في تكريم الصديق المؤرِّخ أحمد العلاونة بمناسبة صدور الجزء السادس من ذيل الأعلام
في تكريم الصديق المؤرِّخ أحمد العلاونة
بمناسبة صدور الجزء السادس من ذيل الأعلام
أيمن بن أحمد ذو الغنى
ترجعُ بي الذاكرةُ إلى يومٍ من أيام عام ثمانيةَ عشرَ وأربعِ مئةٍ وألف، في إبَّان عملي في مكتب تحقيق التراث بمؤسسة الرسالة، يوم دخلتُ غرفةَ شيخيَّ الفاضلَين المشرفَين على المكتب؛ محمد نعيم العرقسوسي وإبراهيم الزيبق، كان وجهاهما متهلِّلَين سعادةً وبهجة، وهما يقلِّبان صفَحات كتابٍ بدا لي أوَّلَ وهلةٍ جُزءًا من أجزاء المَعلَمة النفيسة (الأعلام) لخير الدين الزِّرِكْلِي، ولكن ما أسرعَ أن علمتُ أن الكتابَ ليس الأعلام، ولكنَّه كتابٌ صدر بأَخَرةٍ هو ذيلٌ للأعلامْ، وإكمالٌ له وإتمامْ، وأن صاحبَه ليس الزِّرِكليَّ ولكنَّه كاتبٌ مغمور اختارَ النسجَ على نَوْلِه، والمُضيَّ على سَننه ومَنهَجِه.
وكان اسمُ ذاك الكاتبِ هو أحمد العلاونة، ولم يكن معروفًا في دنيا الثقافة والعلم، فهل يَبعَثُ حقًّا الزِّرِكليَّ من جديد، ويأخذُ منه رايةَ التصنيف في سِيَر الأعلام؟!
إن الدربَ شاقٌّ طويل، والسيرَ فيه حَزْنٌ عسير، ولولا أن الزِّرِكليَّ أطعمَ كتابه من لحمه وروَّاه من دمه، على مدار ستين عامًا، ما تبوَّأ المنزلةَ التي تبوَّأها، ولا نال ما نال من حُظوةٍ وخلود. حتى قال الشيخُ الطنطاويُّ: إن الأعلامَ كتابٌ يفاخرُ به عصرُنا سالفَ العصور.
وكانت أَماراتُ الغِبطة والاستبشار على وجهَي الشيخَين عرقسوسي والزيبق، توحي بنجاح صاحبنا في أُولى خَطَواته، وعسى أن يخطُوَ على إثرها خَطَواتٍ وخَطَوات..
وحُبِّب إليَّ من يومِئذٍ النظرُ في كتابه (ذيل الأعلام)، والتأمُّلُ في تراجمه وما ازدانت به من صورٍ وخطوطٍ لأصحابها.
وما هي إلا سُنيَّاتٌ وأحُطُّ رَحْلي في رياض نجدٍ عام اثنينِ وعشرين وأربعِ مئةٍ وألف، للعمل في مركز تحقيق التراث بإشراف شيخنا المِفضال الدكتور سعد الحُمَيِّد، وأُكلَّفُ تزويدَ مكتبة المركز بالكتب المهمَّة، فيُطالعني فيها كتابان مضى فيهما صاحِباهُما في ذات السَّبيل التي مضى فيها العلاونة، أوَّلُهما (تتمَّة الأعلام) للشيخ محمد خير رمضان يوسُف، وقد صدر والذيلُ في ذات العام، والآخَرُ (إتمام الأعلام) للأستاذ محمد رياض المالح والدكتور نزار أباظة، ولم يتأخَّر صدورُه عن سابقَيه سوى عام.
وحملَني الفضولُ على معرفة المتفقِ والمفترق بين هذه الكتب الثلاثة، وما امتاز كلٌّ منها من رصِيفَيه، فاقتنيتُها لنفسي، وأمعَنتُ النظرَ فيها وفي مواردها ومصادرها، والموازنةَ بينها في تراجمها وموادِّها، وخَلَصتُ من كلِّ ذلك إلى إنشاء مقالةٍ موجَزة نشرتها في مجلة الفيصل، رجَّحتُ فيها كِفَّةَ (ذيل الأعلام)، ورأيتُ صاحبَه أدنى إلى منهج الزِّرِكليِّ وألصقَ به.
أمَّا (تتمَّة الأعلام) لمحمد خير فهو أبعدُ الكتب الثلاثة عن حِياد الزِّرِكلي وموضوعيته، والنأيِ عن إقحام العاطفة الشخصية في تراجمه. وأمَّا (إتمام الأعلام) للمالح وأباظة فإغارةٌ على الكتابين الآخرَين وسطوٌ عليهما! وقسَوتُ في مقالتي على الدكتور أباظة وحمَّلته جَريرةَ اللَّصِّ والنَّهْب، غفرَ الله لي وله. وذلك أنه هو من نهضَ بإكمال العمل بعد وفاة شريكه المالح، وكنت زُرت الأخيرَ في بيته وقد أضرَّ به المرضُ، وضاعفَ الخللُ في وظائف الغُدد حجمَه أضعافًا، وكان تنفُّسه الطبيعي لُهاثًا، ولا يكاد يتحرَّك إلا بشِقِّ الأنفس، وكانت على طاولته أكوامٌ من الجُزازات لتراجم كتابه الذي مضى إلى بارئه ولم يرَه، رحمه الله وجعل ما أصابه من وصَبٍ كفَّارةً ورِفعة.
على أن الإنصافَ يقتضي أن أقول: إن أصحابَ هذه الكتبِ الثلاثةِ قد اجتهدوا ما قدَروا على الاجتهاد، وإن تفضيلي للذيل وتقديمي له، لا يحُطُّ من قدر الكتابين الآخرَين إلا بما ألمَعتُ إليه آنفًا ممَّا شابَهُما من أوجُهِ القصور، ولا يكاد يُغني منها كتابٌ عن كتاب للمتخصِّصين في فنِّ التراجم. ويقتضي أيضًا أن أقول: إنني عرفتُ فيما بعدُ الأستاذَ الدكتور نزار أباظة، وتوثقت صلتي به، فرأيته مثالًا للفضل والنُّبل، أديبًا أريبًا هيِّنًا ليِّنًا، ومؤرِّخًا نفَّاعة، وما كان صنيعُه في (الإتمام) سوى كَبْوةِ فارس، والفاضلُ من عُدَّت زلَّاتُه لا من بَرِئَ منها، ومَن ذا الذي لا يزِلُّ؟!
تلك كانت نتيجةَ موازنتي بين الكتب الثلاثة، وأرجو أني كتبتُها لوجه العلم والحق، وكنت فيها مُقْسِطًا مُنصِفًا، بريئًا من دخَل المُصانعة والمجاملة؛ فلم تكن أسبابي قد اتصلت بأسباب أحدٍ من أصحابها، سوى ما ذكرتُ من زيارة الأستاذ رياض المالح قُبَيل وفاته، بيدَ أنها كانت بعدُ سببًا للاتصال بهم جميعًا، وتوثُّقِ الودِّ والصِّلة.
ويفجَؤُني اتصالٌ هاتفي، عام خمسةٍ وعشرينَ وأربعِ مئةٍ وألف. كان صاحبُ الصوت يتكلَّم بهدوء ورزانة، أخبرني أنه اطَّلَع على مقالتي تلك التي غَبَر على نشرها شهور، وأنه التمسَ رَقْمي فزوَّده به أستاذُنا محمد علي دولة صاحبُ دار القلم رحمه الله، وأنه اتصل بي شاكرًا لي إنصافَه في المقالة، مُبديًا سرورَه وغِبطتَه بأن ينهضَ لهذا الإنصاف مَن لا يعرفُه ولا يمتُّ له بصلة، وكان المتصلُ صاحبَ ذيل الأعلام. ولم تكن سعادتي باتصاله دونَ سعادته بمقالي.
وأعلمَني أنه في زيارة لمدينة الرياض، ودعاني للقائه في فندق قصر الرياض (كراون بلازا) في حيِّ الوِزارات، وحينئذٍ عرفتُ العلاونةَ شخصًا بعد أن عرفتُه علمًا وشغفًا، وازدادت صلتي به على الأيام أخوَّةً وتعاونًا ومحبَّة. ولا تزالُ وَشيجَتُنا على كرِّ السنينَ كما هي مَكينةً متينة، رخيَّةً هنيَّة، أدام ربي الودَّ والصَّفاء بيننا.
وقد عبَّر خيرَ تعبير عن هذه الوَشِيجة في آخر إهداءٍ كتبه لي قبل أيام، مستشهدًا بقول بشَّار:
أخوكَ الذي لا يَنقُضُ الدَّهرَ عهدَه ولا عِندَ صَرْفِ الدَّهرِ يَزْوَرُّ جانبُه |
وعلى مدار العِقدَين الماضيين خَطا العلاونةُ تلك الخَطَوات المَرجوَّة، بل مضَى في مِضمار فنِّ التراجم والسِّيَر أشواطًا بعيدة، أخلص له جهدَه ووقتَه، وصدَقَ اللهَ فيه فصَدَقه. ونما الذيلُ وطال، فصار أجزاءً بدل الجزء، وأذكرُ هاهنا كلمةَ أستاذنا المصريِّ الكبير الراحل وديع فلسطينفي مراسلاتي معه، فكلَّما ذُكر العلاونةُ كان يعقِّب بقوله: (قطع الله ذيوله)؛ لأنه يرى في استمرارِ ذيوله وفاةَ مزيدٍ من العلماء والأعلام، وكنت أقول له: (بل أطال الله ذيوله)؛ لأن موتَ الأعلام قدَرٌ محتوم، لا مندوحةَ عنه، ولا مفرَّ منه، ولكنَّ إهمالَ الترجمةِ للأعلام موتٌ ثانٍ لهم، والكتابةَ عنهم إحياءٌ لذكرهم وبعثٌ لفضائلهم.
وحسبُ العلاونةِ فخرًا أن عُرفَ بكتابه (ذيل الأعلام) كما عُرف الزِّرِكليُّ بأصله (الأعلام)، وأن تُكلَّلَ جهودُه بفوزه بجائزة الكتاب التراثي عام ثمانيةَ عشَرَ وألفَين ميلادية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، التابعةِ لجامعة الدول العربية، في احتفال بهيج أُقيمَ في قاعة جامعة الدول العربية بالقاهرة، لقيَ فيه صاحبُه ما هو حَقيقٌ به من تبجيل. ومن قبلُ كان لقيَ مثلَ ذلك من حفاوةٍ وتكريم في اثنينية الوجيه السعودي عبد المقصود خوجه رحمه الله في مدينة جُدَّةَ عام أربعةٍ وألفَين.
واختصَّ العلاونةُ بالأعلام وصاحبه؛ فقرأ الكتابَ بأجزائه الثمانية أكثرَ من مئة مرَّة، على الحقيقة لا المجاز! وصنَّف في بيان خصائصه ومزاياه، وفي نقده وتصحيحه والاستدراك عليه خمسةَ كتب، هي: (نظرات في كتاب الأعلام)، و(توشيح كتاب الأعلام)، و(الأعلام للزِّرِكلي محاولات في النقد والتصحيح)، و(الأعلام للزِّرِكلي مراجعات وتصحيحات ويليه فائتُ الأعلام من الصور والخطوط)، و(نفائس المخطوطات في كتاب الأعلام). وألَّف عن صاحبه ثلاثةَ كتب، هي: (خير الدين الزِّرِكلي المؤرِّخ الأديب الشاعر صاحب كتاب الأعلام)، و(خير الدين الزِّرِكلي دراسة وتوثيق)، و(خير الدين الزِّرِكلي ببلوغرافيا، وصور ووثائق). حتى لو قال قائلٌ: إن العلاونةَ اليومَ أعلمُ أهل الأرض طُرًّا بالزِّرِكليِّ وأعلامه، لما أبعدَ النُّجْعة.
ولم يقتصِر جهدُ العلاونة على إكمال عمل الزِّرِكلي والتذييل عليه ونقد كتابه وتصحيحه، ولكنَّه انتَضَى يَراعتَه ليخُطَّ في موضوعاتٍ ثقافية شتَّى؛ لا تخرج في جُملتها عن دائرة الكتب والمكتبات، وتدوين التاريخ للأعلام والرجالات، ولكنَّه أحسنَ كلَّ الإحسان باقتناص موضوعاتٍ غيرِ مطروقة، فأغنى المكتبةَ العربية بكتُب لطيفة طريفة، لا يسأمُ قارئها ولا يمَل.
وغدا مُنشِئُها قامةً رفيعةً بين قامات العلم والثقافة في عصرنا، ونموذجًا للفتى العصاميِّ الذي اختار طريقَ العلم والمعرفة دون اعتمادٍ على غنًى ولا شهادة، فرفعَه الله بدَأَبه وجِدِّه، لا بجاهه وجَدِّه. وكانت ابتدأت رحلتُه بفهارسَ صنعها لنفسه وهو في العشرين من عمره، لكتاب (النحو الوافي) لعبَّاس حسن، ثم (لذكريات الشيخ علي الطنطاوي)، ولن تقفَ بإذن الله عندَ ما أخرجَ من كتبٍ أربَتِ اليومَ على أربعين كتابًا، ولا يزال في جَعْبته فضلُ سِهام، أعانه الله وأمدَّه بمدَدٍ من رِفده.
والتقطَت آثارَه عينٌ بصيرة حَصيفة، فأخضعَتْها لقراءة نقدية مُنصفة، وهي عينُ الباحثةِ العراقية الجادَّة الأستاذةِ الدكتورة نادية العَزَّاوي، التي أسمَت قراءتها تلك: (نقوشٌ على جُدران الزمن، تأمُّلاتٌ نقدية في مُنجَز أحمد العلاونة)، وناهيكَ به من كتاب.
وبعدُ، فإن منتدى الفكر العربي بعَمَّانَ كان أقام ندوةً احتفاليةً للعلاونة بمناسبة صُدور الجزء الخامس من (ذيل الأعلام). وها نحن أُولاءِ في هذه الأمسيَّة المباركة، وفي هذه البلدة الطيِّبة، مدينةِ الرياض إحدى عواصمِ الثقافة العربية اليوم، نحتفي بصُدور الجزء السادس من (ذيل الأعلام)، راجينَ لصاحبه العمرَ المديد، والعملَ المفيد، والإخلاصَ والقَبول.
والشكرُ كلُّ الشُّكر لمَن يرفع للعلم والفكر راية، ويَعرِفُ لأهل الفضل فضلَهم، ولأهل الإحسانِ قدرَهم. فشكرًا لأخينا العزيزِ أبي سعود محمد بن سعود الحمدعلى مبادرته النبيلة، ولأساتذتِنا وإخوانِنا الكرام الذين شاركونا في هذه اللفتة من لفَتات البِرِّ والوفاء، وما عرَفنا أهلَ هذه البلاد إلا أهلَ بِرٍّ وجُودٍ وعطاء، لا زالوا متقلِّبين في ديارهم في أمنٍ وأمان، منعَّمين برضا الكريم المنَّان.
والحمدُ لله أولًا وآخرًا.
۞۞۞۞
كان أقام الأديبُ السعودي الفاضل الباحث الشاعر محمد بن سعود الحمَد مأدُبةَ عَشاء وحفلًا تكريميًّا بمناسبة صدور الجزء السادس من كتاب (ذيل الأعلام) للصديق العزيز الأستاذ المؤرِّخ أحمد إبراهيم العلاونة، مساء السبت سادس ربيع الآخِر 1445 هجرية (21/ 10/ 2023م)، حضره عددٌ من أفاضل المثقفين السعوديين وغيرهم، في الرياض.
منهم: الأستاذ الدكتور محمد خير البِقاعي، والدكتور إبراهيم التركي مدير تحرير المجلة الثقافية في صحيفة الجزيرة سابقًا، والأستاذ الدكتور عبد الله الحيدري، والأستاذ الباحث أحمد بن سَليم الحمَّامي، والأستاذ عبد العزيز الفهيد، والشيخ عبد الإله الشايع، والشيخ نظر الفاريابي، والدكتور إبراهيم الحازمي، والدكتور زيدان عودة، والشيخ سعد الجلعود، والشيخ فوَّاز الموسى، والشيخ عبد العزيز آل سعد القحطاني، والأستاذ رامي ذو الغنى، والأستاذ فهد التميمي، والشيخ علي الخالدي، والشيخ سعد العمري، والكاتب الشابُّ عبد العزيز الدغيثر.
وكان من تمام سعادتي أن أُلقيَ كلمتي هذه في هذا الحفل البهيِّ.
الأستاذ أحمد العلاونة وعن يمينه أيمن ذو الغنى وعن يساره الدكتور محمد خير البِقاعي
الدكتور محمد خير البِقاعي متكلِّمًا وعن يمينه صاحبُ الدعوة الأديب محمد بن سعود الحمَد
وعن يساره الدكتور إبراهيم التركي، والدكتور عبد الله الحيدري
بعض الحضور
الأستاذ أحمد العلاونة وأيمن ذو الغنى