كيوم ولدته أمه
كيومِ ولدتْهُ أمُّه
الإنسان يُولَد مرة واحدة، ولا يُولَد عدة مرات، لكنه يحيا مرات عديدة؛ عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حجَّ فلم يرفُثْ، ولم يفسُقْ، رجع كيوم ولدته أمه))؛ [متفق عليه].
في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من حج لله مبتغيًا وجهه، بلا رياء ولا سمعة، (فلم يرفث)؛ بمعنى: فلم يفعل شيئًا من الجِماع أو مقدماته، وقيل: الرفث اسم للفحش من القول، (ولم يفسق)؛ أي: ولم يرتكب إثمًا أو مخالفةً شرعيةً – صغيرةً أو كبيرةً – تُخرِجه عن طاعة الله تعالى، وإنما صرَّح بنفي الفسق في الحج، مع كونه ممنوعًا في كل حال، وفي كل حين؛ لزيادة التقبيح والتشنيع، ولزيادة تأكيد النهي عنه في الحج، وللتنبيه على أن الحج أبْعَدُ الأعمال عن الفسق، فمن فعل ذلك، عاد بعد حَجِّه نقيًّا من خطاياه، كما يخرج المولود من بطن أمه، أو كأنه خرج حينئذٍ من بطن أمه، ليس عليه خطيئة ولا ذنب؛ وقال ابن حجر: “وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتَّبِعات”.
أخي… أختي…
فتحت في حياتك صفحةً بيضاءَ نقية، ولبِستَ بعد حَجِّك ثيابًا طاهرة نقية، فحذارِ حذار من تسويد صحيفتك بالأفعال المحرَّمة، والأقوال، فما أحسن الحسنةَ تَتْبَعُها الحسنةُ! وما أقبح السيئة بعد الحسنة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 92].
قال عبدالله بن المبارك:
رأيتُ الذنوب تُمِيت القلوب وقد يُورِثُ الذُّلُّ إدمانَها وتركُ الذنوب حياةُ القلوب وخيرٌ لنفسك عصيانها |
وحتى تُولَد من جديد، وتحيا حياة جديدة؛ تذكَّر قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغيِّر ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، فإذا كانوا في سوء ومعاصٍ أو كفر وضلال، ثم تابوا وندِموا واستقاموا على طاعة الله، غيَّر الله حالهم من الحالة السيئة إلى الحالة الحسنة، غيَّر تفرُّقَهم إلى اجتماع ووئام، وغيَّر شدَّتَهم إلى نعمة وعافية ورخاء، وغيَّر حالهم من جَدْبٍ وقحط وقلة مياه ونحو ذلك، إلى إنزال الغيث، ونبات الأرض، وغير ذلك من أنواع الخير.
فهذه هي الحياة الطيبة التي يحياها المؤمن؛ التي ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97].
والله أعلم، وصلى الله على محمد وسلم[1].
[1] المراجع: تفسير الطبري، وتفسير القرطبي، وموقع ابن باز رحمه الله، وموقع الدرر السنية.