{ كيف تكفرون بالله.. }
﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ﴾
قال تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 28، 29].
﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ﴾ [البقرة: 28] الاستفهام هنا للتعجُّبِ مع التقريع والتوبيخ؛ لعدم وجود مقتضٍ للكفر، والمعنى: أخبروني على أي حال تكفرون؟!
وهذا الخطاب فيه التفات؛ لأن الكلام قبل كان بصورة الغيبة، ألَا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 26] إلى آخره؟ وفائدة هذا الالتفات أن الإنكار إذا توجَّه إلى المخاطب كان أبلغ من توجُّهِهِ إلى الغائب؛ لجواز ألَّا يصله الإنكار، بخلاف من كان مخاطبًا، فإن الإنكار عليه أرْدَعُ له عن أن يقع فيما أُنْكِر عليه.
وأتى بصيغة ﴿ تَكْفُرُونَ ﴾ مضارعًا ولم يأتِ به ماضيًا – وإن كان الكفر قد وقع منهم – لأن الذي أنكر تعجب منه الدوام على ذلك، والمضارع هو المشعِر به، ولئلا يكون ذلك توبيخًا لمن وقع منه الكفر ثم آمن، إذ لو جاء (كيف كفرتم بالله)، لاندرج في ذلك من كفر ثم آمن، كأكثر الصحابة رضي الله عنهم.
والكفر – بضم الكاف – أصله جَحْدُ المنعَم عليه نعمة المنعِم، اشتُق من مادة (الكَفر) بفتح الكاف؛ وهو الحَجْبُ والتغطية؛ لأن جاحد النعمة أخفى الاعتراف بها، كما أن شاكرها أعلنها، وضده الشكر، ثم أُطلِق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة؛ بِناء على أنه أشد صور كُفْرِ النعمة.
وأما إطلاقه في السُّنَّة وفي كلام أئمة المسلمين، فهو الاعتقاد الذي يُخرِج معتقِده عن الإسلام، وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالةً لا تحتمِل غيرَ ذلك.
وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام، إطلاقًا على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر، ولكن بعض فرق المسلمين يتشبَّثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر، ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله.
ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفُر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر؛ فقد ارتُكِبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء، فلم يعامِلوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين، والقول بتكفير العصاة خطرٌ على الدين؛ لأنه يَؤُول إلى انحلال جامعة الإسلام، ويهوِّن على المذنب الانسلاخ من الإسلام؛ منشدًا: “أنا الغريق فما خوفي من البللِ”.
﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ﴾ [البقرة: 28]، هذا برهان على بطلان كفرهم؛ إذ كيف يكفر العبد ربَّه، وهو الذي خلقه بعد أن لم يكُ شيئًا.
والواو في ﴿ وَكُنْتُمْ ﴾ واو الحال، على إضمار (قد)؛ أي: “وقد كنتم أمواتًا فأحياكم”؛ نحو قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ [يوسف: 45]، ﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ﴾ [هود: 42].
﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [البقرة: 28]، والإماتة الأولى هي كونهم نُطَفًا وعَلَقًا ومُضَغًا، والإماتة الثانية هي موتهم عند انقضاء آجالهم في الدنيا، والإحياءة الأولى نفخ الروح فيهم وإخراجهم أحياء من بطون أمهاتهم، والإحياءة الثانية بعثُهم من قبورهم أحياءً يوم القيامة؛ وهذا نظير قوله تعالى: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [غافر: 11].
وفيه أن الموت يُطلَق على ما لا روحَ فيه، وإن لم تسبقه حياة؛ يعني: لا يشترط للوصف بالموت تقدم الحياة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ﴾ [البقرة: 28]؛ أما ظن بعض الناس أنه لا يُقال: “ميت” إلا لمن سبقت حياته، فهذا ليس بصحيح؛ بل إن الله تعالى أطلق وصف الموت على الجمادات؛ قال تعالى في الأصنام: ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ [النحل: 21].
وفيه أن الجنين لو خرج قبل أن تُنفَخ فيه الروح، فإنه لا يثبت له حكم الحيِّ؛ ولهذا لا يُغسَّل، ولا يُكفَّن، ولا يُصلَّى عليه، ولا يَرِث، ولا يُورَث؛ لأنه ميت جماد لا يستحق شيئًا مما يستحقه الأحياء، وإنما يُدفَن في أي مكان في المقبرة، أو غيرها.
﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 28] فيها من الترهيب والترغيب ما يزيد المسيء خَشيةً ويَرُدُّه عن بعض ما يرتكبه، ويزيد المحسن رغبةً في الخير، ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان، وفيها رد على الدَّهْرِيَّة والْمُعَطِّلة ومنكري البعث؛ إذ هو بيده الإحياء والإماتة والبعث، وإليه يرجع الأمر كله.
قال ابن عطية: “وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتًا معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها، قَوِيَ عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حُجَّة عليها”.
والآية تفريع عن الاستدلال، وليس هو بدليل؛ إذ المشركون ينكرون الحياة الآخرة، فهو إدماج وتعليم، وليس باستدلال، أو يكون ما قام من الدلائل على أن هناك حياة ثانية، قد قام مقام العلم بها، وإن لم يحصل العلم، فإن كل من علِم وجود الخالق العدل الحكيم، ورأى الناس لا يجرون على مقتضى أوامره ونواهيه، فيرى المفسد في الأرض في نعمة، والصالح في عناء، علِم أن عدل الله وحكمته ما كان ليضيع عملَ عاملٍ، وأن هنالك حياةً أحكمَ وأعدلَ من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم، وسموِّ حقائقهم.
ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه، وجزيل امتنانه من خلق الأرض الْمُقِلَّة، والسماء الْمُظِلَّة، وخَلْقِ جميع ما في الأرض لهم، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي، وأن العالم العلويَّ والعالم السفليَّ بالنسبة إلى قدرته على السواء، وأنه عليم بكل شيء.
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29]، هذا إما استدلال ثانٍ على شناعة كفرهم بالله تعالى، وعلى أنه مما يُقضى منه العجب؛ فإن دلائل ربوبية الله ووحدانيته ظاهرة في خلق الإنسان، وفي خلق جميع ما في الأرض، فهو ارتقاء في الاستدلال بكثرة المخلوقات.
وإما أن يكون قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ… ﴾ [البقرة: 29] امتنانًا عليهم بالنِّعَمِ لتسجيل أن إشراكهم كفرانٌ بالنعمة، أدمج فيه الاستدلال على أنه خالق لِما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن، استدلالًا بما هو نعمة مشاهَدة؛ كما أشار إليه قوله: ﴿ لَكُمْ ﴾.
قال أبو عثمان: “وَهَبَ لك الكلَّ وسخره لك؛ لتستدل به على سَعَةِ جُوده، وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد، ولا تستكثر كثيرَ بِرِّه على قليل عملك، فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد”.
والعجب أن من الناس من سخَّر نفسه لِما سخره الله له؛ فخدم الدنيا، ولم تخدُمه، وصار أكبر همَّه الدنيا؛ من جمع المال، وتحصيل الجاه، وما أشبه ذلك.
وفيه حِلِّيَّة كل ما في الأرض من مطاعمَ ومشاربَ، وملابسَ ومراكبَ، إلا ما حرمه الدليل الخاص من الكتاب أو السنة.
وهنا تأكيد لهذا العموم بقوله تعالى: ﴿ جَمِيعًا ﴾ مع أن ﴿ مَا ﴾ موصولة تفيد العموم، لكنه سبحانه وتعالى أكَّده؛ حتى لا يتوهم واهمٌ بأن شيئًا من أفراد هذا العموم قد خرج من الأصل.
﴿ ثُمَّ اسْتَوَى ﴾ [البقرة: 29] أقْبَلَ وعمَد إلى خلقها، وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، وهو استعارة من قولهم: “استوى إليه كالسهم المرسل”، إذا قَصَدَهُ قصدًا مستويًا من غير أن يَلْوِيَ على شيء.
والاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج، يقال: صراط مستوٍ، واستوى فلان وفلان، واستوى الشيء، ويطلق مجازًا على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة، كأنه يسير إليه مستويًا لا يَلوي على شيء.
وقد تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحِلَّ فيه حادث، أو يحل هو في حادث.
﴿ إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 29] مشتقة من السموِّ وهو العلوُّ، وكانت السماء دخانًا، ﴿ فَسَوَّاهُنَّ ﴾ [البقرة: 29] خَلَقَهُنَّ في استقامة، واستقامة الخَلْقِ هي انتظامه على وجه لا خَلَلَ فيه ولا ثَلْمَ، ﴿ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ [البقرة: 29] أتمَّ خلقهن سبع سماوات تامات مستويات، لا فطورَ فيها ولا صَدْعَ.
والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدِّم على تسوية السماء سبعًا لا غير، والمختار أن جَرْمَ الأرض خُلِق قبل السماء، وخُلِقت السماء بعدها، ثم دُحِيَت الأرض – أي: بُسطت وخُلق فيها منافعها – بعد خلق السماء، وبهذا يُحمل الجمع بين الآيات.
قال ابن عاشور: وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض، فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن، ونُسِب إلى ابن عباس: إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء؛ لقوله تعالى هنا: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [البقرة: 29]، وقوله في سورة حم السجدة: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [فصلت: 9]، إلى أن قال: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ [فصلت: 11].
وقال قتادة والسدى ومقاتل: إن خَلْقَ السماء متقدِّم؛ واحتجوا بقوله تعالى: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾ [النازعات: 27، 28]، إلى قوله: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [النازعات: 30].
وقد أُجِيب بأن الأرض خُلِقت أولًا، ثم خُلِقت السماء، ثم دُحِيت الأرض؛ فالمتأخر عن خلق السماء هو دَحْوُ الأرض.
﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29] نتيجة لِما ذكره من دلائل القدرة التي لا تصدر إلا من عليم، فمِن عِلْمِهِ عز وجل أنه علِم كيف يخلق هذه السماء.
وختم ذلك بالفضل الأكبر من إعلامهم بإحاطة علمه بجميع الأشياء من الابتداء إلى الانتهاء.
وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم؛ لأنه تقدَّم ذِكْرُ خَلْقِ الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي، وغير ذلك من الإماتة والإحياء، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء.
وقالوا: علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحدًا يعلم به جميع المعلومات، وبأنه لا يتغير بتغيرها، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم؛ أي: لا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية.