لطائف من كتاب الداء والدواء (5)


لطائف من كتاب الداء والدواء (5)

(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)

المعاصي تورث نقصان العقل:

ومن عقوباتها أنها تؤثِّر بالخاصِّية في نقصان العقل، فلا تجد عاقلَين أحدهما مطيع لله، والآخر عاصٍ، إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل، وفكره أصحُّ، ورأيُه أسدُّ، والصواب قرينه؛ ولهذا تجد خطاب القرآن إنما هو مع أولي العقول والألباب؛ كقوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197]، وقوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [الطلاق: 10]، وقوله: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة: 269]، ونظائر ذلك كثيرة.

 

وكيف يكون عاقلًا وافرَ العقل مَن يعصي مَن هو في قبضته وفي داره، وهو يعلم أنَّه يراه ويشاهده، فيعصيه، وهو بعينه غير متوارٍ عنه، ويستعين بنعمه على مساخطه، ويستدعي كلَّ وقت غضبَه عليه، ولعنتَه له، وإبعادَه من قربه، وطردَه عن بابه، وإعراضَه عنه، وخِذلانَه له، والتخليةَ بينه وبين نفسه وعدوِّه، وسقوطَه من عينه، وحرمانه روحَ رضاه وحبّه، وقرةَ العين بقربه، والفوزَ بجواره، والنظرَ إلى وجهه في زمرة أوليائه، إلى أضعاف أضعاف ذلك من كرامة أهل الطاعة، وأضعاف أضعاف ذلك من عقوبة أهل المعصية؟! فأيُّ عقل لمن آثر لذةَ ساعةٍ أو يوم أو دهرٍ، ثم تنقضي كأنَّها حُلْم لم يكن، على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم؟! بل هو سعادة الدنيا والآخرة، ولولا العقل الذي تقوم به عليه الحجَّة لكان بمنزلة المجانين، بل قد يكون المجانينُ أحسنَ حالًا منه وأسلمَ عاقبةً.

 

المعاصي توجب القطيعة بين العبد وربِّه:

ومن أعظم عقوباتها أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير، واتصلت به أسباب الشرِّ، فأيُّ فلاح وأيُّ رجاء وأيُّ عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير، وقطع ما بينه وبين وليِّه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين ولا بدَّ له منه، ولا عوض له عنه، واتصلت به أسباب الشر، ووصل ما بينه وبين أعدى عدوٍّ له، فتولَّاه عدوُّه، وتخلَّى عنه وليُّه؟ فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع والاتصال من أنواع الآلام وأنواع العذاب!

 

قال بعض السلف: رأيتُ العبد مُلقًى بين الله سبحانه وبين الشيطان، فإن أعرض الله عنه تولَّاه الشيطان، وإن تولَّاه الله لم يقدر عليه الشيطان، وقد قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 50].

 

ومَن والى أعداء الملِك كان هو وأعداؤه عنده سواء؛ فإنَّ المحبة والطاعة لا تتمُّ إلا بمعاداة أعداء المطاع وموالاة أوليائه، وأمَّا أن توالي أعداءَ الملِك ثم تدَّعي أنَّك مُوالٍ له، فهذا محال.

 

ونبَّه سبحانه على قبح هذه الموالاة بقوله: ﴿ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف: 50]، كما نبَّه على قبحها بقوله: ﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50]، فتبيَّن أنَّ عداوته لربِّه وعداوته لنا، كلٌّ منهما سببٌ يدعو إلى معاداته، فما هذه الموالاة؟ وما هذا الاستبدال؟ بئس للظالمين بدلًا!

 

المعاصي تمحق بركة الدين والدنيا:

ومن عقوباتها أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقلَّ بركةً في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله، وما مُحِقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16]، وليست سعةُ الرزق والعمل بكثرته، ولا طولُ العمر بكثرة الشهور والأعوم، ولكن سعة الرزق والعمر بالبركة فيه.

 

وإنَّما كانت معصيةُ الله سببًا لمحق بركة الرزق والأجل؛ لأنَّ الشيطان موكَّل بها وبأصحابها، فسلطانُه عليهم، وحوالتُه على هذا الديوان، وأهله أصحابه؛ وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه، فبركته ممحوقة؛ ولهذا شُرع ذكرُ اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجِماع؛ لما في مقارنة اسمِ الله من البركة، وذكرُ اسمه يطرد الشيطان، فتحصل البركة، ولا معارض لها.

 

وكلُّ شيء لا يكون لله، فبركته منزوعة، فإنَّ الربَّ هو الذي تبارك وحده، والبركة كلُّها منه، وكلُّ ما نُسِب إليه مبارك.

 

المعاصي تجعل صاحبها من السفلة:

ومن عقوباتها أنها تجعل صاحبَها من السِّفْلة بعد أن كان مُهَيّأً لأن يكون من العِلْية، فإنَّ الله خلق خلقَه قسمين: عِلية وسِفلة، وجعل علِّيين مستقرَّ العلية، وأسفل سافلين مستقرَّ السفلة، وجعل أهل طاعته الأعلَين في الدنيا والآخرة، وأهل معصيته الأسفلِين في الدنيا والآخرة، كما جعل أهل طاعته أكرمَ خلقه عليه، وأهلَ معصيته أهونَ خلقه عليه، وجعل العزَّة لهؤلاء، والذلَّة والصغار لهؤلاء.

 

فإنَّ الذنب وإن صغر، فإنَّ مقابلةَ العظيم الذي لا شيء أعظم منه، الكبير الذي لا شيء أكبر منه، الكريم الذي لا أجلَّ منه ولا أجملَ، المنعِمِ بجميع أصناف النعم دقيقِها وجليلِها، من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها، فإنَّ مقابلةَ العظماء والأجلَّاء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كلُّ أحد مؤمن وكافر، وأرذلُ الناس وأسقطُهم مروءةً مَن قابلَهم بالرذائل، فكيف بعظيم السموات والأرض، وملِك السموات والأرض، وإلهِ أهل السموات والأرض؟

 

ولولا أنَّ رحمتَه غلبت غضبَه، ومغفرتَه سبقت عقوبتَه، وإلَّا لتدكدكت الأرض بمن قابَلَه بما لا تليق مقابلتُه به. ولولا حلمه ومغفرته لزالت السموات والأرض من معاصي العباد، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر: 41].

 

فتأمَّلْ ختمَ هذه الآية باسمين من أسمائه، وهما: الحليم الغفور، كيف تجد تحت ذلك أنَّه لولا حلمُه عن الجناة ومغفرته للعصاة لما استقرَّت السموات والأرض.

 

المعاصي تجرئ عليه أصناف المخلوقات:

ومن عقوباتها أنَّها تُجرِّئ على العبد من لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات، فيجترئ عليه الشياطين بالأذى، والإغواء، والوسوسة، والتخويف، والتحزين، وإنسائه ما مصلحتُه في ذكره، ومضرَّتُه في نسيانه؛ فتجترئ عليه الشياطين حتَّى تؤزَّه إلى معصية الله أزًّا.

 

ويجترئ عليه شياطين الإنس بما تقدر عليه من أذاه في غيبته وحضوره، ويجترئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه، حتَّى الحيوان البهيم! قال بعض السلف: إنِّي لأعصي الله، فأعرف ذلك في خُلُق امرأتي ودابَّتي، وكذلك يجترئ عليه أولياء الأمر بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه حدود الله، وكذلك تجترئ عليه نفسُه، فتتأسَّد عليه، وتستصعب عليه، فلو أرادها لخير لم تطاوِعْه، ولم تنقَدْ له، وتسوقه إلى ما فيه هلاكه، شاء أم أبى.

 

وذلك لأنَّ الطاعة حصنُ الربِّ تبارك وتعالى الذي من دخله كان من الآمنين، فإذا فارق الحصين اجترأ عليه قُطَّاعُ الطريق وغيرهم، وعلى حسب اجترائه على معاصي الله يكون اجتراءُ هذه الآفات والنفوس عليه.

 

المعاصي تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه:

ومن عقوباتها أنَّها تخون العبدَ أحوجَ ما يكون إلى نفسه، فإن كلَّ أحد محتاج إلى معرفة ما ينفعه وما يضرُّه في معاشه ومعاده، وأعلمُ الناس أعرفُهم بذلك على التفصيل، وأقواهم وأكْيَسُهم مَن قوي على نفسه وإرادته، فاستعملها فيما ينفعه، وكفَّها عما يضرُّه، وفي ذلك تفاوتت معارفُ الناس وهممُهم ومنازلُهم، فأعرفُهم من كان عارفًا بأسباب السعادة والشقاوة، وأرشَدُهم من آثر هذه على هذه، كما أن أسفَههم من عكسَ الأمرَ.

 

والمعاصي تخون العبد أحوجَ ما كان إلى نفسه في تحصيل هذا العلم وإيثار الحظِّ الأشرف العالي الدائم على الحظِّ الخسيس الأدنى المنقطع، فتحجبه الذنوبُ عن كمال هذا العلم، وعن الاشتغال بما هو أوْلَى به وأنفع له في الدارين، فإذا وقع في مكروه، واحتاج إلى التخلُّص منه، خانه قلبُه ونفسُه وجوارحُه، وكان بمنزلة رجل معه سيفٌ قد غشِيَه الجرَبُ[1]، ولزم قِرابَه[2] بحيث لا ينجذب مع صاحبه إذا جذبه، فعرض له عدوٌّ يريد قتلَه، فوضع يده على قائم سيفه، واجتهد ليخرجه، فلم يخرج معه، فدهمه العدوُّ، وظفر به.

 

والمقصود أنَّ العبد إذا وقع في شدَّة أو كربة أو بلية خانه قلبُه ولسانُه وجوارحُه عمَّا هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكَّل على الله، والإنابة إليه، والجمعيَّة عليه، والتضرُّع والتذلُّل والانكسار بين يديه. ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثِّر الذكر، ولا ينحبسُ القلب واللسان على المذكور؛ بل إن ذكَرَ أو دعا ذكَرَ بقلب لاهٍ ساهٍ غافلٍ.

 

المعاصي تعمي القلب:

ومن عقوباتها أنَّها تعمي القلب، فإن لم تُعْمِه أضعفَتْ بصيرتَه ولا بدَّ، وقد تقدم بيانُ أنها تضعفه ولا بدَّ، فإذا عمي القلب وضعف، فاته من معرفة الهدى، وقوته على تنفيذه في نفسه وفي غيره، بحسب ضعف بصيرته وقوته.

 

فإنَّ الكمال الإنساني مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثاره عليه، وما تفاوتت منازل الخلق عند الله في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين، وهما اللذان أثنى الله سبحانه على أنبيائه بهما في قوله: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص: 45]، فالأيدي: القوي في تنفيذ الحقِّ، والأبصار: البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه[3].

 

المعاصي مدد من الإنسان لعدوِّه على نفسه:

ومن عقوباتها أنَّها مددٌ من الإنسان يُمِدُّ به عدوَّه عليه، وجيشٌ يقوِّيه به على حربه، وذلك أن الله سبحانه ابتلى هذا الإنسانَ بعدوٍّ لا يفارقه طرفةَ عين، ينام ولا ينام عنه، ويغفل ولا يغفل عنه، يراه هو وقبيلُه من حيث لا يراه، يبذل جهده في معاداته في كل حال، ولا يدع أمرًا يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله، ويستعين عليه ببني أبيه من شياطين الجنِّ وغيرهم من شياطين الإنس.

 

ولم يسلِّط سبحانه هذا العدوَّ على عبده المؤمن الذي هو أحبُّ أنواع المخلوقات إليه إلا لأنَّ الجهاد أحبُّ شيء إليه، وأهله أرفع الخلق عنده درجاتٍ، وأقربهم إليه وسيلةً، فعقد سبحانه لواء هذه الحرب لخلاصة مخلوقاته، وهو القلب الذي هو محلُّ معرفتِه، ومحبَّتِه، وعبوديتِه، والإخلاصِ له، والتوكلِ عليه، والإنابةِ إليه.

 

وتولَّى سبحانه الدفع والدفاع عنه بنفسه، وقال: هؤلاء حزبي، وحزب الله هم المفلحون، وهؤلاء جندي ﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 173]، وعلَّم عبادَه كيفية هذا الحرب والجهاد، فجمعها لهم في أربع كلمات، فقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200].

 

ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة، فلا يتمُّ له الصبر إلا بمصابرة العدو، وهي مواقفته ومنازلته، فإذا صابر عدوَّه احتاج إلى أمر آخر وهو المرابطة، وهي لزوم ثغر القلب وحراسته؛ لئلَّا يدخل منه العدوُّ، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل، فهذه الثغور منها يدخل العدو، فيجوس خلالَ الديار، ويُفسِد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم هذه الثغور، ولا يُخْلي مكانها، فيصادفَ العدوُّ الثغرَ خاليًا، فيدخل منه، فهؤلاء أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الخلق بعد النبيِّين والمرسلين، وأعظمهم حمايةً وحراسةً من الشيطان، وقد أخلَوا المكان الذي أُمِروا بلزومه يوم أُحُد، فدخل منه العدوُّ، فكان ما كان.

 

وجماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به هو تقوى الله، فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى، ولا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر.

 

أول مداخل الشيطان على الإنسان هو النفس:

أقبل ملِكُ الكفر بجنوده وعساكره، فوجد القلبَ في حصنه جالسًا على كرسي مملكته، أمرُه نافذٌ في أعوانه، وجندُه قد حفُّوا به، يقاتلون عنه، ويدافعون عن حوزته، فلم يمكنه الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه، فسأل عن أخصِّ الجند به وأقربهم منه منزلةً، فقيل له: هي النفس، فقال لأعوانه: ادخلوا عليها من مرادها، وانظروا مواقع محبتها وما هو محبوبها، فَعِدُوها به، ومَنُّوها إيَّاه، وانقشوا صورةَ المحبوب فيها في يقظتها ومنامها، فإذا اطمأنَّتْ إليه وسكنتْ عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها، ثم جُرُّوها بها إليكم، فإذا خامرتْ على القلب، وصارت معكم عليه، ملكتم ثغرَ العين والأذن واللسان والفم واليد والرجل، فرابطوا على هذه الثغور كلَّ المرابطة.

 

إفساد ثغر العين:

فإذا استوليتم على هذه الثغور فامنعوا ثغرَ العين أن يكون نظرُه اعتبارًا، بل اجعلوا نظره تفرُّجًا واستحسانًا وتلهِّيًا، فإنْ استَرقَ نظرةَ عبرةٍ فأفسِدوها عليه بنظر الغفلة والاستحسان والشهوة، فإنَّه أقرب إليه، وأعلَق بنفسه، وأخفُّ عليه. ودونكم ثغَر العين؛ فإنَّ منه تنالون بغيَتكم، فإنِّي ما أفسدتُ بني آدم بشيء مثل النظر، فإنِّي أبذر به في القلب بَذْرَ الشهوة، ثم أسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعِدُه وأمنِّيه حتى أقوِّي عزيمته، وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة.

 

إفساد ثغر الأذن:

ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يُفسِد عليكم الأمرَ، فاجتهدوا ألَّا تُدخِلوا منه إلا الباطلَ، فإنَّه خفيف على النفس تستحليه وتستملحه، وتخيَّروا له أعذب الألفاظ وأسحرَها للألباب، وامزجوه بما تهوى النفوس مزجًا، وألقُوا الكلمة، فإنْ رأيتم منه إصغاءً إليها فزُجّوه بأخواتها، وكلَّما صادفتم منه استحسان شيء فالْهَجُوا له بذكره.

 

وإيَّاكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء، فإن غُلِبتم على ذلك، ودخل من ذلك شيء، فحُولوا بينه وبين فهمه وتدبُّره، والتفكر فيه، والعظة به، إمَّا بإدخال ضدِّه عليه، وإمَّا بتهويل ذلك وتعظيمه.

 

إفساد ثغر اللسان وهو الثغر الأعظم:

ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان؛ فإنَّه الثغر الأعظم، وهو قُبالة الملك، فأجْرُوا عليه من الكلام ما يضُرُّه ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه من ذكر الله تعالى، واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، أو التكلُّم بالعلم النافع.

 

ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان لا تبالُون بأيِّهما ظفرتم: الأول: التكلم بالباطل، فإنَّ المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر جندكم وأعوانكم.

 

والثاني: السكوت عن الحقِّ، فإنَّ الساكت عن الحقِّ أخ لكم أخرس، كما أنَّ الأولَ أخ لكم ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع إخوانكم لكم، أما سمعتم قول الناصح: المتكلِّمُ بالباطل شيطان ناطق، والساكتُ عن الحقِّ شيطان أخرس.

 

الشيطان قاعد لابن آدم في كل طريق:

ثم يقول: وكونوا أعوانًا على الإنس بكل طريق، وادخلوا عليهم من كل باب، واقعدوا لهم كلَّ مرصد، أما سمعتم قسمي الذي أقسمتُ به لربِّهم حيث قلتُ: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16، 17].

 

الشهوة والغفلة جندان من جنود الشيطان:

واستعينوا يا بنيَّ بجندين عظيمين لن تُغلَبوا معهما:

أحدهما: جند الغفلة، فأغفِلوا قلوبَ بني آدم عن اللهِ والدارِ الآخرة بكلِّ طريق، فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإنَّ القلب إذا غفل عن الله تمكَّنتم منه ومن أعوانه.

 

والثاني: جند الشهوات فزيِّنوها في قلوبهم، وحسِّنوها في أعينهم.

 

وصولوا عليهم بهذين العسكرين، فليس لكم في بني آدم أبلغُ منهما، واستعينوا على الغفلة بالشهوات، وعلى الشهوات بالغفلة، واقرنوا بين الغافلَين، ثم استعينوا بهما على الذاكر، ولا يغلب واحدٌ خمسةً، فإنَّ مع الغافلَين شيطانَين، صاروا أربعةً، وشيطان الذاكر معهم.

 

المعاصي تنسي العبد نفسه:

ومن عقوباتها أنها تنسي العبد نفسَه، فإذا نسي نفسَه أهملها وأفسدها وأهلكها.

فإن قيل: كيف ينسى العبد نفسَه؟ وإذا نسيَ نفسه، فأي شيء يذكر؟ وما معنى نسيانه نفسَه؟

قيل: نعم، ينسى نفسَه أعظمَ نسيان، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19].

فلما نسوا ربَّهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم؛ كما قال: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67]، فعاقب سبحانه من نسِيَه عقوبتين: إحداهما: أنه سبحانه نسيه، والثانية: أنَّه أنساه نفسَه، ونسيانُه سبحانه للعبد: إهمالُه، وتركُه، وتخلِّيه عنه، وإضاعتُه؛ فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم!

 

وأما إنساؤه نفسَه فهو: إنساؤه لحظوظها العالية وأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها وما تكمل به، يُنسيه ذلك جميعَه، فلا يُخطِره بباله، ولا يجعله على ذكره، ولا يصرف إليه همَّتَه فيرغب فيه، فإنه لا يمرُّ بباله حتى يقصدَه ويُؤثِره، وأيضًا فيُنسيه عيوبَ نفسه ونقصَها وآفاتِها، فلا يخطر بباله إزالتها وإصلاحها، وأيضًا يُنسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامَها، فلا يخطر بقلبه مداواتُها، ولا السعيُ في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول به إلى الفساد والهلاك.

 

المعاصي تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة:

ومن عقوباتها أنها تُزيل النِّعَمَ الحاضرةَ، وتقطع النعم الواصلة، فتُزيل الحاصلَ، وتمنع الواصلَ، فإنَّ نعم الله ما حُفِظ موجودُها بمثل طاعته، ولا استُجْلِبَ مفقودُها بمثل طاعته، فإنَّ ما عنده لا يُنال إلا بطاعته.

 

وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سببًا وآفةً: سببًا يجلبه، وآفة تبطله، فجعل أسبابَ نعمِه الجالبةَ لها طاعتَه، وآفاتِها المانعةَ منها معصيتَه، فإذا أراد حفظَ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذَلَه حتى عصاه بها.

 

ومن العجب علمُ العبدِ بذلك مشاهدةً في نفسه وغيره، وسماعًا لما غاب عنه مِن أخبار مَن أزيلت نِعمُ الله عنهم بمعاصيه، وهو مقيم على معصية الله، كأنَّه مستثنًى من هذه الجملة، أو مخصوص من هذا العموم، وكأنَّ هذا أمر جارٍ على الناس لا عليه، وواصلٌ إلى الخلق لا إليه! فأيّ جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا؟ فالحكم لله العلي الكبير.

 

المعاصي تباعد الملَك عن العبد وتدني منه الشيطان:

ومن عقوباتها أنها تباعد عن العبد وليَّه، وأنفعَ الخلقِ له، وأنصحَهم له، ومَن سعادتُه في قربه منه، وهو الملَك الموكَّلُ به، وتُدني منه عدوَّه، وأغشَّ الخلق له وأعظمَهم ضررًا له، وهو الشيطان، فإنَّ العبد إذا عصى الله تباعد منه الملَك بقدر تلك المعصية.

 

ولا يزال الملَك يقرب من العبد حتى يصير الحكم والغلبة والطاعة له، فتتولَّاه الملائكة في حياته، وعند موته، وعند بعثه؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت: 30، 31].

 

وإذا تولَّاه الملَكُ تولَّاه أنصحُ الخلق وأنفعُهم وأبرُّهم، فثبَّته، وعلَّمه، وقوَّى جَنانَه، وأيَّده، قال تعالى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12]، ويقول له الملك عند الموت: لا تخف، ولا تحزن، وأبشِر بالذي يسرُّك، ويُثبِّتهُ بالقول الثابت أحوجَ ما يكون إليه في الحياة الدنيا، وعند الموت، وفي القبر عند المساءلة.

 

المعاصي تجلب مواد هلاك العبد في دنياه وآخرته:

ومن عقوباتها أنَّها تستجلب موادَّ هلاك العبد في دنياه وآخرته، فإنَّ الذنوب هي أمراض متى استحَكمَتْ قتلَتْ ولا بدَّ، وكما أنَّ البدن لا يكون صحيحًا إلا بغذاءٍ يحفظ قوَّته، واستفرغ يستفرغ الموادَّ الفاسدة والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته، وحِميةٍ يمتنع بها من تناول ما يؤذيه ويخشى ضررَه؛ فكذلك القلبُ لا تتمُّ حياتُه إلا بغذاءٍ من الإيمان والأعمال الصالحة يحفظ قوته، واستفرغ بالتوبة النصوح يستفرغ الموادَّ الفاسدة والأخلاط الرديئة منه، وحميةٍ تُوجِب له حفظ الصحة وتجنُّب ما يضادُّها، وهي عبارة عن ترك استعمال ما يضادُّ الصحة، والتقوى اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة، فما فات منها فات من التقوى بقدره.

 

وإذا تبين هذا فالذنوب مضادَّة لهذه الأمور الثلاثة، فإنها تستجلب الموادَّ المؤذية، وتُوجب التخليطَ المضادَّ للحمية، وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح.


[1] الجرَب: الصدأ يركب السيف، عن ابن الأعرابي: سيف أجرب، إذا كثف الصدأ عليه حتى يحمرَّ، فلا ينقلع عنه إلَّا بالمسحل؛ وهو المِبرد.

[2] قِراب السيف: غمده.

[3] وانقسم الناس في هذا المقام إلى أربعة أقسام: فهؤلاء أشرف أقسام الخلق وأكرمهم على الله (المذكورون آنفًا).

القسم الثاني: عكس هؤلاء، لا بصيرة في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر هذا الخلق الذين رؤيتُهم قذى العيون، وحمَّى الأرواح، وسقم القلوب، يضيِّقون الديار، ويُغلون الأسعار، ولا يستفاد بصحبتهم إلا العار والشنار!

القسم الثالث: من له بصيرة بالحقِّ ومعرفة به، لكنَّه ضعيفٌ لا قوة له على تنفيذه ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف، والمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى الله منه.

القسم الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميِّز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ بل يحسب كلَّ سوداء تمرةً، وكلَّ بيضاء شحمةً، يحسب الورَمَ شحمًا، والدواءَ النافعَ سُمًّا.

وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضع لها سوى القسم الأول، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]، فأخبر سبحانه أنَّ بالصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Book of Meme (BOME) Eyes Further Decline as It Retests Support – BeInCrypto
بحوث في الفقه، المدخل إلى الفقه