لا تر الناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر
لا تُر الناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر
الحمد لله المجيب لكل سائل، التائب على العباد، فليس بينه وبين العباد حائل، جعل ما على الأرض زينة لها، وكل نعيم لامحالة زائل، حذَّر الناس من الشيطان وللشيطان منافذ وحبائل، فمن أسلم وجهه لله، فذاك الكيِّسُ العاقل، ومن استسلم لهواه فذاك الضال الغافل.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الشريك وعن الشبيه وعن المشاكل.
من للعباد غيره؟ ومن يدبر الأمر؟ ومن يعدل المائل؟ من يشفي المريض؟ من يرعى الجنين في بطن الحوامل؟ ما أخبار قلبك؟ ماذا في قلبك لربك جل جلاله؟ ماذا في قلبك من محبة الدنيا؟ ماذا في قلبك من خوف ورجاء؟ أما ماذا في قلبك من فتن الشهوات؟
حديثنا وموعظتنا إنذار وتحذيرٌ لي ولكم أن نظهر في ثوب الأتقياء وقلوبنا مليئة بالأهواء، أن نظهر للناس الإخلاص، وقلوبنا تريد وجه الناس، عن محمد بن واسع قال: «قال لقمان لابنه: يا بني، لا تُر الناس أنك تخشى الله، وقلبك فاجر[1]»[2].
إنه يحذِّر من خشوع النفاق الذي يظهر به أهل المعاصي والفجور، يصدق فيه قول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 204، 205].
فقلوب هؤلاء قلوب ذئاب، وما أخبث الذئب إذا ظهر في ثوب الناصحين!
والذئب أخبثُ ما يكون إذا بدا متلبسًا بين النِّعاج إهابَا |
وهؤلاء إذا خلو بمحارم الله انتهكوها؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 14 – 16].
فلقمان يوصي ابنه ألا يخشى إلا الله ولا يعامل في قوله وفعله إلا الله، وهذا الإخلاص الذي أمرنا الله تعالى به، وحثنا عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وقال: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: 2، 3].
﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾؛ أي: أخلص لله تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة: الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تفرد اللّه وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد.
﴿ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾ هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به؛ لأنه متضمن للتأله لله في حبه وخوفه ورجائه، وللإنابة إليه في عبوديته، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده[3].
وروى الشيخان عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» [4]، وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”[5].
وروى الشيخان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: « إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» [6].
عن جُنْدُبً قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ [7]، يقول ابن بطال رحمه الله: «من سمع » معناه من سمع بعمله الناس، وقصد به اتخاذ الجاه والمنزلة عندهم، ولم يرد به وجه الله، فإن الله تعالى يسمع به خلقه، أي يجعله حديثًا عند الناس الذي أراد نيل المنزلة عندهم بعمله، ولا ثواب له في الآخرة عليه، وكذلك من راءَى بعمله الناس راءى الله به؛ أي أطلعهم على أنه فعل ذلك لهم ولم يفعله لوجهه، فاستحق على ذلك سخط الله وأليمَ عقابه)[8].
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ»[9].
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلُ أَهْلِ الشَّامِ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»[10].
موعظة: “أيُّهَا النَّاس إِنَّ سُبُلَ الْعَافِيَةِ مُنْدَرِسَةٌ لِقلَّةِ سُلاكِهَا، وإنَّ عللَ الْقُلوبِ الْقَاسِيةِ مؤذنةٌ بِهَلاكِهَا، وإِنَّ رُسُلَ الْمَنُونِ قَانِصَةُ لا تُفْلِتُ أَحَدًا مِنْ شِبَاكِهَا، فَمَا للعيونِ نَاظِرَةٌ وَلا تُبْصِرُ، وَمَا للقلوب قاسيةٌ وَلا تُفَكِّرُ، وَمَا للعقولِ طَائِشَةٌ لاهِيةٌ بِجَمْعِ الدُّنْيَا وَلا تَشْعُرُ، وَمَا لِلنِّفُوسِ قَاسِيَةٌ وَلا تَذكرُ، أَغَرَّهَا إِنْظَارُهَا وإمْهَالُهَا، أَمْ بَشَّر بالنَّجَاةِ صَالحُ أَعْمَالِهَا أَمْ لَمْ يَتَحققْ عِنْدَهَا من الدُّنْيَا زَوَالِهَا.
أَمَدُ الحَيَاةِ كَمَا عَلِمْتَ قَصِيرُ وَعَلَيْكَ نَقَّادٌ بِهَا وَبَصِيرُ عَجَبًا لِمُغْتَرٍّ بِدَارِ فَنَائِهِ وَلَهُ إِلَى دَار البَقَاءِ مَصِيرُ[11] |
[1] الفاجر: الفاسق غير المكترث المنغمس في المعاصي.
[2] الزهد لأحمد بن حنبل، (ج 2 / ص 59ح 542 والزهد والرقائق لابن المبارك – (ج 1 / ص 202192 وبلوغ الأرب بتقريب كتاب الشعب – (ج 1 / ص 437).
[3] تفسير السعدي – (ج 1 / ص 717).
[4] أخرجه: البخاري 1 /2 ( 1 ))، ومسلم 6/48 ( 1907 ) ( 155).
[5] أخرجه مسلم ح 2564 وأحمد ح 7814.
[6] صحيح البخاري ح 6491)، وصحيح مسلم ح 131 ) (207).
[7] أخرجه البخاري ح 6499 ومسلم ح 2986و أحمد ح 20474 والنسائي في الكبرى 11700و البيهقي في الشعب ح 5753
[8] شرح ابن بطال -(ج 19 / ص 275)
[9] أخرجه مسلم ح 5300 وابن ماجه ح 4192
[10] أخرجه أحمد ح 7928 ومسلم ح 3527.
[11] موارد الظمآن لدروس الزمان (1/ 226).