في أول جمعة من رمضان تمتلئ المساجد بالقائم والراكع والساجد (خطبة)
في أول جمعة من رمضان
تمتلئ المساجد بالقائم والراكع والساجد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يُقرِّب إلى النار، اللهم آمين.
في أول جمعة من رمضان تمتلئ المساجد بالقائم والراكع والساجد، لماذا؟
الجواب: لكثرة البركات، وقلَّةِ المثبِّطين، وتصفيدِ الشياطين، وتفصيلُ ذلك في هذه الخطبة، في بيان المرغِّبات التي تُرغِّب الناس في الصوم، وتُرغِّبهم في التوجِّهِ إلى المساجد؛ لذلك جمعت ما يُقارب من ثلاثين فائدةً أو تقلُّ اثنتين، منها ما مضى، ومنها يكون كلَّ عام وفي كلِّ رمضان، ومنها ما يكون في الآخرة، هذه الأحداث التي حدثت في رمضان وأخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت في كتاب الله أيضًا، هذه من الغيب الذي أطلعنا الله عليه وأطلعنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الخمس التي مضت:
أولًا: أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام في أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
ثانيًا: أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ على موسى عليه السلام لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ؛ يعني: ليلة السابع منه.
ثالثًا: أُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ على عيسى عليه السلام لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ؛ يعني: ليلة منتصف الشهر، ليلة الرابع عشر.
رابعًا: أُنْزِلَ الزَّبُورُ على داود عليه السلام لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، يعني: ليلةَ التاسع عشرة.
خامسًا: وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ في رمضان على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ليلة خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ؛ أي: ليلة الخامس والعشرين، قَالَ تَعَالَى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
هذا جاء في حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حدث في رمضان، فعَنْ وَاثِلَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ لِثَلَاث عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ))، الحديث بزوائده عند: الطبراني في الأوسط (3740)، وأحمد في مسنده (17025) وأبي يعلى (2190)، والبيهقي (18429)، صَحِيح الْجَامِع: (1497)، وصحَّحه الألباني في صحيح السيرة (ص: 90).
هذا ما حدث في رمضان، أما ما يحدث فيه، فجمعت ما يقرب من العشرين مما يحدث في رمضان، وبمجرد غروب شمس يوم الأربعاء الماضي المتمِّم للثلاثين من شعبان، وصبيحة الخميس بدأت هذه الفضائل من خيرات ورحمات وبركات، وقمعٍ للشرور والسيئات.
أولًا: هو شَهْرٌ مُبَارَكٌ، بمجرد ما جاء الشهر، دخلت البركات التي تستجلب الرحمات، من فوق السماوات، شهر بركاتٍ، فيا عاصٍ، اتَّقِ اللهَ! أنت في شهر البركات؛ لكنك لا تراها، البركات النازلات والرحمات والحسنات لا تراها، لو رأيتها لم تر ما بعدها، فالحمدُ لله على كل حال.
ثانيًا: فَرَضَ اللهُ عز وجل علينا فيه عبادةً خاصةً به سبحانه وهو الصيام، فالصومُ لله وهو يجْزي به.
ثالثًا: ومن أَوَّلِ لَيْلَةٍ منه تُقيَّدُ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ بالسلاسل والأغلال.
رابعًا: وفيه ومن أول يوم تغلَّقُ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ طوال هذا الشهر.
خامسًا: وَفيه تُفَتَّحُ أَبْوَابُ الْجِنان، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ حتى رؤية هلال شوال.
سادسًا: وَيُنَادي مَلَكٌ من الملائكة ملائكة الله سبحانه وتعالى على طُلَّاب الأعمال الصالحات والطاعات، وطلابِ الأجر والثواب؛ أن يقبلوا إِلَى اللهِ ((يا باغي الخير، أقْبِلْ))، وذلك بِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ فِي عِبَادَتِهِ.
سابعًا: وَيُنَادي مَلَكٌ آخَرُ من ملائكة الله على أهل الشرِّ والفساد أن يمسكوا وَيتُوبوا، فَإِنَّهُ أَوَانُ قَبُولِ التَّوْبَة (يا باغي الشَّرِّ، أقصِرْ)).
ثامنًا: فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ، عُتَقَاءُ للهِ مِن النَّارِ، إلى أن يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ، وهذا العتق عند الإفطار، عندما يُؤذِّن المؤذِّن وتغرب الشمس، وتبدأ بالإفطار، هُناك عتقاء من النار، الله يعتق رقابَهم من النار إلى أن ينقضي رمضان، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لِلهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ))؛ رواه ابن ماجه (1643)، وأحمد (22256)، انظر صَحِيح الْجَامِع: (2170)، صَحِيح التَّرْغِيبِ: (1001).
تاسعًا: وَفِيهِ لَيْلَة القدر خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، كما صحَّ في الحديث، فحذارِ أن تُحْرَمَ من خيرها.
ففي الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: (دَخَلَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“هَذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَكُمْ“) (“شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عز وجل عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ“)، (“إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ“)؛ أي: قُيِّدَتْ بالسلاسل والأغلال. و(مَرَدَةُ الْجِنِّ): جَمْعُ مَارِدٍ، وَهُوَ الْمُتَجَرِّدُ لِلشَّرِّ، وَمِنْهُ الْأَمْرَدُ؛ لِتَجَرُّدِهِ مِن الشَّعْرِ.
(“وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ“)؛ أَيْ: يَا طَالِبَ الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ (“أَقْبِلْ“)؛ أَيْ: أَقْبِلْ إِلَى اللهِ وَطَاعَتِهِ بِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ فِي عِبَادَتِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِن الْإِقْبَالِ؛ أَيْ: تَعَالَ، فَإِنَّ هَذَا أَوَانُك، فَإِنَّكَ تُعْطَى الثَّوَابَ الْجَزِيلَ بِالْعَمَلِ الْقَلِيلِ (“وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ“)؛ أَيْ: أَمْسِكْ وَتُبْ، فَإِنَّهُ أَوَانُ قَبُولِ التَّوْبَة (“وَللهِ عُتَقَاءُ مِن النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ“)؛ أَيْ: فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ.
(“حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ“)، (“وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ“)، الحديث بزوائده عند: البخاري (3103)، ومسلم (1- (1079)، والترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، (1644)، والنسائي (2097)، (2103)، (2106)، وأحمد (7148)، (18795)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
عاشرًا: وفي رمضان نَفَحَاتٌ من رَحْمَةِ اللهِ عز وجل، فلنتعرَّضْ لها، ولتعرض نفسك لهذه النفحات التي تحمل الرحمات، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فَإِنَّ لِلهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ“)؛ رواه الطبراني في أكبر معاجمه (720)، والبيهقي في شعب الإيمان (1121)، انظر الصَّحِيحَة: (1890).
الحادي عشر: الإخلاص في صيام رمضان مغفرة لما تقدم الذنوب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ“)؛ متفق عليه، (خ) (38)، (م) 175- (760) فــ(مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا)؛ أَيْ: مُؤْمِنًا بِاللهِ، وَمُصَدِّقًا بِأَنَّهُ تَقَرُّبٌ إِلَيْهِ، (وَاحْتِسَابًا)؛ أَيْ: طَلَبًا لِلثَّوَابِ -واحتِسابًا للأجْرِ- (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، قَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ -فالكبائر لا بُدَّ من التوبة منها-.
قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْمُكَفِّرَاتِ إِنْ صَادَفَتْ السَّيِّئَاتِ، تَمْحُوهَا إِذَا كَانَتْ صَغَائِرَ وَتُخَفِّفُهَا إِذَا كَانَتْ كَبَائِرَ، وَإِلَّا تَكُون مُوجِبَةً لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّاتِ.
الثاني عشر: الإخلاص في قيامه فيه مغفرة لما تقدم من الذنوب، ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ“)؛ متفق عليه، (خ) (37)، (م) 173- (759).
الثالث عشر: الإخلاص فيه في قيام ليلة القدر، فقيامها إيمانًا واحتسابًا؛ مغفرة له لما تقدم من الذنوب؛ لقول رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ“)؛ رواه الشيخان، (خ) (1802)، (م) 175- (760).
الرابع عشر: صيام رمضان وصيام رمضان آخر، ما بين الرمضانينِ يجترح الإنسانُ المحرَّمات، ويرتكب الذنوب، فمن رمضان إلى رمضان كفَّارة لذنوب ما بينهما إذا اجتُنِبت الكبائر، وكما قلت لكم الكبائر لا بد من توبة حتى تُغفَر، أو من تكثير الحسنات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ“) (“كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ“)؛ (“إِذَا اجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ“)، بزوائده: رواه مسلم والترمذي وأحمد، (م) 15- (233)، 16- (233)، (ت) (214)، (حم) (9186).
الخامس عشر: فرح الصائم بفطره، فعندما يفطر يفرح، وفرحه عند لقاء الله جل جلاله، عندما يجد ما قدَّمه من جوعٍ وعطشٍ وبُعْد عن المعاصي، خالصًا لله، يفرح لأنه وجد نتيجة ذلك. عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ“)، (“وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَجَزَاهُ، فَرِحَ“) (“بِصَوْمِهِ“)؛ الحديث بزوائده عند: البخاري ومسلم وغيرهما، (م) 163- (1151)، (خ) (1805)، (ت) (766)، (س) (2214)، (حم) (11022)، (4256)، (9419).
السادس عشر: الصوم وقاية وحِصْن حصين من النار، عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنه، فَدَعَا بِلَبَنٍ)، فَقُلْتُ: (إِنِّي صَائِمٌ)، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (“الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِن النَّارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ“)، (“وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ“)، الحديث بزوائده عند: البخاري ومسلم والنسائي، والترمذي، (خ) (1795)، (م) 162- (1151)، (ت) (764)، (س) (2231)، انظر صَحِيح الْجَامِع: (3880)، صَحِيح التَّرْغِيبِ: (980).
السابع عشر: الصوم لا عِدْلَ له من العبادات، ولا مثيل له من الطاعات؛ لقَوْله سبحانه وتَعَالَى في الحديث القدسي: (“إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ“)؛ رواه البخاري (1904) وفي هذا بَيَانٌ لِعِظَمِ فَضْلِه، وَكَثْرَةِ ثَوَابِه؛ لِأَنَّ الْكَرِيمَ سبحانه، إِذَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْجَزَاء، اقْتَضَى ذلك عِظَمَ قَدْرِ الْجَزَاءِ، وَسَعَةِ الْعَطَاء.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“قَالَ اللهُ عز وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ“)، وفي رواية: (“كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ”)، لذنوبه ومعاصيه، وفي رواية: (“كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، إِلَى مَا شَاءَ اللهُ”)، (“إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”)، (“يَدَعُ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي”) وفي رواية: (“تَرَكَ شَهْوَتَهُ, وَطَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي”)، الحديث بزوائده عند: الشيخين وأحمد والترمذي والنسائي، وابن ماجه، (خ) (1805)، (7054)، (7100)، (م) 161- (1151)، 164- (1151).
الثامن عشر: الصيام يُهذِّب شهوات النفس، والبطن والفرج، فالصيام قال عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمام هذه الشهوات: (“يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ”)؛ رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود، (خ) (4779)، (1806)، (م) 1- (1400)، (ت) (1081)، (س) (2240)، (د) (2046)فإنه له وِجاءٌ؛ أي: قاطع لها.
التاسع عشر: هناك تحذيرٌ لمن فاته رمضان فلم يُغفَر له، مسكين! في النهار صائمٌ، جائعٌ عطشانُ، يمنع نفسه من تحقيق شهواته الحلال، وفي الليل يُذْهِبُ كلَّ هذه الحسنات التي في النهار حسنةً حسنةً، أو جملةً جملةً، لما تعلمونه أنتم، فلذلك هو معرَّضٌ للذلِّ والهوان، فإذا انتهى رمضان ودخلنا في شوال، ولم يُغفَر لهذا العبدِ؛ مع كثرة المكفِّرات للذنوب، ومع ذلك لم يُغفَر له، فهذا ينال الذل والهوان في حياته الدنيا وفي آخرته، إن لم يغفر له في رمضان؛ فمتى يُغفَر له؟! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ، ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ”) (“وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ؛ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ”)؛ الحديث بزوائده عند مسلم والترمذي وأحمد، (م) 10- (2551)، (ت) (3545)، (حم) (7444)، (حم) (8538). (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ)؛ أَيْ: لَصِقَ أَنْفُهُ بِالتُّرَابِ، كِنَايَةً عَنْ حُصُولِ الذُّلِّ.
فلا تجعل رمضان كبقية الشهور.
العشرون: دعوةُ الصائم لا تُرَدُّ، عن أنَسِ بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (“ثَلاثُ دَعَواتٍ لا تُرَدُّ: دَعوَةُ الوالِدِ، ودَعوَةُ الصَّائمِ، ودَعوَةُ المُسافِرِ”)، السنن الكبير للبيهقي (7/ 70 ت التركي) ح (6463)، وانظر الصحيحة: (1797).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الآخرة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه واهتدى بهُداه إلى يوم الدين، أما بعد:
هذه في دُنْيانا، وأمَّا في الآخرة، وفي يوم القيامة؛ فالصائمون لهم شأن آخر عند الله عز وجل:
أولًا: الصيام كالقرآن يتقدَّمُ للشفاعة للصائمين، يعني: يتوسَّلان لصاحبهما ألَّا يقعَ عليه عذابٌ، أو يخفّفُ عنه إن كان يستحقه، أو يمحو عنه، يعني: يتوكَّلان عنك بالدفاع عنك يا عبدالله، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ“)، رواه أحمد والحاكم، (حم) (6626)، (ك) (2036)، انظر صَحِيح الْجَامِع: (3882)، صَحِيح التَّرْغِيبِ: (984).
ثانيًا: للصائمين عمومًا وفي رمضان خصوصًا؛ أنهم يبعثون يوم القيامة ورائحةُ أفواهِهم تفوحُ بريحٍ أطيبَ من ريح المسك، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ”)؛ رواه الشيخان وغيرهما، (خ) (1805)، (م) 163- (1151)، (ت) (764)، (س) (2217)، (حم) (4256)، (8043).
(الخُلُوف): تَغَيُّرُ رَائِحَةِ فَمِ الصَّائِمِ بِسَبَبِ الصِّيَام، وهي عبارةٌ عن الرائحة التي تنبعث من فم الجائع.
ثالثًا: هؤلاء الصائمون يدخلون من باب خاص لهم يُقال له: باب الرَّيَّان لا يدخل منه غيرهم، وَمَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأ أَبَدًا، اسمه الرَّيَّان من الرِّيِّ.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”)، ولاحظ ترداد الجمل النبوية، بمعنى واحد، (“لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟”) (“فَيَقُومُونَ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ“)، (“فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ“)، ولاحظ التكرار في روايات للحديث، ما أحد يدخل من هذا الباب إلا الصائمون، قال صلى الله عليه وسلم: (“فَمَنْ كَانَ مِنْ الصَّائِمِينَ دَخَلَهُ، وَمَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأ أَبَدًا“)؛ الحديث بزوائده عند الشيخين (خ) (1797)، (م) 166- (1152).
هذه ثمانية وعشرون فائدة وفضل من رمضان، وفي رمضان خاصة وفي الصيام.
والأهَمُّ من هذا كلِّه في صيامنا، وفي قيامنا، وفي اصطحاب أطفالنا، وفي صدقاتنا وزكواتنا؛ أن تكون أعمالُنا لله خالصةً، نبغي بذلك وجه الله، فإن كان علمنا شيئًا ليس فيه إخلاصٌ لوجه الله فلنبتعدْ عنه، ولنستغفرْ الله سبحانه وتعالى، فكلُّ عمل ليس فيه إخلاص لله مردودٌ على صاحبه، ولا يقبل منه، وإن عمل سنين بهذا العمل، وهو يريد أمرًا آخر غير وجه الله، لا يُقبَل منه لا صلاة ولا صيام ولا حج، وإنما كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
فهكذا جاء الأمرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولًا ولنا ثانيًا، النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئًا من الخير إلا ودلَّنا عليه، ولا شيئًا من الشَّرِّ إلَّا وحذَّرنا منه؛ فلذلك حقُّه علينا أن نُصلِّيَ عليه، كما صلَّى الله عليه في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلَّيْت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات يا رب العالمين.
اللهُمَّ لا تَدَع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرتَه، ولا همًّا إلا فرَّجْتَه، ولا دَيْنًا إلَّا قضيتَه، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا مبتلًى إلا عافيته، ولا غائبًا أو مهاجرًا أو سجينًا إلا رَدَدْتَه إلى أهله سالمًا غانمًا يا رب العالمين.
اللهُمَّ كُنْ معنا ولا تكن علينا، اللهُمَّ أيِّدْنا ولا تخذلنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].