فضل القرآن الكريم (خطبة)
فضل القرآن الكريم
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، قيُّوم السماوات والأرَضين، مدبِّر الخلائق أجمعين، باعثِ الرسل – صلواته وسلامه عليهم – إلى المكلَّفين لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعيَّة وواضحات البراهين، أحمَده على جميع نِعَمِهِ، وأسأله المزيدَ من فضله وكرمه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، أفضل المخلوقين، المكرَّم بالقرآن العزيز، المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين المخصوص بجوامع الكَلِم وسماحة الدين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر النبيين والمرسلين، وآل سائر الصالحين؛ أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فهي خير زاد؛ ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، وهي خير لِباسٍ؛ ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].
أيها المؤمنون، أنزل الله القرآنَ معجزةً خالدةً، وتحدَّى به الثَّقَلَين، فأذعن لفصاحته بُلغاؤهم، وانقاد لحِكَمِهِ حُكماؤهم، وانبهر بأسراره علماؤهم، وانقطعت حُجَجُ معارضيه، وظهر عجزهم، كيف لا وهو كلام الحكيم الخبير، الذي لا يطاوله كلامٌ ولا يُجاريه أسلوب؟! قول إيجازٍ، وآياتُ إعجاز.
يسَّر ذِكْرَه للذاكرين، وسهَّل حفظه للدارسين، فهو للقلوب ربيعُها، وللأبصار ضياؤها، جعله الله نورًا، وإلى النور يهدي، وصراطًا مستقيمًا ينتهي بسالكيه إلى جنة الخلد، لا تمَلُّه القلوب، لا تتعب من تلاوته، لا يَخْلُق مع كثرة التَّرداد.
القرآن دستور حياة المؤمنين، هو عمود الملَّة، يَنبوعُ الحكمة، آية الرسالة، نور الأبصار والبصائر، لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، وإذا كان كذلك، لزِم مَن رام الهدى والنورَ والسعادة في الدارين أن يتخذَه سميرَه وأنيسه، وأن يجعله جليسَه على مرِّ الأيام والليالي؛ نظرًا وعملًا، لا اقتصارًا على أحدهما، فيُوشك أن يفوز بالبُغية، ويجد نفسه مع السابقين وفي الرعيل الأول.
الجيل الأول في صدر الإسلام ساروا على نهج القرآن، فأصبحوا خيرَ أُمَّةٍ أُخرجت للناس، لم يكن القرآنُ عندهم محفوظًا في السطور، بل كان مكنونًا في الصدور، ومحفوظًا في الأخلاق والأعمال، يسير أحدهم في الأرض وهو يحمل أخلاق القرآن وآدابه ومبادئه.
شهِد الأعداء بعظمة القرآن وسموِّ معانيه؛ فقد أتى الوليد بن المغيرة مرَّةً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا محمدُ، اقرأ عليَّ القرآن، فيقرأ عليه الصلاة والسلام: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، ولم يكد يفرُغ الرسول صلى الله عليه وسلم من تلاوتها، حتى يُطالِبَ الخَصمُ الألدُّ بإعادتها؛ لجلالة لفظها، وقدسية معانيها، ولم يلبَث أن يسجِّل اعترافه بعظمة القرآن قائلًا: “والله، إن له لَحلاوةً، وإن عليه لَطَلاوةً، وإن أسفله لَمُورِقٌ، وإن أعلاه لَمُثمر، وما يقول هذا بشرٌ”.
يخبر الرب تبارك وتعالى عن عظمة القرآن وجلاله، وأنه لو خُوطب به صُمُّ الجبال؛ لَتصدَّعت من خشية الله: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21].
القرآنُ خلع أفئدة الكفار، وألقى الهيبةَ في قلوبهم، فهذا جبيرُ بن مُطعِم – وكان مشركًا من أكابر قريش وعلماء النسب فيها – لما أُخِذ في أسرى بدرٍ، ورُبط في المسجد، سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الطور: 35]، قال: “كاد قلبي أن يطير، كان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي”.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يصلي في بيته ويقرأ القرآن، فيتقصَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يستمعون عند داره، يعجَبون وينظرون إليه، فأفزع ذلك أشرافُ قريشٍ من المشركين.
وكذلك فإن الجنَّ والإنس مسلمهم وكافرهم الذين سمِعوه، لم يملكوا أنفسهم؛ حين سمعوا قول الله: ﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾ [النجم: 59 – 62]، فسجدوا هيبةً للقرآن، لقد تأثَّر الجن به؛ ﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ﴾ [الجن: 1، 2].
وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ﴾ [الأحقاف: 29]، لقد أصبحوا بفضل القرآن دعاةً إلى الله، فولَّوا إلى قومهم منذرين؛ ﴿ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ﴾ [الأحقاف: 30].
أيها المؤمنون:
القرآن الكريم هو الكتاب المهيمن على ما عداه من الكتب التي أنزلها الله جل وعلا: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، وفي السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تبيِّن فضائلَ القرآن الكريم وما اختُصَّ به الخِلال؛ ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا القرآن سببٌ، طَرَفُه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به؛ فإنكم لن تضلوا، ولن تَهْلِكوا بعده أبدًا))؛ [رواه الطبراني بإسناد جيد، وصححه الألباني].
وعن زيد بنِ أرقم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((ألَا وإني تاركٌ فيكم ثَقَلَين: أحدهما كتاب الله عز وجل، هو حبل الله، ومن اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة))؛ [رواه مسلم].
وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقول: ((أما بعد؛ فإن خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد))؛ [رواه مسلم]، فمن أراد النجاةَ والفَلاح، فعليه بكتاب الله تعالى، ومن أراد الخير الكثير والأجر الوافر، فليقرأ كتاب الله تعالى؛ يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29، 30].
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مَثَلُ الأُتْرُجَّة، ريحها طيِّب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، لا ريح لها، وطعمها حلو))؛ [متفق عليه].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ﴿ الم ﴾ حرف، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولام حرف، وميم حرف))؛ [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
ومن قرأ القرآن ماهرًا به، فهو يوم القيامة مع الملائكة السَّفَرَةِ الكِرام البَرَرة؛ فعن عائشة رضي الله عنها: ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويَتَتَعتَعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجران))؛ [متفق عليه].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيُحِبُّ أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجِدَ فيه ثلاث خَلِفات عِظام سِمان؟ قلنا: نعم قال: فثلاثُ آياتٍ يقرأ بهن أحدكم في صلاةٍ خيرٌ له من ثلاث خلفات عظام سمان))؛ [رواه مسلم].
وهذا قتادة رضي الله عنه رحمه الله يقول: “اعمُروا به قلوبكم واعمُروا به بيوتكم”؛ أي: القرآن؛ [أخرجه الدارمي].
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: “إن البيت لَيتسع على أهله، وتحضُره الملائكة، وتهجُره الشياطين، ويكثُر خيره أن يُقرَأ فيه القرآن، وإن البيت لَيضيق على أهله، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين، ويقل خيره ألَّا يُقرَأ فيه القرآن”.
وللقرآن الكريم مع أهله يوم القيامة مواقفُ عجيبة؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه))؛ [رواه مسلم].
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُؤتَى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تَقدُمه سورة البقرة وآل عمران، تُحاجَّان عن صاحبهما))؛ [رواه مسلم].
وعند تلاوة القرآن ومدارسته تتنزل الملائكة والسَّكِينة والرحمة؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط بَشَطَنَينِ، فتغشَّتْهُ سحابة فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: تلك السَّكِينة تنزَّلت للقرآن))؛ [متفق عليه].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السَّكِينة، وغَشِيَتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذَكَرَهم الله فيمن عنده))؛ [رواه مسلم].
وفي تلاوة القرآن الكريم أمانٌ بإذن الله من الغفلة؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قام بعشر آيات لم يُكتَب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتِب من القانتين، ومن قام بألف آية كُتب من الْمُقَنْطَرين))؛ [أبو داود، وصححه الألباني].
عباد الله، وما يؤكد المكانة السامية لهذا القرآن أن خيرَ الناس مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه؛ كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أحقَّ الناس بالإمامة في الصلاة أقرؤهم، بل إن أهل القرآن لهم المكانة والرفعة؛ ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين))؛ [رواه مسلم].
وقد كان من هَدْيِ السلف المستَقَرِّ لديهم تلاوةُ وِرْدٍ يوميٍّ من كتاب الله تعالى، بأن يجعل أحدهم له قدرًا يقرؤه يوميًّا، ويتعاهد نفسه عليه بحيث يختم القرآن في كل شهر، أو عشرين يومًا، أو أقل من ذلك.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((اقرأ القرآن في كل شهر قال: قلت: يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: فاقْرَأْه في سَبْعٍ، ولا تَزِدْ عن ذلك)).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((من نام عن حِزْبِهِ أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل))؛ [رواه مسلم].
وثبت عن ابن مسعود وعثمان وتميمٍ الداريِّ، وجمعٍ من أئمة التابعين، أنهم كانوا يختِمون القرآن في سبعة أيام.
عباد الله، إن الكلام يعظُم بعِظَمِ قائله، فكيف إذا كان المتكلم هو الله جبار السماوات والأرض؟! ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
وعنوان الشعائر الإلهية هو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو عظيم عند الله، وهو في اللوح المحفوظ؛ ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الزخرف: 4]؛ قال ابن كثير في معنى الآية: “بيَّن شرفه في الملأ الأعلى ليشرِّفه ويُعظِّمه ويُطيعه أهلُ الأرض”.
وإن تعظيم كلام الله تعظيمٌ لله؛ قال النووي رحمه الله: “أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق، وتنزيهه وصيانته”.
قال القاضي عياض رحمه الله: “من استخفَّ بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه، فهو كافر بإجماع المسلمين”.
يعظُم كتابُ الله بحُسن التلاوة، وتصديق الأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وبما شرع الله لكم أن تعظِّموه به.
إن تعظيم كلام الله ليس بتزيينه وتفخيم طباعته، وليس بتعليقه على جدران البيوت، وليس بقراءته على الأموات، بل بإقامة حروفه وحدوده، وتعظيم شأنه، والسَّير على منهاجه؛ ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
ومن تعظيم كتاب الله ألَّا يقرأه الإنسان وهو جُنُبٌ، وألَّا يَمَسَّ المصحف إلا على طهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم ((ألَّا يَمَسَّ القرآن إلا طاهرٌ)).
ومن تعظيم القرآن أنه لا يجوز الكلام فيه بغير علم؛ يقول الإمام النووي رحمه الله: “ويحرُم تفسيره بغير عِلْمٍ، والكلام في معانيه لمن ليس من أهلها”.
ومن تعظيم القرآن حقَّ تعظيمه إحضارُ القارئ قلبَه في القراءة والتفكُّر فيها؛ روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج فيكم قوم تحقِرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعِمْلَكم مع عملهم، يقرؤون القرآن لا يُجاوِز حناجرهم، يمرُقون من الدين كما يمرُق السهم من الرَّمِيَّة)).
ومن تعظيم القرآن تنظيفُ الفم لأجل القراءة بالسِّواك والمضمضة؛ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا أن أشُقَّ على أُمَّتي – أو على الناس – لَأمرتُهم بالسِّواك مع كل صلاة))، وظاهر هذا أنه كان يفعل هذا للصلاة وقراءة القرآن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أنزل كتابه هُدًى ورحمة، وجعله لمن عمِل به عزَّةً ورفعةً، الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، الحمد لله علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمه البيان، الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فاتقوا الله – أيها الناس – في كتاب ربِّكم، فالخيرُ كلُّ الخير في التمسُّكِ به وتعظيمه، والشر كل الشر في التخلي عنه وهجره.
اتقوا لله وآمنوا برسوله، اتبعوه واتبعوا النور الذي أُنزل معه لعلكم تفلحون.
اتقوا الله عباد الله، واقْدِروا لصاحب الكلام قَدْرَه، ولا تكونوا ممن قال الله فيهم: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67].
كونوا ممن يغار لله إذا انتهكت حُرُمات الله، عظِّموا كلامَ الله واحفظوه يحفظكم ويرفعكم، قيل لبِشْر الحافي: يا بِشْرُ، إن لك اسمًا له هيبة كأسماء الأنبياء، فما سرُّ هذا؟! ما سرُّ هذا الاسم الذي يحمل كل هذه الهيبة؟! فقال: كنت أسير بطريق في مرة من المرات، فإذا بورقة مُلقاة على جانب الطريق، رفعتُها فإذا مكتوبٌ فيها الرحمن، قلت: اسم الرحمن يُمتهن، فرفعتُ الورقة وطويتُها وطيَّبتُها، ثم وضعتها في جيبي، فجاءني آتٍ في منامي قال: رفعتَ اسمنا فرفعناك، وطيَّبتَ اسمنا فطيَّبناك.
عباد الله، خرج أمير المؤمنين عمرُ من المدينة إلى مكةَ، فاستقبله أميرها في الطريق، فقال له عمر: من خلَّفت في أهل الوادي، قال: خلفت فيهم ابن أبزى مولى من موالينا، قال: وخلَّفتَ فيهم مولى؟! قال: يا أمير المؤمنين، إنه حافظ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قال: نعم، سمِعتُ نبيَّكم محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين))، فالتفضيل بالإيمان والعمل، لا بالنسب والحسب.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحدٍ يسأل إذا أراد دفن الميت: ((أيهم أكثر قرآنًا؟)) فيُقدِّمه جهة القِبلة.
ألَا وصلوا – عباد الله – على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين.
اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجعلنا ممن يعظُم كتابك.
اللهم اجعلِ القرآنَ ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وجِلاء أحزاننا.
اللهم اجعله شفيعًا لنا، وشاهدًا لنا، لا شاهدًا علينا.
اللهم ألبِسْنا به الحُلَلَ، وأسكنَّا به الظُّلَلَ.
واجعلنا به يوم القيامة من الفائزين، وعند النَّعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وتولَّ أمرنا، واهدِ شبابنا.
اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقى، والعَفاف والغِنى.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].