لطائف من كتاب الداء والدواء (6)


لطائف من كتاب الداء والدواء (6)

(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)

العقوبات القدرية نوعان:

الأول: نوع على القلب، والتي على القلوب نوعان:

أحدهما: آلام وجودية يُضرَب بها القلبُ.

والثاني: قطع الموادِّ التي بها حياته وصلاحه عنه، وإذا قطعت عنه حصل له أضدادها.

 

وعقوبة القلوب أشدُّ العقوبتين، وهي أصل عقوبة الأبدان، وهذه العقوبة تقوى وتتزايد حتى تسري من القلب إلى البدن، كما يسري ألم البدن إلى القلب، فإذا فارقت النفسُ البدنَ صار الحكم متعلِّقًا بها، فظهرت عقوبة القلب حينئذٍ، وصارت عيانيّة ظاهرةً، وهي المسمَّاة بعذاب القبر، ونسبته إلى البرزخ كنسبة عذاب الأبدان إلى هذه الدار.

 

الثاني: نوع على البدن:

والتي على الأبدان أيضًا نوعان: نوعٌ في الدنيا، ونوع في الأخرى.

وشدَّتها ودوامها بحسب مفاسد ما رُتِّبت عليه في الشدة والخفَّة.

فليس في الدنيا والآخرة شرٌّ أصلًا إلا الذنوب وعقوباتها، فالشرُّ اسم لذلك كله، وأصله من شرِّ النفس وسيئات الأعمال، وهما الأصلان اللذان كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منهما في خطبته بقوله: “ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا”، وسيئات الأعمال من شرور النفس، فعاد الشرُّ كلُّه إلى شرِّ النفس، فإنَّ سيئات الأعمال من فروعه وثمراته[1].

 

ومن دعاء الملائكة للمؤمنين قولهم: ﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [غافر: 9]، فهذا يتضمَّن طلبَ وقايتهم من سيئات الأعمال وعقوباتها التي تسوء صاحبها، فإنَّه سبحانه متى وقاهم العملَ السيِّئَ وقاهم جزاءه السيِّئ، وإن كان قوله: ﴿ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أظهرَ في عقوبات الأعمال المطلوبِ وقايتُها يومئذٍ.

 

ذكر طرف من عقوبات الذنوب لاستحضارها والكف عنها:

فاستحضِرْ بعض العقوبات التي رتَّبَها الله سبحانه على الذنوب، وجوِّزْ وصول بعضها إليك، واجعل ذلك داعيًا للنفس إلى هجرانها، وأنا أسوق لك منها طرفًا يكفي العاقل مع التصديق ببعضه.

فمنها: الختم على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار، والإقفال على القلوب، وجعل الأكِنَّة عليها، والرين عليها والطبع، وتقليب الأفئدة والأبصار، والحيلولة بين المرء وقلبه، وإغفال القلب عن ذكر الربِّ، وإنساء الإنسان نفسه، وترك إرادة الله تطهير القلب، وجعل الصدر ضيِّقًا حرجًا كأنما يصَّعَّد في السماء، وصرف القلوب عن الحق، وزيادتها مرضًا على مرضها، وإركاسها ونكسها بحيث تبقى منكوسة.

ومنها: التثبيط عن الطاعة والإقعاد عنها.

ومنها: جعل القلب أصمَّ لا يسمع الحقَّ، أبكم لا ينطق به، أعمى لا يراه؛ فتصير النسبة بين القلب وبين الحقِّ الذي لا ينفعه غيره كالنسبة بين أُذُن الأصمِّ والأصوات، وعين الأعمى والألوان، ولسان الأخرس والكلام.

ومنها: الخسف بالقلب، كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل سافلين، وصاحبه لا يشعر، وعلامة الخسف به ألَّا يزال جوَّالًا حول السفليات والقاذورات والرذائل، كما أنَّ القلب الذي رفعه الله وقرَّبه إليه لا يزال جوَّالًا حول البر والخير ومعالي الأعمال والأقوال والأخلاق.

قال بعض السلف: إنَّ هذه القلوب جوَّالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحُشِّ.

ومنها: مسخ القلب، فيُمسَخ كما تمسخ الصورة، فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما يمسَخ على خُلُق خنزير؛ لشدة شبه صاحبه به، ومنها ما يمسخ على خُلُق كلب أو حمار أو حيَّة أو عقرب وغير ذلك[2].

 

فسبحان الله، كم من قلب منكوس وصاحبُه لا يشعر! وقلبٍ ممسوخ، وقلب مخسوفٍ به! وكم من مفتون بثناء الناس عليه، ومغرورٍ بستر الله عليه، ومستدرج بنعَم الله عليه! وكل هذه عقوبات وإهانة، ويظنُّ الجاهل أنها كرامة.

 

ومنها: مكر الله بالماكر، ومخادعته للمخادع، واستهزاؤه بالمستهزئ، وإزاغته لقلب الزائغ عن الحق.

ومنها: نكسُ القلبِ حتى يرى الباطل حقًّا والحق باطلًا، والمعروف منكرًا والمنكرَ معروفًا، ويُفسد ويرى أنه يُصلح، ويصدُّ عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعو إليها، ويشتري الضلالة بالهدى وهو يرى أنَّه على الهدى، ويتَّبع هواه وهو يزعم أنه مطيع لمولاه، وكلُّ هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلوب.

ومنها: حجاب القلب عن الربِّ في الدنيا، والحجاب الأكبر يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 14، 15].

ومنها: المعيشة الضَّنْك في الدنيا وفي البرزخ، والعذاب في الآخرة، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124].

 

العيش عيش القلب السليم:

والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك، والغِلِّ، والحقد، والحسد، والشحِّ، والكبر، وحبِّ الدنيا والرياسة، فسلِمَ من كلِّ آفةٍ تُبعده من الله، وسلِمَ من كلِّ شبهة تعارض خبرَه، ومن كلِّ شهوة تعارض أمرَه، وسلِمَ من كل إرادة تزاحم مراده، وسلِمَ من كلِّ قاطع يقطع عن الله، فهذا القلب السليم في جنَّة مُعجَّلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي الجنَّة يوم المعاد، ولا تتمُّ له سلامته مطلقًا حتى يسلَم من خمسة أشياء: من شركٍ يناقض التوحيد، وبدعةٍ تخالف السُّنَّة، وشهوةٍ تخالف الأمر، وغفلةٍ تناقض الذكر، وهوًى يناقض التجريد والإخلاص.

وهذه الخمسة حُجُب عن الله، وتحتَ كل واحدٍ منها أنواع كثيرة تتضمَّن أفرادًا لا تنحصر.

 

معنى كون الرب على صراط مستقيم:

قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56]، والربُّ تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره، ونهيه وأمره فيهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم بفضله ورحمته وجعله الهداية حيث تصلح، ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحلِّ، وذلك موجب صراطه المستقيم الذي هو عليه.

فهو على صراطٍ مستقيم، ونصب لعباده من أمره صراطًا مستقيمًا دعاهم جميعًا إليه حجَّةً منه وعدلًا، وهدى من شاء منهم إلى سلوكه نعمةً منه وفضلًا، ولم يخرج بهذا العدل وهذا الفضل عن صراطه المستقيم الذي هو عليه.

فمن أعظم عقوبات الذنوب: الخروج عن الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة.

 

تفاوت العقوبات بتفاوت درجات الذنوب:

ولما كانت الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها تفاوتت عقوباتها في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتها.

ونحن نذكر فيها بعون الله وتوفيقه فصلًا وجيزًا جامعًا، فنقول: أصلها نوعان: ترك مأمور وفعل محظور، وهما الذنبان اللذان ابتلى الله سبحانه بهما أبوي الجنِّ والإنس.

وكلاهما ينقسم باعتبار محلِّه إلى ظاهرٍ على الجوارح، وباطنٍ في القلب، وباعتبار متعلّقه إلى حقٍّ لله، وحقٍّ لخلقه. وإن كان كلُّ حق لخلقه فهو متضمّن لحقِّه، لكن سمِّي حقًّا للخلق؛ لأنه يجب بمطالبتهم ويسقط بإسقاطهم.

 

ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام: مَلَكيَّة، وشيطانية، وسبعية، وبهيمية، ولا تخرج عن ذلك.

 

أولًا: الذنوب الملَكية:

أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية؛ كالعظمة، والكبرياء، والجبروت، والقهر، والعلوِّ، واستعباد الخلق، ونحو ذلك.

ويدخل في هذا: الشركُ بالربِّ تعالى، وهو نوعان: شركٌ به في أسمائه وصفاته، وجعلُ آلهةٍ أخرى معه، وشركٌ به في معاملته، وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار، وإن أحبط العملَ الذي أُشرِكَ فيه مع الله غيرُه.

وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب، ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره، فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه ربوبيتَه وملكَه، وجعل له ندًّا، وهذا أعظم الذنوب عند الله، ولا ينفع معه عمل.

 

ثانيًا: الذنوب الشيطانية:

وأما الشيطانية، فالتشبُّه بالشيطان في الحسد، والبغي، والغشِّ والغلِّ، والخداع، والمكر، والأمر بمعاصي الله وتحسينها، والنهي عن طاعته، وتهجينها، والابتداع في دينه، والدعوة إلى البدع والضلال.

وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة، وإنْ كانت مفسدته دونه.

 

ثالثًا: الذنوب السبعية:

وأما السبعية، فذنوب العدوان، والغضب، وسفك الدماء، والتوثُّب على الضعفاء والعاجزين، ويتولَّد منها أنواع أذى النوع الإنساني، والجرأة على الظلم والعدوان.

 

رابعًا: الذنوب البهيمية:

وأما الذنوب البهيمية، فمثل الشَّرَه والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولَّد الزنا، والسرقة، وأكل أموال اليتامى، والبخل والشحُّ، والجبن، والهلع، والجزع، وغير ذلك.

وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق؛ لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية، ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرُّهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى منازعة الربوبية والشرك في الوحدانية.

ومن تأمَّل هذا حقَّ التأمُّل تبيَّن له أنَّ الذنوب دِهْلِيزُ الشرك، والكفر، ومنازعة الله ربوبيته.

 

الشرك في الإرادات والنيات بحر لا ساحل له وقَلَّ من ينجو منه:

وأما الشرك في الإرادات والنيَّات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غيرَ وجه الله، أو نوى شيئًا غيرَ التقرُّبِ إليه وطلبِ الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته.

 

والإخلاص أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإراداته ونيته، وهذه هي الحنيفية مِلَّة إبراهيم التي أمر الله بها عبادَه كلَّهم، ولا يقبل من أحدٍ غيرَها، وهي حقيقة الإِسلام، ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]، وهي مِلَّة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.

 

ما السرُّ في كون الشرك لا يغفر من بين جميع الذنوب؟

حقيقة الشرك هو التشبُّه بالخالق والتشبيه للمخلوق به، هذا هو “التشبيه” في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف اللهُ بها نفسَه، ووصفه بها رسولُه سبحانه، فعكَسَ من نكسَ اللهُ قلبَه، وأعمى عينَ بصيرته، وأركسه بلَبْسه الأمرَ وجعلِ التوحيد تشبيهًا، والتشبيه تعظيمًا وطاعةً، فالمشرك مشبِّه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية؛ فإن من خصائص الإلهية التفرَّدَ بملك الضرِّ والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعلُّقَ الدعاء والخوف والرجاء والتوكُّل به وحده، فمن علَّق ذلك بمخلوق فقد شبَّهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، فضلًا عن غيره، شبيهًا لمن له الأمر كلُّه، فأزِمَّةُ الأمور كلُّها بيديه، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع؛ بل إذا فتح لعبده بابَ رحمةٍ لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد، فمن أقبح التشبيه تشبيهُ هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغنيِّ بالذات.

 

أعظم الذنب عند الله إساءة الظن به:

وأعظم الذنوب عند الله إساءةُ الظنِّ به، فإنَّ المسيء به الظنَّ قد ظنَّ به خلافَ كماله المقدَّس، وظنَّ به ما يناقض أسماءه وصفاته؛ ولهذا توعَّد الله سبحانه الظانِّين به ظنَّ السوء بما لم يتوعَّد به غيرَهم، كما قال تعالى: ﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6]، وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت: 23]، وقال تعالى حاكيًا عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم إنَّه قال لقومه: ﴿ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 85 – 87]؛ أي: فما ظنُّكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيرَه؟ وماذا ظننتم به حتى عبدتم معه غيرَه؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟

 

فلو ظننتم به ما هو أهله من أنَّه بكل شيء عليم، وعلى كلِّ شيء قدير، وأنَّه غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه، وأنَّه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرِّد بتدبير خلقه، لا يشرَكه فيه غيرُه، والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه.

 

مفسدة القول على الله بلا علم:

ويلي ذلك في كبر المفسدة القولُ على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، ووصفُه بضدِّ ما وصف به نفسَه ووصَفَه به رسولُه، فهو أشدُّ شيءٍ مناقضةً ومنافاةً لكمال من له الخلق والأمر، وقدحٌ في نفس الربوبية وخصائص الربِّ.

 

فإن صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك، وأعظم إثمًا عند الله، فإنَّ المشرك المقِرَّ بصفات الربِّ خيرٌ من المعطِّل الجاحد لصفات كماله، كما أنَّ من أقرَّ لملِكٍ بالمُلْك، ولم يجحد مُلكه، ولا الصفات التي استحقَّ بها الملك، لكن جعل معه شريكًا في بعض الأمور يُقرِّبه إليه خيرٌ ممن جحد صفاتِ الملِك وما يكون به مَلِكًا.

 

البدع أحَبُّ إلى إبليس من المعصية:

ولما كانت البدع المضِلَّة جهلًا بصفات الله وتكذيبًا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله عنادًا وجهلًا كانت من أكبر الكبائر – إن قصرت عن الكفر – وكانت أحبَّ إلى إبليس من كبار الذنوب، كما قال بعض السلف: البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية؛ لأنَّ المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها.

 

ومعلوم أنَّ المذنب إنما ضرره على نفسه، وأما المبتدع فضرره على النوع، وفتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة، والمبتدع قد قعد للناس على صراط الله المستقيم يصدُّهم عنه، والمذنب ليس كذلك، والمبتدع قادح في أوصاف الربِّ وكماله، والمذنب ليس كذلك، والمبتدع مناقض لما جاء به الرسول، والعاصي ليس كذلك، والمبتدع يقطع على الناس طريقَ الآخرة، والعاصي بطيء السير بسبب ذنوبه.

 

الظلم والعدوان من أكبر الكبائر:

ثم لمَّا كان الظلم والعدوان منافيًا للعدل الذي قامت به السموات والأرض، وأرسل الله سبحانه رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس به كان من أكبر الكبائر عند الله، وكانت درجته في العظم بحسب مفسدته في نفسه.

وكان قتلُ الإنسان ولدَه الطفلَ الصغيرَ الذي لا ذنب له، وقد جبل الله سبحانه القلوبَ على رحمته، وعَطَفَها عليه، وخصَّ الوالدين من ذلك بمزية ظاهرة، فقتله خشيةَ أن يشاركه في مطعمه ومشربه وماله من أقبح الظلم وأشدِّه، وكذلك قتله أبويه الذين كانا سبب وجوده، وكذلك قتله ذا رَحِمه.

 

مفسدة الزنا تلي مفسدة القتل في الكبر:

ولما كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد، وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقِّي ما يُوقع أعظمَ العداوة والبغضاء بين الناس من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وابنته وأخته وأمَّه، وفي ذلك خراب العالم، كانت تلي مفسدة القتل في الكبر؛ ولهذا قرنها الله سبحانه بها في كتابه، ورسوله بها في سنته، كما تقدَّم.

 

قال الإِمام أحمد: ولا أعلم بعد قتل النفس شيئًا أعظم من الزنا، وقد أكَّد سبحانه حرمته بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان: 68 – 70]، فقرن الزنا بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاءَ ذلك الخلودَ في العذاب المضاعف ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح.

 

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32]، فأخبر عن فحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقرَّ فحشه في العقول حتى عند كثير من الحيوان، كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: “رأيتُ في الجاهلية قردًا زنا بقردة، فاجتمع القرود عليهما، فرجموهما حتى ماتا”، ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلًا، فإنَّه سبيل هلكةٍ وبوارٍ وافتقار في الدنيا، وسبيلُ عذابٍ وخزيٍ ونكالٍ في الآخرة.

 

وعلَّق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه منه، فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه، فقال: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون: 1 – 7].

 

وأمر تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يأمر المؤمنين بغضِّ أبصارهم وحفظ فروجهم، وأن يُعلِمَهم أنَّه مشاهد لأعمالهم، مُطَّلِع عليها، ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19]، ولمَّا كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمرَ بغضِّه مقدمًا على حفظ الفرج، فإنَّ الحوادث مبدؤها من النظر، كما أنَّ معظم النار من مستصغَر الشرر، فتكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة.


[1] وقد اختلف في معنى قوله: “ومن سيئات أعمالنا”، هل معناه: السيِّئ من أعمالنا، فيكون من باب إضافة النوع إلى جنسه ويكون بمعنى “من”؟ وقيل: معناه: من عقوباتها التي تسوء، فيكون التقدير: ومن عقوبات أعمالنا التي تسوؤنا.

ويرجِّح هذا القول أنَّ الاستعاذة تكون قد تضمَّنت جميع الشرِّ، فإنَّ شرور الأنفس تستلزم الأعمال السيئة، وهي تستلزم العقوبات السيئة فنبَّه بشرور الأنفس على ما تقتضيه من قبح الأعمال، واكتفى بذكرها منه؛ إذ هي أصله، ثم ذكر غاية الشرِّ ومنتهاه، وهو السيئات التي تسوء العبد من عمله من العقوبات والآلام، فتضمنت هذه الاستعاذة أصلَ الشرِّ، وفروعَه، وغايتَه، ومقتضاه.

[2] وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام: 38]، قال: منهم من يكون على أخلاق السباع العادية، ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنزير وأخلاق الحمار، ومنهم من يتطوَّس في ثيابه كما يتطوَّس الطاووس في ريشه، ومنهم من يكون بليدًا كالحمار، ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك، ومنهم من يألَف ويُؤلَف كالحمام، ومنهم الحقود كالجمل، ومنهم الذي هو خير كلُّه كالغنم، ومنهم أشباه الذئاب، ومنهم أشباه الثعالب التي تروغ كروغانها.

قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 175، 176]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179]، وانظر سورة الفرقان [٤٣ – ٤٤].





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
زوجته الأولى سبب رفضي له
French official disputes Kristi Noem book passage about Emmanuel Macron – NBC News