لطائف من كتاب الداء والدواء (3)
لطائف من كتاب الداء والدواء (3)
(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)
كلُّ شرٍّ وداءٍ في الدنيا والآخرة سببُه الذنوب:
فمما ينبغي أن يُعلَم أن الذنوب تضر ولا بد، وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرٌّ وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور، إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجُعِلت صورته أقبحَ صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع؟ وبُدِّل بالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحًا، وبالجنة نارًا تلظَّى، وبالإيمان كفرًا، وبموالاة الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك، والكذب والزور والفحش، وبلِباس الإيمان لباسَ الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحلَّ عليه غضب الرب تعالى فأهواه، ومقته أكبر المقت فأرداه، فصار قوَّادًا لكل فاسق ومجرم رضِيَ لنفسه بالقيادة، بعد تلك العبادة والسيادة، فعياذًا بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك.
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: “إنكم لَتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشَّعر، إن كنا لَنَعُدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات”.
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عُذِّبت امرأة في هرَّةٍ حبستها حتى ماتت، فدخلت النار، لا هي أطعمتها، ولا سَقَتْها، ولا تركتها تأكل من خَشَاشِ الأرض)).
وفي المسند وجامع الترمذي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمنَ إذا أذنب نُكِت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب، ونزع، واستغفر، صُقِل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلوَ قلبه، فذلك الرَّانُ الذي ذكر الله عز وجل: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]))؛ [قال الترمذي: هذا حديث صحيح].
غلط الناس في تأخر تأثير الذنب:
ذكر عبدالله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن محمد بن سيرين: أنه لما ركبه الدَّين اغتمَّ لذلك، فقال: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
وها هنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب، وهي أنهم لا يَرَون تأثيره في الحال، وقد يتأخر تأثيره فيُنسى، ويظن العبد أنه لا يغبر بعد ذلك، وأن الأمر كما قال القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبارُ |
وسبحان الله! ماذا أهلكت هذه البلية من الخلق! وكم أزالت من نعمة! وكم جلبت من نقمة! وما أكثر المغترين بها من العلماء، فضلًا عن الجهَّال! ولم يعلم المغترُّ أن الذنب ينقض، ولو بعد حين، كما ينقض السُّمُّ، وكما ينقض الجرح المندمِل على الغش والدَّغَل.
من أضرار المعاصي للعبد في دينه ودنياه وآخرته:
حرمان العلم والرزق:
فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.
ولما جلس الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه، أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه؛ فقال: “إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تُطفئه بظلمة المعصية”.
وقال الشافعي:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلم فضل وفضلُ الله لا يُؤتاه عاصِ |
وكما أن تقوى الله مَجْلَبة للرزق، فترك التقوى مجلبة للفقر، فما استُجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي.
الوحشة في قلب العاصي بينه وبين الله:
ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله، لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلًا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تَفِ بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحُسُّ به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت ٍإيلامُ.
فلو لم يترك الذنوب إلا حذرًا من وقوع تلك الوحشة، لكان العاقل حريًّا بتركها.
وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشةً يجدها في نفسه؛ فقال له:
إذا كنت قد أوحشتك الذنوب فَدَعْها إذا شئتَ واستأنس |
وليس على القلب أمرُّ من وحشة الذنب على الذنب، فالله المستعان.
الوحشة بينه وبين الناس:
ومنها: الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشةً بينه وبينهم، وكلما قَوِيت تلك الوحشة، بعُد منهم ومن مجالستهم، وحُرِمَ بركة الانتفاع بهم، وقرُب من حزب الشيطان بقدر ما بعُد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم، فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه، وبينه وبين نفسه، فتراه مستوحشًا من نفسه.
وقال بعض السلف: “إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي”.
تعسير الأمور:
ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا دونه، أو متعسرًا عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، فمن عطَّل التقوى جعل له من أمره عسرًا.
ويا لله العجب! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودةً عنه، وطرقها معسرةً عليه، وهو لا يعلم من أين أُتِيَ؟
ظلمة في القلب:
ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقةً، يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهمَّ، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره؛ فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قَوِيَتِ الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع والضلالات والأمور الْمُهْلِكة، وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده، وتَقْوَى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه وتصير سوادًا فيه يراه كل أحد.
وهن القلب والدين:
أما وهنها للقلب، فأمر ظاهر بل لا تزال تُوهنه حتى تُزيل حياته بالكلية.
وأما وهنها للبدن، فإن المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوِيَ قلبه قوِيَ بدنه، وأما الفاجر، فإنه وإن كان قوي البدن، فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، وتأمَّل قوة أبدان فارس والروم، كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم؟
حرمان الطاعة:
ومنها: حرمان الطاعة، فلو لم يكن للذنب عقوبةٌ إلا أنه يصد عن طاعة تكون بدله، ويقطع طريق طاعة أخرى، فينقطع عليه طريق ثالثة، ثم رابعة، وهلم جرًّا، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خيرٌ له من الدنيا وما عليها، وهذا كرجل أكل أكلةً أوجبت له مرضة طويلةً منعته من عدة أكلات أطيب منها، فالله المستعان.
قصر العمر:
ومنها: أن المعاصي تقصر العمر، وتمحق بركته، ولا بد؛ فإن البِرَّ كما يزيد في العمر، فالفجور يقصر العمر.
وقد اختلف الناس في هذا الموضع، فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره ومحقها عليه، وهذا حقٌّ، وهو بعض تأثير المعاصي، وقالت طائفة: بل تنقصه حقيقة، كما ينقص الرزق، فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسبابًا تكثره وتزيده، وللبركة في العمر أسبابًا تكثره وتزيده.
وقالت طائفة أخرى: تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب؛ ولهذا جعل الله سبحانه الكافر ميتًا غير حيٍّ؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ [النحل: 21]، فالحياة في الحقيقة حياة القلب، وعمر الإنسان مدة حياته، فليس عمره إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبِرُّ والتقوى والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها.
وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصي، ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غِبَّ إضاعتها يوم يقول: ﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 24]، فلا يخلو إما أن يكون له مع ذلك تطلُّع إلى مصالحه الدنيوية والأخروية، أو لا، فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك، فقد ضاع عليه عمره كله، وذهبت حياته باطلًا، وإن كان له تطلع إلى ذلك، طالت عليه الطريق بسبب العوائق، وتعسرت عليه أسباب الخير، بحسب اشتغاله بأضدادها، وذلك نقصان حقيقي من عمره.
وسرُّ المسألة أن عمر الإنسان مدة حياته، ولا حياة له إلا بإقباله على ربه، والتنعم بحبه وذكره، وإيثار مرضاته.
المعاصي تولِّد أمثالها:
ومنها: أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولِّد بعضها بعضًا، حتى يعِزَّ على العبد مفارقتها والخروج منها؛ كما قال بعض السلف: “إن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها، وإن من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها”، فالعبد إذا عمِل حسنة، قالت أخرى إلى جانبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها، قالت الثانية كذلك، وهلم جرًّا، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات، وكذلك جانب السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئاتٍ راسخةً، وصفاتٍ لازمةً، ومَلَكَاتٍ ثابتةً، فلو عطَّل المحسن الطاعة، لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء، حتى يعاودها، فتسكن نفسه، وتقر عينه.
ولا يزال العبد يعاني الطاعة، ويألفها، ويحبها، ويُؤثِرها حتى يرسل الله سبحانه برحمته عليه الملائكة تؤزُّه إليها أزًّا، وتُحرِّضه عليها، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها، ولا يزال يألف المعاصي، ويحبها، ويؤثرها، حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزه إليها أزًّا.
فالأول قوَّى جند الطاعة بالمدد، فصاروا من أكبر أعوانه، وهذا قوَّى جند المعصية بالمدد، فكانوا أعوانًا عليه.
المعاصي تُضعِف القلب عن إرادته:
ومنها – وهو من أخوفها على العبد – أنها تُضعِف القلب عن إرادته، فتقوى إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئًا فشيئًا، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية، فلو مات نصفه، لما تاب إلى الله، فيأتي من الاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية، مُصِرٌّ عليها، عازم على مواقعتِها متى أمكنته، وهذا من أعظم الأمراض، وأقربها إلى الهلاك.
المعاصي تُذهِب من القلب استقباحها:
ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحُها، فتصير له عادةً، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه.
وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التَّهتُّك وتمام اللذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدِّث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان عملت كذا وكذا.
وهذا الضرب من الناس لا يُعافَون، وتُسَدُّ عليهم طريق التوبة، وتُغلَق عنهم أبوابها في الغالب[1].
كل معصية ميراث عن أُمَّة من الأمم المعذَّبة:
ومنها: أن كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل، فاللوطية: ميراث عن قوم لوط، وأخذ الحق بالزائد، ودفعه بالناقص: ميراث عن قوم شعيب، والعلو في الأرض والفساد: ميراث عن فرعون وقومه، والتكبُّر والتجبُّر: ميراث عن قوم هود، فالعاصي لابسٌ ثيابَ بعض هذه الأمم، وهم أعداء الله.
المعصية سبب لهوان العبد على ربه:
ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحدٌ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18]، وإن عظَّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم، أو خوفًا من شرِّهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.
ومنها: أن العبد لا يزال يرتكب الذنب، حتى يهون عليه، ويصغُرَ في قلبه، وذلك علامة الهلاك، فإن الذنب كلما صغُر في عين العبد، عظُم عند الله؛ وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: “إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا، فطار”.
عودة ضرر معصيته على غيره من الناس والدواب:
ومنها: أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤمُ ذنوبه، فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم، وقال مجاهد: “إن البهائم تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدت السَّنة، وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم”.
وقال عكرمة: “دواب الأرض وهوامُّها حتى الخنافس والعقارب يقولون: مُنِعْنا القَطْرُ بذنوب بني آدم”.
فلا يكفيه عقاب ذنبه، حتى يبوء بلعنة من لا ذنب له.
المعاصي تُورِث الذُّلَّ:
ومنها: أن المعصية تُورث الذل، ولا بد؛ فإن العزَّ كل العز في طاعة الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]؛ أي: فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعته.
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزَّني بطاعتك، ولا تُذِلَّني بمعصيتك.
قال الحسن البصري: “إنهم، وإن طَقْطَقَتْ بِهِمُ البِغال، وهَمْلَجَتْ بهم البَراذِينُ[2]، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذلَّ من عصاه”.
وقال عبدالله بن المبارك:
المعاصي تفسد العقل:
ومنها: أن المعاصي تفسد العقل؛ فإن للعقل نورًا، والمعصية تُطفئ نور العقل، ولا بد، وإذا طُفِئَ نوره ضعُف ونقص.
وقال بعض السلف: “ما عصى الله أحدٌ حتى يغيبَ عقله”.
وهذا ظاهر، فإنه لو حضره عقله، لَحجَزه عن المعصية، وهو في قبضة الرب تعالى وتحت قهره، وهو مُطَّلع عليه، وفي داره وعلى بساطه، وملائكته شهود عليه ناظرون إليه، وواعظ القرآن ينهاه، وواعظ الإيمان ينهاه، وواعظ الموت ينهاه، وواعظ النار ينهاه، والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها، فهل يُقدِم على الاستهانة بذلك كله والاستخفاف به ذو عقل سليم؟
كثرة الذنوب تؤدي إلى الطبع على القلب:
ومنها: أن الذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلب صاحبها، فكان من الغافلين؛ كما قال بعض السلف في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، قال: هو الذنب بعد الذنب.
وقال الحسن: “هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب”.
وقال غيره: “لما كثُرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم”.
وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية، فإن زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلًا وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغِلاف، فإن حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة، انتكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولاه عدوه، ويسوقه حيث أراد.
المعاصي التي لعن الله عليها ورسوله صلى الله عليه وسلم:
ومنها: أن الذنوب تُدخِل العبد تحت لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لعن على معاصٍ، وغيرها أكبر منها، فهي أولى بدخول فاعلها تحت اللعنة.
فلعن الواشمة والمستوشمة، والواصلة والموصولة، والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، ولعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهدَيه، ولعن المحلِّل والمحلَّل له، ولعن السارق، ولعن شارب الخمر، وساقيها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه.
ولعن من غيَّر منار الأرض، وهي أعلامها وحدودها، ولعن من لعن والديه، ولعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا يرميه بالسهام، ولعن المخنثين من الرجال، والمترجِّلات من النساء.
ولعن من ذبح لغير الله، ولعن من أحدث حدثًا، أو آوى محدِثًا، ولعن المصوِّرين، ولعن من عمِلَ عَمَلَ قوم لوط، ولعن من سبَّ أباه ومن سبَّ أمه، ولعن من كمَّه أعمى عن الطريق.
ولعن من أتى بهيمة، ولعن من وسم دابة في وجهها، ولعن من ضارَّ بمسلم أو مكر به، ولعن زوَّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج.
ولعن من أفسد امرأة على زوجها، أو مملوكًا على سيده، ولعن من أتى امرأةً في دبرها، وأخبر أن من باتت مهاجرةً لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح.
ولعن من انتسب إلى غير أبيه، وأخبر أن من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، ولعن من سب أصحابه.
وقد لعن الله من أفسد في الأرض، وقطع رحِمه، وآذاه وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعن من كتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى، ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة.
ولعن من جعل سبيل الكافر أهدى من سبيل المؤمن، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبَس لِبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل، ولعن الراشي، والمرتشي، والرائش، وهو الواسطة في الرشوة.
ولعن على أشياءَ أُخَرَ غير هذه؛ فلو لم يكن في فعل ذلك إلا رضا فاعله بأن يكون ممن يلعنه الله ورسوله وملائكته، لكان في ذلك ما يدعو إلى تركه.
حرمان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوة الملائكة:
ومنها: حرمان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوة الملائكة، فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ﴾ [غافر: 7 – 9].
فهذا دعاء الملائكة للمؤمنين التائبين، الْمُتَّبعين لكتابه وسنة رسوله، الذين لا سبيل لهم غيرهما، فلا يطمع غير هؤلاء بإجابة هذه الدعوة؛ إذ لم يتصف بصفات المدعوِّ له بها، والله المستعان.
[1] كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ أُمَّتي معافًى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يستر الله على العبد، ثم يصبح يفضح نفسه، ويقول: يا فلان عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيهتك نفسه، وقد بات يستره ربه))، ولفظه عند مسلم: ((كل أمتي معافاة، إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملًا، ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان، قد عمِلت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، فيبيت يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)).
[2] الهملجة: حسن سير الدابة في سرعة وبخترة، والبراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العرب.