فوائد دعوية من منهج الدرس البلاغي


فوائد دعوية من منهج الدرس البلاغي

 

بين الدَّعوة إلى الله تعالى وبين الدَّرس البلاغي علاقةٌ وثيقة؛ ذلك أنَّ الدعوة إلى الله قائمةٌ على “الكلمة”، فالموعظة “كلمة”، والمُجادَلة “كلمة”، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والنصيحة… “كلمة”.

 

ومعلومٌ كذلك أنَّ الدرس البلاغيَّ محوره الأساسيُّ قائم على دراسة “الكلمة”، ومن هنا كانت العلاقة بين الكلمتين وثيقةً.

 

نعم؛ فالكلمةُ في الدَّرس البلاغيِّ، وإن كانَت تُتَناول من جانبِ حقيقتها اللُّغوية المعجميَّة، والكلمة في الدعوة إلى الله تُتناوَل من حيث حقيقتُها الشرعية، إلاَّ أنَّ الحقيقتين كثيرًا ما تلتقيان، أو تلتقي بعض أجزائهما، وهذا وجهٌ آخر يمكن من خلاله الجمعُ بين “الكلمة” في منهج الدَّرس البلاغي، وبين “الكلمة” في الدَّعوة إلى الله تعالى.

 

وفي بيان علاقة الكلمة بالدَّعوة؛ يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بُعِثتُ بجوامع الكَلِم))[1]، وفي روايةٍ عند مسلم: ((فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطيتُ جوامع الكلم…))، وفي رواية أخرى عند البخاري: ((أُعطيتُ مفاتيحَ الكلم))، وعن أبي موسى – رضي الله عنه – مرفوعًا: ((أُعطيتُ فواتح الكلام وجوامِعَه وخواتِمَه))[2]، وعند أبي يَعْلى من حديث عُمر – رضي الله عنه – وعند الدَّارقطني من حديث ابن عبَّاس – رضي الله عنهما – مرفوعًا: ((أعطيت جوامع الكلم، واختُصِر لي الكلامُ اختصارًا))[3].

 

فجَلِي من تلك الأحاديثِ وغيرها: ارتباطُ الكلمة – المجرَّدة – بالدعوة، حتَّى إن من خصائص بعثته – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنه أوتي فواتِحَها وجوامعها وخواتمها.

 

والمتتبِّع لهديه – صلَّى الله عليه وسلَّم – يجد مزيدًا من العناية بالكلمة في دعوته المباركة، نحيل إليها في كتب الشَّمائل؛ حتَّى لا نُطيل.

 

وفي ضوء عرض منهج الدَّرس البلاغي بِمُصطلحاته، وما يلتحق به من بعض الدَّرس الأدبي أو النقديِّ عند البلاغيِّين، يمكننا أن نضع منهجًا مرتَّبًا للدُّعاة في الدعوة إلى الله تعالى، وبكلِّ جوانبها ومجالاتها، مستغلِّين في هذا الجهودَ المبذولةَ في التُّراث البلاغيِّ العربي، تلك الجهود التي أَنتجَت في النِّهاية “درسًا بلاغيًّا” يستحقُّ أن يكون محطَّ إعجابٍ وفخر.

 

ففي عرض المصطلح البلاغيِّ، أو القاعدة البلاغيَّة، والتفريع عليهما دعويًّا، فائدةٌ تنظيميَّة للدُّعاة إلى الله من الدَّرس البلاغي الثريِّ، كما أنَّ في هذا العرض السهل المبسَّط تقريبًا لعلمٍ جليل هجَرَه كثيرٌ من المسلمين اليوم، بل وبعض الدُّعاة وطلاب العلم، رغم حاجتنا إليه في فهم كتاب الله تعالى وحديث الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

ولو لم تكن تلك الطريقة تقريبيَّةً للدرس البلاغي، فهي – في أقلِّ أحوالها – تشويقيَّة، تبعث على التقرُّب من هذا العلم أكثر، والنَّهل من معينه.

 

والحقُّ أنَّ الدعوة إلى الله تعالى يمكن أن تُحقِّق استفادة كبيرة من علوم الآلات عامَّة؛ فتلك العلوم – بجانب خدمتها لعلوم الشَّرع من الكتاب والسُّنة – قد حوَتْ قدرًا هائلاً من القواعد والأصول المُنظِّمة والمُؤهِّلة لكلِّ عمل، وللدعوة إلى الله تعالى بشكل خاص.

 

عود للدرس البلاغي: وأنا هنا أقتبس فقط بعضًا من مصطلحات الدرس البلاغي وقواعده، ثم أعيد تفريعَ تلك المصطلَحات والقواعد على منهج الدَّعوة للدُّعاة إلى الله تعالى، بعيدًا عن منهج الإحاطة والشُّمولية في كتب البلاغة، وبعيدًا عن الإلمام بمادَّتِه مستوفاةً، فليس المقصودُ العنايةَ بالدَّرس البلاغي، بقدر الإشارة له، ونقل فائدته.

 

فليس التوسُّع في الدَّرس البلاغيِّ هنا إذًا غرَضًا مقصودًا بذاته، وكذلك ليست العنايةُ بتحقيق المصطَلحات والقواعد، أو معرفة الأقوال المختلفة ونسبتها، ضرورةً بين هذا الطَّرح الدعوي في المقام الأول.

 

“فوائد دعوية من الدرس البلاغي”:

1- معنى البلاغة والتخريج الدَّعوي عليه: قال الخطيب القزوينيُّ في كتابه “الإيضاح في علوم البلاغة”، ص (13): “وأمَّا بلاغة الكلام، فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته”.

 

وحَوْل معنى الخطيب الاصطلاحيِّ تدور تعريفات العلماء تقريبًا للبلاغة.

 

فمطابقة الكلام؛ أيْ: مُلاءمته، والمقتضى: هو الصُّورة التي يُورَد عليها الكلام، والحال: هو الحامل على إيراد هذه الصُّورة، فإذا كان – مثلاً – الحالُ أو المقامُ مقامَ مدحٍ وثناء، فإنَّ المقتضَى الإطناب والبَسْط، وهكذا يختلف المقتضَى لاختلاف الحال، وهو ما نعبِّر عنه بقولنا: “لكل مقامٍ مقال”.

 

وأما الفصاحة، فهي أوَّلاً ملَكة جبِلِّية، وتُنمَّى كذلك بالتدرُّب والتجربة، وقد حدَّها البلاغيُّون على إطارَيِ الكلمة والجملة؛ فالكلمة الفصيحة ما خلَتْ من:

تنافُرِ حروفها، بحيث لا تتقارب مخارجُ حروفها، فيصعب النُّطق بها.

 

مخالفتها لأصل القياس اللُّغوي على جانبَيْها الصَّرفي والمعجمي، بحيث لا يُعبَّر بكلمةٍ لا تؤدِّي مدلولَها المعجمي، أو يؤتى بها على خلاف الوضع الصرفيِّ الصحيح.

 

الغرابة، بحيث تكون الكلمةُ غريبةً، أو مستبشَعًا التعبيرُ بها.

 

وأما فصاحة الجملة، فبأن تخلو من:

التعقيد اللَّفظي، بأن يكون تركيبها صعبَ الفهم والإدراك؛ من كثرة التقديم والتأخير فيها، أو المَجاز أو الكناية… إلخ.

 

التعقيد المعنوي، بأن يَلتبس معنى الجملة على المستمِع؛ لغموض تعبيرها في استخدام كلماتٍ موهِمة.

 

تنافر كلمات الجملة، كأن تأتي كلمتان في الجملة – أو أكثر – قريبة المخرج، متشابهة الحروف.

 

هذا هو تعريف علم البلاغة وبيانه إجماليًّا، وإذا أرَدْنا أن نُخرِّج هذا التصوُّر والتعرُّف العامَّ لهذا العلم على مجالات الدَّعوة، فإنَّنا سنستفيد – لا شكَّ – جملةً من الفوائد في المُمارسات الدعويَّة المختلفة، بل إنَّني لا أكون مبالغًا أبدًا إذا قلتُ: إنَّ هذا التصوُّر العامَّ لعلم البلاغة هو بعينه التصوُّر الواجب في كلِّ وسيلةٍ دعوية ناجحة.

 

بلاغة الدعوة وفصاحتها: وكما أنَّ للكلمة فصاحتَها، وللتعبير الكلامي بلاغته، فإنَّ للوسيلة الدعوية فصاحتَها وبلاغتَها، وهي مراعاتها كذلك للمقام، بأن يُؤتى بها على وجهٍ يُناسب واقعها، من حيث حالُ المدعوِّ، ومن حيث فِقْهُ الزمان والمكان والمتغيِّرات.

 

والذين لا يَفْقَهون من الدُّعاة أحوالَ المدعُوِّين، أو ما تقتضيه تلك الأحوالُ من وسائل دعويَّة مناسبة، لا تَجْني جهودُهم في الدَّعوة شيئًا، بل قد تؤخِّرُها، وتكون طعنًا فيها من حيث لا يَفْقه الكثيرون.

 

حال المدعوِّ: ولكلِّ حالٍ من أحوال المدعُوِّين من حيث تنوُّعُ ثقافتهم، واختلافُ بيئاتهم، وقدراتهم العقلية، وقربهم وبُعْدهم عن الدَّعوة والدُّعاة… لكلِّ تلك الاعتبارات مقتضياتٌ تَبعث على تنوُّع الوسيلة الدعويَّة، واختلاف أشكالها.

 

كما أنَّ مقتضى الحال لدى الجاهل: التعليمُ، ولدى العاصي: التذكير، ولدى المعاند: إقامة الحجة… إلخ.

 

الفصاحة الدعوية: وكذلك فصاحة الوسيلة الدعويَّة تَعني انتفاء تنافر مفرداتها؛ أيْ: خروجها على وجهٍ واحد، يتَّسم بالتشدُّق، أو الاستعلاء، أو الجمود… إلخ.

 

فمن تأمَّل صورة الخِطَاب الدعويِّ النَّبوي – على صاحبه الصلاة والسلام – وجدَه مليئًا بالتنوُّع الذي لا يملُّ به سامعه، فيخاطب العقل، ويفيض على القلب، ويطرب الذَّوق، كلُّ هذا في الخطاب الواحد، دون ميلٍ لصورة خطابيَّة واحدة، تَظْلم الحديث، كما يفعل كثيرٌ منَّا اليوم.

 

وكذلك من الفصاحة الدعويَّة نَفْيُ الغرابة والتعقيدِ عنها، وتعمُّد هذا نوعٌ من التشدُّق الذي ذمَّه رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في قوله: ((يكون رجالٌ من أمَّتي يأكلون ألوان الطَّعام، ويشربون ألوان الشَّراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدَّقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي))[4].

 

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


[1] متفق عليه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه.

[2] أخرجه الطبراني وأبو يعلى، وصحَّحه الألباني في “صحيح الجامع”.

[3] ضعف الألباني في “ضعيف الجامع” رواية عمر.

[4] أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة، وحسنه الألباني في “صحيح الجامع”.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
What We Are Reading Today: ‘Days at the Morisaki Bookshop’ – ARAB NEWS
Jessica Jones Star Krysten Ritter Addresses Potential Marvel Return, “I’ll Be Ready” – ComicBook.com