منزلة أي عبادة أخرى؛ فهي غرة الطاعات، وعماد الدين الذي لا يقوم إلا به، قال عليه الصلاة والسلام: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله))[1]، وهي أفضل أعمال الإسلام وأجلُّها قدرًا وأعظمها شأنًا، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الصلاة لمواقيتها))، وهي طهرة للنفوس من الذنوب والآثام، قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقي من درنه؟))، قالوا: لا شيء، قال صلى الله عليه وسلم: ((فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن))[2]، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه))، وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كَفَّارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأتِ بكبيرة، وذلك الدهر كله))[3]، وقد بلغ من عناية الإسلام بها أن أمر بالمحافظة عليها في الحَضَر والسَّفَر، والأمن والخوف، والسلم والحرب، قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ﴾ [البقرة: 238، 239]؛ أي: فصلُّوا في حال الخوف والحرب، مشاة أو راكبين، كيف استطعتم بغير ركوع ولا سجود؛ بل بالإشارة والإيماء، وبدون اشتراط استقبال القبلة للضرورة، هنا قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]، وهي أول ما يحاسب عليه العبد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله))؛ رواه الطبراني.
وهي آخر وصية وصَّى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه عند مفارقة الدنيا، جعل يقول وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: ((الصلاة، الصلاة وما ملكت أيمانكم))، وهي آخر ما يفقد من الدين، فإن ضاعت ضاع الدين كله، قال عليه الصلاة والسلام: ((لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبَّث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة))؛ رواه ابن حِبَّان من حديث أبي أمامة. وقد شدَّد الإسلام النكير على من يفرط في الصلاة، وهدَّد الذين يضيعونها، فقال جل شأنه في سورة مريم: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59]، وقال تعالى في سورة الماعون: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [الماعون: 4، 5][4]، كما وردت أحاديث كثيرة في تعظيم شأن الصلاة، والحث على أدائها في أوقاتها، والنهي عن الاستهانة بأمرها، والتكاسُل عن إقامتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا سهم في الإسلام لمن لا صلاة له))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة))، وفي هذا الحديث زجر شديد للمسلم الذي يتسلط عليه الكسل؛ فيحمله على ترك الصلاة التي يمتاز بها عن الكافر، حتى قال بعض أئمة المالكية: إن تارك الصلاة عمدًا كافر، وعلى كل حال فقد أجمعوا على أنها ركن من أركان الإسلام، فمن تركها فقد هدم ركنًا من أقوى أركانه.
وقد فرض الله تعالى في اليوم والليلة خمس صلوات؛ هي: صلاة الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وللصلاة أوقات محددة لا بد أن تُؤدَّى فيها؛ لقوله تعالى في سورة النساء: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]؛ أي: فرضًا محدودًا بأوقات لا يجوز الخروج عنها، وقال عليه الصلاة والسلام: ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقِّهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة))[5]، وقد شرع التطوع في الصلاة ليكون جبرًا لما عسى أن يكون قد وقع في الفرائض من نقص، ولما في الصلاة من فضيلة ليست لسائر العبادات، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي، أتمَّها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئًا، قال: انظروا، هل لعبدي من تطوُّع؟ فإن كان له تطوُّع، قال: أتمُّوا لعبدي فريضته من تطوُّعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك))؛ رواه أبو داود. ويستحب أداء صلاة التطوع في البيت، روى أبو داود بإسناد صحيح عن زياد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاةُ المرءِ في بيته أفضلُ من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة))، وأقسام التطوُّع إما مطلق يقتصر فيه على نية الصلاة، ويصلي أي عدد من الركعات، فله أن يسلم من ركعة، وله أن يزيد إلى ما يشاء، ولو صَلَّى عددًا لا يعلمه ثم سلم صحَّ بلا خلاف، أما التطوُّع المقيد ينقسم إلى ما شرع تبعًا للفرائض ويسمى السنن الراتبة؛ كالنوافل القبلية والبعدية، وسنن غير راتبة أو غير تابعة للصلاة المكتوبة؛ كقيام الليل، وصلاة التراويح في رمضان، وصلاة الضحى، والاستخارة، والتسبيح، والحاجة، والتوبة، والكسوف والاستسقاء[6]، وشروط الصلاة دخول وقتها، والطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وطهارة البدن والثوب والمكان، وستر العورة، واستقبال القبلة[7].
والصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال، وعليه فإن الصلاة التي يريدها الإسلام ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبُّر من عقل، ولا خشوع من قلب، وليست تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة، ويخطفها خطف الغراب، ويلتفت فيها التفات الثعلب؛ بل إن الصلاة المقبولة هي التي تأخذ حقها من التأمل والخشية، واستحضار عظمة المعبود جل جلاله، وهي التي قال الله تعالى في شأنها: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]؛ وذلك لأن القصد الأول من الصلاة بل من العبادات كافة هو تذكير الإنسان بربِّه الأعلى ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 2، 3]؛ ولذا قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]، وقال علية الصلاة والسلام: ((إنما فُرِضت الصلاة، وأمر بالحج، وأشعرت المناسك؛ لإقامة ذكر الله تعالى))؛ رواه أبو داود، ولا يتحقق المقصود من الأذكار والمناجاة ممن غفل قلبه، فلا يكون ذاكرًا لربِّه؛ لأن النطق إذا لم يعرب عما في الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال ومتى خرج الفعل عن مقصوده بقي صورة لا اعتبار بها؛ ومن ثم لا يكون مصليًا صلاة حقيقية، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه))، وقد سامح الشارع في غفلة تطرأ؛ لأن حضور القلب في أولها ينسحب حكمه على باقيها[8]، فهذا تنبيه على أهمية حضور القلب في الصلاة، وأما حضور العقل فحسبنا قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43]، فنَبَّه بهذا التعليل على وجوب حضور العقل في الصلاة، فكم من مُصَلٍّ لا يعلم ما يقول في صلاته وهو لم يشرب خمرًا؛ وإنما أسكره الجهل والغفلة وحب الدنيا واتِّباع الهوى! ويقول ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفَكُّر خيرٌ من قيام ليلة، والقلب ساهٍ، هذه هي الصلاة التي كانت قرة عينه عليه الصلاة والسلام، والتي كان يحنُّ إليها ويتلهَّف عليها ويقول لبلال: ((أرحنا بها!))، هذه هي صلاة الأنس والحب، لا صلاة النقر والخطف التي يؤديها كثير من المسلمين، وما أعظم الفرق بين من يقوم إلى صلاته وهو يقول: ((أرحنا بها))، وبين من يقوم إليها وهو يقول: أرحنا منها.
وللصلاة أحسن الأثر في تهذيب النفوس وتقويم الأخلاق، ففي كل جزء من أجزائها تمرين على فضيلة من الفضائل الخلقية، وتعويد على صفة من الصفات الحميدة، فقد جمعت من الفوائد أنواعًا، ومن المنافع أصنافًا، ومن الفضائل ألوانًا، فعزم القلب على امتثال أمر الله تعالى بأداء الصلاة كاملةً، كما أمر بها الله مع الإخلاص له وحده يطبع الإخلاص في نفس المصلي، ويصبح صفة من صفاته الفاضلة التي لها أجمل الأثر في حياة الأفراد والجماعات، فلا شيء أنفع في حياة المجتمع الإنساني من الإخلاص في القول والعمل. ووقوف المصلي بين يدي خالقه خاشعًا خائفًا وجلًا من جلال ذلك الخالق القادر القاهر ذي السطوة التي لا تحد، والمشيئة التي لا ترد ثم ركوعه وسجوده غير مكتفٍ بانحناء ظهره بالكيفية المخصوصة في الركوع ووضع جبهته على الأرض في السجود، بل وأيضًا استشعار قلبه بأنه عبد ذليل ينحني أمام عظمة إله عزيز كبير لا حَدَّ لقدرته، ولا نهاية لعظمته، أقرب إليه من حبل الوريد، يسمع منه ما يقول، ويعلم من قلبه ما ينوي، فإذا انطبع ذلك المعنى في قلب المُصلِّي مرات كثيرة في اليوم والليلة كان قلبه دائمًا خائفًا من ربِّه، فلا يعمل إلا ما يرضيه، فيأتمر بما أمره به، وينتهي عمَّا نهاه عنه، وتصلح أعماله الظاهرة والباطنة فلا ينتهك للناس حرمة، ولا يعتدي لهم على نفس، ولا يظلمهم في مال، ولا يؤذيهم في دين، ولا يصدر عنه للناس إلا المنفعة والخير، وفي ذلك الخير كله للنوع الإنساني. وعندما يحرك المصلي لسانه بالقراءة متدبرًا معاني قراءته، متعظًا بما يقول، فإذا مَرَّ على لسانه ذكر الإله الخالق وجل قلبه خوفًا من عظمته وسطوته كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]، وإذا ذكرت صفة من صفات الله وجب عليه أن يعلم نفسه كيف تتخَلَّق بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تخَلَّقوا بأخلاق الله))، فإذا ما قرأ في صلاته الآيات التي تشتمل على هذه الصفات، وعقل معناها، وكرَّرها في اليوم والليلة مرات كثيرة، فإن نفسه تتأثر بها لا محالة، ومتى تأثرت نفسه بجميل الصفات حبب إليه الاتصاف بها؛ ولذلك أحسن الأثر في تهذيب النفوس ونهيها عن الفحشاء والمنكر، فلا يبقى مع الصلاة دنس الفحشاء والمنكر، وبذلك يكون من المسلمين حقًّا، كما قال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، فالصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي تلك الصلاة التي يكون العبد فيها معظمًا لربِّه خائفًا منه، راجيًا رحمته، فحظ كل واحد من صلاته إنما هو بقدر خوفه من الله، وتأثر قلبه بخشيته؛ لأن الله سبحانه إنما ينظر إلى قلوب عباده لا إلى صورهم الظاهرة. هذا ويتعلق بالصلاة أمور أخرى لها فوائد اجتماعية جليلة الشأن منها الجماعة، فقد شرع الإسلام الجماعة في الصلاة، وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفَذِّ بسبع وعشرين درجة))، ففي الاجتماع لأداء الصلاة بصفوف متراصَّة متساوية تعارُفٌ بين الناس، يقرب بين القلوب المتنافرة، ويزيل منها الضغائن والأحقاد، وذلك من أجل عوامل الوحدة التي أمر الله تعالى بها في كتابه العزيز، فقال: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، وفي الاجتماع لأداء الصلاة تذكير بالأخوة التي قال الله عنها: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، فالمؤمنون الذين يجتمعون لعبادة ربٍّ واحدٍ لا ينبغي لهم أن ينسوا أنهم أخوة يجب أن يرحم كبيرُهم صغيرَهم، ويوقر صغيرُهم كبيرَهم، ويواسي غنيُّهم فقيرَهم، ويعين قويُّهم ضعيفَهم، ويعود صحيحُهم مريضَهم، عملًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرَّج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة))[9].
والصلاة بهذه الكيفية قوة للمسلم تعينه في محنته، تحثه على الصبر والتحمُّل، وتقوِّي عزيمته، وتربط على قلبه، وتريح فكره وجسده من مشاغل الحياة، قال تعالى في سورة البقرة ﴿ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 153]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فوقع في شدة، فزع إلى الصلاة وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام، ولا يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادًا للطريق، وريًّا في الهجير، ومددًا حين ينقطع المدد، ورصيدًا حين ينفد الرصيد، وهي كذلك تكون سببًا في قضاء الحاجات وتحقيق الأماني والرغبات، فعن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ، وليحسن وضوءه، ثم ليصلِّ ركعتين، ثم يثني على الله تعالى، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعصمة من كل ذنب، والغنيمة من كل بِرٍّ، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته، ولا هَمًّا إلا فرَّجته، ولا حاجة هي لك رضًا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين، ثم يسأل من أمر الدنيا والآخرة ما شاء، فإنه يقدر))؛ أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فقد شرع القنوت جهرًا في الصلوات الخمس عند النوازل[10]، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء))[11]، فكم نيل بها من أنواع الخيرات وعظيم البركات، قال تعالى في سورة طه: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾ [طه: 132] يعني إذا أقمت الصلاة آتاك الرزق من حيث لا تحتسب. وعن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله: ((يا أهلاه، صلوا، صلوا)) [12]، كما سن رسول الله عليه الصلاة والسلام في حالة القحط وامتناع المطر صلاة الاستسقاء لتكون الصلاة عاملًا للرزق بنزول المطر سبب الخير والنماء والحياة، والاستسقاء بمعنى طلب سقي الماء، ومعناه هنا طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب وانقطاع المطر، وكيفيتها أن يصلي الإمام بالمأمومين ركعتين من غير أذان ولا إقامة في أي وقت غير وقت الكراهة يجهر في الأولى بالفاتحة و(سبح اسم ربك الأعلى) والثانية بالغاشية بعد الفاتحة، ثم خطبة بعد الصلاة أو قبلها، فإذا انتهى من الخطبة حول المصلون جميعًا أرديتهم بأن يجعلوا ما على أيمانهم على شمائلهم، ويجعلوا ما على شمائلهم على أيمانهم، ويستقبلوا القبلة، ويدعوا الله عز وجل رافعي أيديهم مبالغين في ذلك.
عن عائشة قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر- أي: احتباسه- فأمر بمنبر، فوضع له بالمُصلَّى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس- أي: ضوؤها- فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله ثم قال: ((إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم))، ثم قال: ((الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت علينا قوةً وبلاغًا إلى حين))، ثم رفع يديه فلم يزل (يدعو) حتى رؤي بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس، ونزل فصلَّى ركعتين، فأنشأ الله تعالى سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله تعالى، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول، فلمَّا رأى سرعتهم إلى الكن- أي البيت- ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله))؛ رواه الحاكم، وصحَّحه، وأبو داود، وقال: هذا حديث غريب وإسناده جيد[13]. وهكذا فإن في الصلاة شرح للصدور، وزوال للهموم، وإذهاب للغموم، وإعانة على أمور الحياة وقضايا الحاجات.
[1] فقه السنة، السيد سابق، ج1، ص90.
[2] الفقه على المذاهب الأربعة، عبدالرحمن الجزيري، ج1، ص172.
[3] مختصر منهاج القاصدين، أحمد بن عبدالرحمن بن قدامة المقدسي، ص29.
[4] فقه السنة، السيد سابق، ج1، ص90 – 92.
[5] الفقه على المذاهب الأربعة، عبدالرحمن الجزيري، ج1، ص 172.
[6] فقه السنة، السيد سابق ج1، ص181 – 183.
[7] فقه السنة السيد سابق، ج1، ص123 – 130.
[8] مختصر منهاج القاصدين، أحمد بن عبدالرحمن بن قدامة المقدسي، ص28 و29.
[9] الفقه على المذاهب الأربعة، عبدالرحمن الجزيري، ج1، من ص170 إلى ص172.
[10] فقه السنة، السيد سابق، ج1، ص 197– 198.
[11] سنن أبي داود للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ج1، ص231.
[12] تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج3، ص171.
[13] فقه السنة، السيد سابق، ج1، ص215 – 216.