قصة الذبيح دروس وعبر (خطبة)
قصة الذبيح دروس وعبر
الحمد لله مُشرّف الأيام والشهور بعضها على بعض، ومصرِّف الأحكام بالإبرام والنقض، وموقظ القلوب الغافلة بالتذكير والوعظ، أحمده سبحانه على ما أولاه من إحسانه وإفضاله. وأشكره على جزيل بِره ونواله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وصفات كماله. شهادة أرجو بها النجاة من شدائد يوم الفزع وأهواله. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أنعم الله على جميع أهل الأرض ببعثته وإرساله. اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى جميع أصحابه وآله، وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد….
فيا أيها الناس اتقوا الله حقَّ تُقاته. وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته. وأجيبوا الداعيَ إلى دار كرامته وجناته.
عباد الله: كلما أتى موسم الحج وشهر ذا الحجة تذكرنا الخليل إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124] وقال تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وفَّى ﴾ [النجم: 37]، من قدّم طعامه للضيفان وبدنه للنيران وولده للقربان. قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]، وقال عز وجل ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130].
إبراهيم عليه السلام هو أول من سنّ الهجرة في سبيل الله فِرارًا بدينه وعقيدته.
أول من أعلن المفاصلة من أجل الله، ترك العشيرة والقبيلة والوطن من أجل الله وفي سبيل الله وقال لقومه: ﴿ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ﴾ [الممتحنة: 4]. ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 26]. ترك إبراهيم قومه وشركهم وأصنامهم وأعلن لهم تحوله عنهم: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99]، ذاهبٌ إلى من؟ إلى الله وحده لا ملجأ من الله إلا إليه.
المؤمن مع الدنيا يمشي مشيًا لا يسرع فالله يقول: ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]، أما إذا سمع داعي الله مع الطاعة مع الصلاة فيسعى سعيًا فالله يقول: ﴿ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 9]، أما إذا هبّت رياح الجنة وشمّ نسيمها سارع وسابق ونافس وسارعوا وسابقوا، أما إلى الله فلا مشي ولا سعي ولا مسارعة بل فرار ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50]، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول: ﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99] وموسى عليه السلام يقول: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84] لا مفر من الله إلا إليه، إذا توجَّه الإنسان إلى أحد بيوت الله لا يرجو دنيا؛ بل يخرج ابتغاء مرضاة الله، فالله ﴿ جل جلاله ﴾ سيرحمه، سينوِّر قلبه، سيوفِّقه في أعماله الدنيويَّة، سيمنحه الرضى، يمنحه القُرب.
أخي الحبيب: لا تُعلّق أملك بمخلوق ولكن علّق أملك بالخالق. الجأ إليه في كل شيء فهو وحده بيده مفاتيح الفرج.
وكان نبي الله حتى هذه اللحظة، وحيدًا لا ذرية له، ولهذا دعا ربه أن يرزقه من يؤانسه في غربته من الذرية والأبناء، فقال كما أخبر الله في القرآن ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100]. أي ارزقني غلامًا تقيًا كاملًا.
هذا الدعاء لطلب الولد ليس لمجرد طلب الولد ليس بمجرد وجود الرغبة في الأبوة و لكن ليكون صالحًا. سيدنا إبراهيم تمنَّى أن يخلفه ولدٌ يدعو إلى الله من بعده، وهذه أمنيةٌ كل مؤمن أن يكون من نسله ولدٌ صالح يعلم الناس من بعده، لذلك سيدنا زكريا نادى ربه نداءً خفيًا، طلب سيدنا زكريا من ربه أن يكون له ذرية صالحة، فهذا طلب مشروع، وأسعد الناس من وهبه الله ذريةً صالحة، تنفع الناس من بعده. قال – صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: وذكر منها:… أَوْ ولَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» [رواه مسلم (1631)].
فالولد الصالح من أكبر النِعَمِ على الإنسان، وأن يخلفك ولدٌ صالح يكون استمرارًا لك بعد موتك. هذا هو النافع للإنسان أن الولد عندما لا يكون صالحًا فهو ضرر على الإنسان و ربما كان عذابًا كما قال تعالى في شأن المنافقين: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [التوبة: 55]، فربما كان الولد سبب في عذاب أبيه و أمه إذا لم يكن صالحًا فجاء الجواب من رب العزة: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 101]، الحِلم كما قال عليه الصلاة والسلام: «الحلم سيِّدُ الأخلاق ». « كاد الحليم أن يكون نبيًا ». [من الجامع الصغير عن أنس].
وقد جمع الله لإبراهيم ثلاث بشارات في هذه الآية: وهي أن المولود سيكون غلامًا، وأنه سيبلغ الرشد وأنه سيكون حليمًا، والحليم هو من لا يتسرع في الأمور ويتحمل المشاق. وهذا الغلام الذي بُشر به هو إسماعيل نبي الله ابن نبي الله إبراهيم وهو الذي ينتسب إليه الرسول – يقول ابن القيم رحمه الله: «إن إبراهيم كان يُحب إسماعيل حبًا عميقًا لطاعته، ولمشاركته له في بناء الكعبة، ولبره، ولنبوته، ولرجولته وفتوته».
ويبدأ امتحان جديد أقوى من الأول. هذا إبراهيم الشيخ الكبير. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يُرزق في كبره وهرمه بغلام، طالما تطلّع إليه، فلما جاءه جاء غلامًا حليمًا عليمًا.
وها هو ذا ما يكاد يأنس به، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، لا يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه رؤيا مُفزعة، رأى أنه يذبح ولده الوحيد، وفي اليوم الثاني نفس الرؤيا رأى انه يذبح ولده بيده، واليوم الثالث كذلك، ورؤيا الأنبياء حق فَهِم إبراهيم أنها إشارة للتضحية.
إن الأمر جاء منامًا، وهذا يكفي، هذا يكفي ليُلبّي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه، لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟! كلا إنما هو القبول والرضا والطمأنينة والهدوء.
إبراهيم عليه السلام كُلّه لله، وشُعَب قلبه كلها لله، فلما جاءه الولد أخذ شُعْبة من قلبه فابتلاه الله بذبحه ليعلم هل كله لله فكان حقًا خليل الرحمن الذي ليس في قلبه إلا الله.
﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾ [الصافات: 102]. والأمر شاق، فهو لا يطلب منه أن يُرسل ابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يُكلّفه أمرًا تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو ذبحه بيده.
إبراهيم عليه السلام لا يأخذ ابنه على حين غِرة وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه لأنه أمر الله فليكن ما يريد الله على العين والرأس، فعلى الأبن أن يعرف الأمر ويأخذه طاعة وإسلامًا، لا قهرًا واضطرارًا، لينال كلاهما أجر الطاعة والاستسلام والانقياد لله رب العالمين.
يا بني: إبراهيم تلطّف في عرض الأمر على ولده ليكون فعله صادر عن اقتناع و طواعية.
يا بني: جلس معه و خاطبه بهذه اللفظة.
يا بني: يُذكّره بأنه لم ينسى رابطة البنوة التي تربطه به أنا أبوك و أنت أبني، و مع ذلك إني أري في المنام أني أذبحك لكيلا يظن الابن أن ذلك ينافي الشفقة.
إبراهيم عليه السلام يُعلمنا من خلال هذه الوسيلة التربوية الرائعة كيفية توجيه الأبناء، ينبغي أن تكون بالمجالسة و بالملاطفة وبالنصيحة المباشرة و بأخذ الفترة المناسبة لكي يقع الأمر طواعية، و كما أمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – في أمر العبادات قال: «مُروا أولادكم بالصلاة لسبع و أضربوهم عليها لعشر و فرّقوا بينهم في المضاجع» [حسن، أخرجه أحمد ( 2/ 170 )، وأبو داود ح (495) والحاكم (1/ 197)]. فأمر أن يؤمر الطفل بالصلاة من غير عقوبة ثلاث سنوات متواصلة كل يوم خمس مرات، قم فصلّ قم فصلّ، و إذا دخل الأب البيت يسأل يقول: «أُصلّى الغلام » كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يفعل يوم دخل علي ميمونة و كان عندها ابن عباس فقال: «أُصلى الغلام». [أخرجه أحمد ( 1/ 354 )]
فماذا كان من أمر الغلام إسماعيل، الذي يُعرض عليه الذبح، تصديقًا لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى المنزلة التي ارتقى إليها أبوه. ﴿ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ وكان الجواب علي ما يُرضي الأب الرحيم الشفيق.
قال: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾ يا أبت فيها تعظيم و توقير و تكريم لأبيه، يا أبت أفعل ما تؤمر أفعل ما أمرك به ربك.
عباد الله: حُب الولد عظيم وكثيرٌ من الناس من أجل الأموال والأولاد ربما باعوا أديانهم، من أجل الأولاد يأكل الحرام، من أجل الأولاد ربما يتعامل بالربا ليبني مستقبلهم كما يقولون، لكنه مستقبلٌ من حرام، من اشتغل بماله وولده عن الله فهو خاسر. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].
فحُب الولد كان الامتحان الأكيد في أن إبراهيم خالصٌ لله سليمٌ قلبه لله. ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102] انقياد واستسلام وامتثال.. إن الكلمات لتعجز عن وصف هذا القول الذي يتمثل فيه الرضا التام بتضحية النفس في سبيل الله، تضحية: الوالد بولده، وتضحية الإبن بنفسه.
ألا ما أعظمه من موقف وما أرفعها من صورة ناصعة من صور الإيمان، وما أعظمها وأجلّها في تاريخ الإنسانية، فليس الإيمان ادعاءات تلوكها الألسن، وليس الإيمان تسلية للأحزان لفترة ما، كلا بل الإيمان اعتقاد في القلب وأقوال باللسان وعمل وتضحية وجهاد، وانقياد وطاعة وامتثال لله رب العالمين. إنه يتلقى الأمر في طاعة واستسلام ورضا ويقين.
لم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، ولم يأخذها اندفاعًا إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه مكانة ولا وزنًا، إنما أرجع الفضل كله لله إذا هو أعانه على ما يُطلب إليه، وأصبره على ما يريد به. ﴿ تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102]
﴿ يَا أَبَتِ ﴾ اذهب بي بعيدًا عن أعين أمي فإني أخشى أن تراك وأنت تذبحني فيفزع لذلك فؤادها. ويخطوان إلى التنفيذ: فيقتاد إبراهيم ابنه إلى مِنى ليُنفذ حكم الله تعالى، وفي يده سكينًا وحبلًا وامسك بيد ابنه إسماعيل، وانطلق به بعيدًا إلى منى، وتخيّل نظرات الوداع وهو يجر ابنه الوحيد إلى مكان حتفه وموته لا اله إلا الله.
إنه البلاء العظيم والتضحية.
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
الأمة اليوم بحاجة إلى تضحية من أجل الدين بالمال والنفس.
ماذا قدّمنا لدين الله؟ كيف نريد أن ينتصر الإسلام ونحن بخلنا عليه بأقل الأشياء؟
ويستشيط إبليس غضبًا من هذه الطاعة والاستسلام لأمر الله من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو الذي أُمر بسجدةٍ واحدة فعصى الله.
فيُقرّر الشيطان أن يعترض لإبراهيم ويصده عن أمر الله، فعندما وصل إبراهيم إلى جمرة العقبة عرض له الشيطان وقال:
يا إبراهيم تذبح ولدك الوحيد لرؤيا رأيتها في المنام؟ فرماه بسبع حصيات وقال: «اخسأ عدو الله أتحول بيني وبين أمر الله». حتى ذهب الشيطان، ثم عرَض له عند الجمرة الوسطى وقال:يا إبراهيم أتذبح ولدك الوحيد لرؤيا رأيتها في المنام؟ فرماه بسبع حصيات وقال: «اخسأ عدو الله أتحول بيني وبين أمر الله». ثم جاءه عند الجمرة الصُغرى، وقال: يا إبراهيم أتذبح ولدك الوحيد لرؤيا رأيتها في المنام؟ فرماه بسبع حصيات، وقال: « اخسأ عدو الله أتحول بيني وبين أمر الله». حتى يئس إبليس أمام هذا الثبات العظيم.
ينطلق إبراهيم إلى المنحر وإذا بها لحظات الوداع فيقول إبراهيم لولده إسماعيل: ما الأمر؟ فيقول إسماعيل: « قد أسلمت أمري لله وأنت يا أبت ما الأمر؟ فيقول: « يا ولدي قد أسلمت أمري لله »؛ مشهد لن تنساه الأرض إلى يوم القيامة.
وإذا بإبراهيم يضم ابنه إلى صدره ضمّة الوداع، قال تعالى واصفًا هذا الموقف العجيب والتسليم العظيم: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [الصافات: 103].
فقال إسماعيل:
يا أبتِ: اُشدد وثاقي حتى لا أضطرب بين يديك إذا مسني حر السكين.
يا أبتِ: اُكفف عني ثوبك حتى لا يتلطخ من دمي فتراه أُمي فتحزن.
يا أبتِ: أسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ.
يا أبتِ: كُبّ وجهي على الأرض؛ فإني أخشى أن تنظر إلى وجهي فتُدركك شفقة الأبوة فتتأخر عن تنفيذ أمر الله.
يا أبتِ: إذا أتيت أُمي فاقرأ عليها السلام مني.
فأقبل عليه إبراهيم يُقبله ويبكي ويقول: « نعم العون أنت يا بني على أمر الله». وإذا بإبراهيم يشد وثاق ابنه ويكبه على وجهه وعزم عزمًا أكيدا على ذبح ابنه تنفيذًا لأمر الله، والولد قد أسلم أمره لله منتظرًا أن يشحب دمه بين يدي أبيه: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ [الصافات: 103].
فمرّ السكّين على حلقه لكن السكّين لم تذبح، وقيل وضع الله صفيحة من نحاس فلم تقطع السكين.
السكين تقطع وهي سبب لكن رب الأسباب أمرها أن لا تقطع رقبة إسماعيل، النار تحرق وهي سبب والله رب الأسباب أمرها أن لا تحرق إبراهيم عليه السلام.
إبراهيم يريد أن يخلُص من تنفيذ أمر الله وإذا برب العالمين ينادي ويجلجل لصوته جبال منى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 104، 105].
فلما سمع إبراهيم جلجلت صوت رب العالمين التفت، وإذا بالملائكة تملأُ منى وجبريل نزل من الجنة يخترق السبع الطباق ومعه كبشٌ رعى في الجنة أربعين خريفا وهبطت ملائكة السماء لا اله إلا الله، فتقول الملائكة: يا إبراهيم قد كتب الله أجرك وهذا فداء ابنك لإسماعيل وفّ بنذرك ونفذ أمر الله، ويذبح إبراهيم ذاك الفداء، ويحتضن ابنه إسماعيل ويقول: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 39].
والله لا يريد أن يُعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء، ومتى أخلصوا له واستعدوا للأداء وعلم الله ذلك منهم فقد أدوا وحققوا التكليف، وجازوا الامتحان بنجاح.
قال تعالى: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147]. ﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 105] قد حصل المقصود، وهو اختبارك وطاعتك، ومبادرتك إلى أمر ربك، وبَذْلك ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان.
إن وجه العبرة في هذا المقطع عظيم، وهو أن الله سبحانه إنما أمرنا بفرائض وأوامر لينظر هل نأتمر بها أم لا؟ ونهانا عن المحرمات والذنوب لينظر صِدقنا في حقيقة انقيادنا وتصديقنا، حيث رضينا به ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ورسولًا.
إن الله سبحانه وتعالى لا يستفيد من ذبح فلان أو موته أو حياته، فلا تنفعه سبحانه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العصاة، إنما هذه دار اختبار وممر، لا دار حبور ومقر، وعلى قدر الطاعة أو المعصية تكون درجة العبد عند الله تعالى.
ومن تلك المحنة التي انقلبت منحة أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالأضاحي كل عام، فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال أصحاب رسول الله: ما هذه الأضاحي يا رسول الله؟ قال: «سُنّة أبيكم إبراهيم» قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: «بكل شعرة حسنة» [أخرجه أحمد ( 4/ 368 )، وعبد بن حميد (259)، وابن ماجه في الأضاحي (3127)، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجه (672):].، وجاء في الحديث: «من وجد سعة ولم يضحّ فلا يقربن مصلانا».
هذا وصلوا – عباد الله: – على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.