لا حمى إلا لله ولرسوله


حديث: لا حِمى إلا لله ولرسوله

 

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جثَّامة رضي الله عنه أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حِمى إلا لله ولرسوله))؛ رواه البخاري.

 

المفردات:

لا حمى إلا لله ولرسوله: الحِمى لغةً المنعُ، قال في القاموس: حَمَى الشيء يحميه حميًا وحِماية بالكسر ومحمية: منعه، وكلأٌ حِمى كرِضا: محمي؛ اهـ، ويقال: حَمَى المريض؛ أي: منعه ما يضرُّه، ومنه قول الشاعر:

تقولُ سُلَيمى ما لجسِمكَ شاحبًا
كأنَّك يحميك الشرابَ طبيبُ

والحِمَى: المكان المحمي، وأحمى المكانَ جعله حِمى لا يقرب، أو وجده حمى، قال الحافظ في الفتح: أصل الحمى عند العرب أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلًا مخصبًا استعوى كلبَه على المكان على، فإلى حيث انتهى صوته حماه مِن كل جانب، فلا يرعى فيه غيره ويرعى هو مع غيره فيما سواه، والحمى: المكان المحمي، وهو خلاف المباح، ومعناه أن يمنع من الإحياء من ذلك الموات ليتوفَّر فيه الكلأ، فترعاه مواشٍ مخصوصةٌ، ويمنع غيرها؛ اهـ.

 

وقد جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا وإن لكل مَلِك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه))، ويعرف الحمى شرعًا بأن يمنع الإمام الرعي في أرض مخصوصةٍ من المباحات يجعلها مخصوصةً برَعْي بهائم الصدقة مثلًا، فلا يُمكَّن أحدٌ من إحيائها، وقد أبطل الإسلام عادة الجاهلية في الحمى وقصره على إمام المسلمين لمصلحة المسلمين.

 

البحث:

أورد البخاري هذا الحديث في الشرب في باب لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من طريق ابن شهاب عن عبيدالله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جثَّامة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله))، وقال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حَمَى الشرف والرَّبَذَة.

 

قال الحافظ في الفتح: قوله: وقال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع؛ كذا لجميع الرواة إلا أبي ذر، والقائل هو ابن شهاب، وهو موصول بالإسناد المذكور إليه، وهو مرسل أو معضل، وهكذا أخرجه أبو داود من طريق ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، فذكر الموصول والمرسل جميعًا.

 

ووقع عند أبي ذر: وقال أبو عبدالله: بلغنا إلى آخره، فظن بعض الشراح أنه من كلام البخاري المصنف، وليس كذلك، فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان، عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه، فذكر الموصول والمرسل جميعًا على الصواب.

 

كما أخرجه أبو داود، وقد وقع لأبي نعيم في مستخرجه فيه تخبيطٌ؛ فإنه أخرجه من الوجه الذي أخرجه منه الإسماعيلي، فاقتصر في الإسناد الموصول على المتن المرسل، وهو قوله: (حمى النقيع)، وليس هذا من حديث ابن عباس عن الصعب، وإنما هو بلاغٌ للزهري كما تقدَّم؛ اهـ.

 

والنقيع في الأصل يُطلَق على كلِّ موضع يستنقع فيه الماء والبئر الكثيرة الماء، وهو يطلق على بعض المواضع كذلك؛ كنقيع الخضمات، وهو الذي جمع فيه أسعد بن زُرارة بالمدينة، أما النقيع الذي حماه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يقع جنوبَي المدينة، ويعرف الآن بوادي النقيع، ويقع شمالي الفرع وشرقي ورقان، ومساحته حوالي ميل في ثمانية أميال، ويبعُد النقيع عن المدينة بنحو ثمانين “كيلو متر”، وسيل وادي النقيع يصبُّ في وادي العقيق، وما روي من أن نقيع الحمى هو نقيع الخضمات فليس بصحيح؛ لأنه من رواية عبدالله العمري، وهو ضعيف.

 

وأما قوله: ((لا حمى إلا لله ولرسوله))، فقد قال الحافظ في الفتح: قال الشافعي: يحتمل معنى الحديث شيئينِ:

أحدهما: ليس لأحدٍ أن يحمي للمسلمين إلا ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم.

 

والآخر: معناه: إلا على مثل ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم.

 

فعلى الأول ليس لأحد من الولاة بعده أن يحمي، وعلى الثاني يختص الحمى بمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الخليفة خاصة؛ اهـ.

 

والظاهر هو المعنى الثاني؛ لِما ثبت أن عمر رضي الله عنه حمى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حمى عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، فقد تواتر عند الناس أن عمر حمى الشرف والرَّبَذة، وكون عُروة وُلِد في أواخر خلافة عمر؛ لكنه شبَّ ونشأ في المدينة في قوم لا يجهلون ما حماه عمر رضي الله عنهما.

 

كما روى البخاري في صحيحه في أواخر الجهاد من طريق مالك عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولًى له يُدعي هُنيًّا على الحمى، فقال: يا هُنَيُّ، اضمُمْ جَناحك عن المسلمين، واتقِ دعوةَ المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخِلْ رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونَعَم ابن عوف ونَعَم ابن عفان، فإنهما إن تهلِك ماشيتُهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن ربَّ الصريمة ورب الغنيمة إن تهلِك ماشيتُهما يأتِني ببنيه، فيقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركُهم أنا؟ لا أبا لكَ؛ فالماء والكلأ أيسرُ عليَّ من الذهب والوَرِق، وايم اللهِ إنهم ليرون أني قد ظلمتُهم، إنها لبلادهم؛ فقاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حَميتُ عليهم من بلادهم شبرًا.

 

وقول عمر رضي الله عنه في هذا الحديث: وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة؛ أي: لا تمنَع من الرعي في الحمى ربَّ الصريمة ورب الغنيمة، والصُّرَيمة تصغير صِرمة بكسر الصاد، وهي القطعة من الإبل ما بين عشرة إلى بضع عشرة، وقيل: ما بين العشر إلى الأربعين، وقيل: ما بين العشرين إلى الثلاثين، والتصغير للتقليل؛ أي: أدخل إلى الرعي في الحمى أصحاب الإبل والغنم القليلة؛ تيسيرًا لهؤلاء الضِّعاف وجبرًا لخاطرهم، والمراد بالحمى المذكور في الحديث هو حمى الشَّرَف والرَّبَذة الذي سُقْته عن البخاري في هذا الحديث، والشَّرَف بفتح الشين والراء، وهو جبل، قال في القاموس: قرب جبل شريف، وشريف أعلى جبل ببلاد العرب، وقد صعِدتُه، وفي الشرف حمى ضرية والرَّبَذة؛ اهـ.

 

وقول صاحب القاموس: حمى ضرية والرَّبَذَة، فيه نظر؛ لأن ضرية تقع في أرض القَصيم، على بعد حوالي مائة وخمسين كيلومتر جنوب غرب مدينة الرس، وتقع شرق الرَّبَذة مع ميل إلى الجنوب بحوالي مائتي كيلومتر، وتقع ضرية بين الرس وعفيف، أما الرَّبَذة، فتبعُدُ عن المدينة المنورة بحوالي مائتي كيلو متر، وتقع شرقي المدينة مع ميل إلى الجنوب، وكانت قديمًا على طريق العراق إلى الحجاز، ويقع شماليَّها جبلُ سنام، ويبعُدُ عنها بحوالي: 12 كيلومتر، وقد كانت الرَّبَذة قرية عامرة إلى أن خرَّبها القرامطة سنة 319 هـ.

 

وقول الحافظ في الفتح في الرَّبَذة: موضعٌ معروف بين مكة والمدينة – غيرُ سديد.

 

أما الشَّرَف، فهو جبل يقع بجوار الرَّبَذة من شرق على بعد عشرة كيلومتر تقريبًا منها، ويمتد هذا الجبل من “عرجا” شمالًا إلى الجنوب بطول مائة كيلومتر تقريبًا، وسَيْله ينحدر من شرقيِّه إلى القَصيم، ومن غربيِّه إلى الحجاز، ويبدو أنه أعلى مكان هناك، والظاهر أن الفيروزابادي لم يتمكن مِن معرفة هذه الأماكن، ولذلك كان كلامه مضطربًا؛ فقد قال – في فصل الضاد من باب الواو والياء -: وضرية بين البصرة ومكة، وعند كلامه على الربذة، في فصل الراء من باب الذال، قال: قرب المدينة؛ اهـ.

 

وقد اشتهر عند الناس أن عمر رضي الله عنه حمى ضرية كذلك، فهو قد حمى الربذة والشرف وضرية، ثم جاء عثمان رضي الله عنه فحافظ على حمى النقيع الذي حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحافظ على الربذة والشرف وضرية، إلى أن ازدادت النَّعَم في عهد عثمان رضي الله عنه فبلغت نحوًا من أربعين ألفًا، فأمر عثمان رضي الله عنه أن يُزاد في الحمى ما يحمل إبل وظهر الغزاة، فزاد فيها زيادة كبيرة لمصلحة المسلمين، واشترى عثمان رضي الله عنه ماءً من مياه بني ضبينة[1]،كان أدنى مياه غنى إلى ضرية يقال له البكرة، وأدخله في الحمى بعد أن اشتراه من ماله رضي الله عنه.

 

ما يستفاد من ذلك:

1- إبطال عادات أهل الجاهلية.

 

2- جواز أن يحمي الإمام بعض النواحي؛ فلا ترعى إلا لمواشي بيت مال المسلمين.

 

3- جواز الإذن بالرعي في الحمى لبعض ذوي الحاجة من المسلمين.

 

4- لا يجوز إحياء الموات الذي تتعلق به مصالح المسلمين.


[1] ضبينة أبو بطن من غطفان، وغنى حي من غطفان، قال الوزير الفقيه عبدالله بن عبدالعزيز البكري الأندلسي، المتوفَّى سنة 487 هـ، في كتابه معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواقع: الرمَّة – وابن دُريد يخفف الميم – هو وادٍ عظيم بنجد، تمده أودية كثيرة، كلها تغذيه، وأعظمها الجريب، وعلى لسانه يقول الشاعر:

كل بنيَّ فإنه يحسيني
إلا الجريبَ فإنه يرويني

قال صاحب القاموس المحيط الفيروزابادي، عن جبل شريف: والشَّرَف وهو أعلى جبل ببلاد العرب، ويقع فيه حمى الربذة وضرية؛ اهـ.

قلت: هذا وهم من صاحب القاموس؛ فإنه يبدأ مِن عرجا شمالًا ويمتد لأكثر من مائة كيلو جنوبًا، وقول البكري يدل على أن كل الأودية التي تمد وادي الرمة فائدتها قليلة؛ لأن الحسو هو البئر إذا نزعت منها دلوًا جمت؛ كأنه يقول: ماؤها قليل إلا الجريب، أقول: حيث يأتي ماؤه من مرتفعات بين عفيف وظلم جنوبًا، وتمده أودية من شرقيه وغربيه حتى يصل إلى الشرف، ويصب ماؤه من غرب في الربذة ومن شرق في وادي الرمة، ثم يتجه شرقًا من جنوب أبان، وعندما ينتهي الجبل يتجه إلى الشرق ويصب ماؤه من غرب في الرَّبَذة ومن شرق في وادي الرمة، ثم يتجه شرقًا من جنوب أبان، وعندما ينتهي الجبل إلى الشرق حتى يمرَّ من شمالي الرس، ثم يتجه شرقًا حتى يمر من شمالي عنيزة بينها وبين الربذة وهو إلى عنيزة أقرب، ثم يتجه شرقًا إلى جهة الزبير ليصبَّ في الخليج العربي إلا أنه أحيانًا ينسد طريقه في رمال الدهناء.



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم
خطبة لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم