لطائف من كتاب الداء والدواء (8)


لطائف من كتاب الداء والدواء (8)

(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)

روح كلمة لا إله إلا الله:

وروحُ هذه الكلمة وسرُّها إفراد الرب – جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، وتبارك اسمه، وتعالى جَدُّه، ولا إله غيره – بالمحبة والإجلال والتعظيم، والخوف والرجاء، وتوابع ذلك من التوكل والإنابة، والرغبة والرهبة؛ فلا يُحَبُّ سواه، وكل ما يُحَبُّ غيره، إنما يُحَبُّ تبعًا لمحبته، وكونه وسيلةً إلى زيادة محبته، ولا يُخاف سواه، ولا يُرجى سواه، ولا يُتوَّكل إلا عليه، ولا يُرغَب إلا إليه، ولا يُرهَب إلا منه، ولا يُحلَف إلا باسمه، ولا يُنذَر إلا له، ولا يُتاب إلا إليه، ولا يُطاع إلا أمره، ولا يُتحسَّب إلا به، ولا يُستغاث في الشدائد إلا به، ولا يُلتجَأ إلا إليه، ولا يُسجَد إلا له، ولا يُذبَح إلا له وباسمه، ويجتمع ذلك كله في حرف واحد؛ وهو ألَّا يعبد إلا إياه بجميع أنواع العبادة، فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.

 

ولهذا حرَّم الله على النار مَن شهِد أن لا إله إلا الله حقيقةَ الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة وقام بها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [المعارج: 33]، فيكون قائمًا بشهادته في ظاهره وباطنه، في قلبه وقالبه، فإن مِنَ الناس مَن تكون شهادته ميتة، ومنهم من تكون نائمةً إذا نُبِّهت انتبهت، ومنهم من تكون مضطجعةً، ومنهم من تكون إلى القيام أقرب، وهي في القلب بمنزلة الروح في البدن؛ فروحٌ ميتة، وروح مريضة إلى الموت أقرب، وروح إلى الحياة أقرب، وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن.

 

وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم كلمةً لا يقولها عبدٌ عند الموت، إلا وجدت رُوحه لها رَوحًا…)).

 

فحياة الروح بحياة هذه الكلمة فيها، كما أن حياة البدن بوجود الروح فيه، وكما أن من مات على هذه الكلمة فهو في الجنة يتقلب فيها، فمن عاش على تحقيقها والقيام بها، فروحه تتقلب في جنة المأوى، وعيشه أطيب عيش؛ قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40، 41].

 

وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125].

 

فأي نعيم أطيب من شرح الصدر؟ وأي عذاب أمرُّ من ضيق الصدر؟ وقال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 62 – 64].

 

فالمؤمن المخلِص لله من أطيب الناس عَيشًا، وأنعمهم بالًا، وأشرحهم صدرًا، وأسرِّهم قلبًا، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة.

 

لا شيءَ أنفعُ للعبد من إقباله على الله:

وكلما كان وجود الشيء أنفع للعبد وهو إليه أحوج، كان تألمه بفقده أشدَّ، وكلما كان عدمه أنفع له، كان تألمه بوجوده أشدَّ، ولا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره، وتنعُّمه بحبه، وإيثاره لمرضاته، بل لا حياة له، ولا نعيم، ولا سرور، ولا بهجة إلا بذلك، فعدمه آلَمُ شيءٍ له، وأشده عذابًا عليه، وإنما يُغيِّب الروح عن شهود هذا الألم والعذاب اشتغالها بغيره، واستغراقها في ذلك الغير، فتغيب به عن شهود ما هي فيه من ألم الفوت بفُراق أحب شيء إليها، وأنفعه لها.

 

وهذا بمنزلة السكران، المستغرق في سُكْرِهِ، الذي احترقت داره وأمواله، وأهله وأولاده، وهو لاستغراقه في السُّكْرِ لا يشعر بألم ذلك الفوت وحسرته، حتى إذا صحا وكُشف عنه غطاء السُّكر، وانتبه من رَقْدَةِ الخمر؛ فهو أعلم بحاله حينئذٍ.

 

وهكذا الحال، سواء عند كشف الغطاء، ومعاينة طلائع الآخرة، والإشراف على مفارقة الدنيا، والانتقال منها إلى الله، بل الألم والحسرة والعذاب هناك أشدُّ بأضعاف مضاعفة؛ فإن المصاب في الدنيا يرجو جَبْرَ مصيبته بالعِوَض، ويعلم أنه قد أُصيب بشيء زائل لا بقاء له، فكيف بمن مصيبته بما لا عِوَضَ عنه، ولا بدل منه، ولا نسبة بينه وبين الدنيا جميعها؟ فلو قضى الله سبحانه بالموت من هذه الحسرة والألم، لكان العبد جديرًا به، وإن الموت لَيعودُ أعظمَ أمنيته، وأكبر حسراته، هذا لو كان الألم على مجرد الفوات، فكيف وهناك من العذاب على الروح والبدن بأمور أخرى وجودية ما لا يُقدر قَدْره؟ فتبارك مَن حمَّل هذا الخَلْقَ الضعيف هذين الأَلَمَين العظيمين اللذين لا تحملهما الجبال الرواسي! فاعرِض الآن على نفسك أعظمَ محبوب لك في الدنيا بحيث لا تطيب لك الحياة إلا معه، فأصبحت وقد أُخِذَ منك، وحِيل بينك وبينه، أحوجَ ما كنت إليه، كيف يكون حالك؟ هذا، ومنه كل عوض، فكيف بمن لا عِوَض عنه؟

 

من كل شيء إذا ضيَّعته عِوَضٌ
وما من الله إن ضيَّعته عِوَضُ

أصل السعادة ورأسها محبة الله ومحبة ما أحب:

ولما كانت المحبة جنسًا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف، كان أغلب ما يذكر فيها في حق الله تعالى ما يختص به، ويليق به من أنواعها، ولا يصلح إلا له وحده؛ مثل: العبادة، والإنابة، ونحوهما؛ فإن العبادة لا تصلح إلا له وحده، وكذلك الإنابة.

 

وقد تُذكَر المحبة باسمها المطلق؛ كقوله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54]، وقوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [الفاتحة: 165].

 

وأعظم أنواع المحبة المذمومة: المحبة مع الله، التي يسوِّي المحب فيها بين محبته لله، ومحبته للنِّدِّ الذي اتخذه من دونه.

 

وأعظم أنواعها المحمودة: محبة الله وحده، ومحبة ما أحب، وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها، التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها.

 

والمحبة المذمومة الشركية هي أصل الشقاوة ورأسها، التي لا يبقى في العذاب إلا أهلها؛ فأهل المحبة الذين أحبوا الله، وعبدوه وحده لا شريك له، لا يدخلون النار، ومن دخلها منهم بذنوبه، فإنه لا يبقى فيها منهم أحد.

 

ومحبة الرب تعالى تختص عن محبة غيره في قدرها وصفتها وإفراده سبحانه بها، فإن الواجب له من ذلك أن يكون أحبَّ إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فيكون إلهه الحق ومعبوده أحب إليه من ذلك كله.

 

والشيء قد يُحَبُّ من وجه دون وجه، وقد يُحَبُّ لغيره، وليس شيء يُحَبُّ لذاته من كل وجه إلا الله وحده، ولا تصلح الألوهية إلا له، و﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22]، والتألُّه هو المحبة، والطاعة، والخضوع.

 

مفاسد العشق العاجلة والآجلة:

والله سبحانه إنما حكى هذا المرضَ عن طائفتين من الناس؛ وهما اللوطية، والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف، وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعِفَّتِهِ وتقواه، مع أن الذي ابتُلِيَ به أمرٌ لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله عليه.

 

ودواء هذا الداء القتَّال: أن يعرف ما ابتُلِيَ به من الداء المضاد للتوحيد أولًا، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكرة فيه، ويُكثِر اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه، وأن يراجع بقلبه إليه.

 

وليس له دواءٌ أنفع من الإخلاص لله، وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه؛ حيث قال: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24]، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق، والفحشاء من الفعل بإخلاصه؛ فإن القلب إذا خَلَصَ وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشقُ الصور، فإنه إنما يتمكَّن من قلب فارغ.

 

مفاسد العشق الدنيوية والدينية:

أحدها: الاشتغال بحب المخلوق وذِكْره عن حبِّ الرب تعالى وذكره، فلا يجتمع في القلب هذا وهذا، إلا ويقهَر أحدُهما صاحبَه، ويكون السلطان والغلبة له.

 

الثاني: عذاب قلبه بمعشوقه؛ فإن من أحب شيئًا غيرَ الله عُذِّب به، ولا بد:

 

والعشق، وإن استعذبه العاشق، فهو من أعظم عذاب القلب.

 

الثالث: أن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه، يَسُومه الهوان، ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمُصابه، فقلبه:

كعصفورة في كفِّ طفل يسومها
حِياضَ الرَّدى والطفل يلهو ويلعبُ

فعَيش العاشق عيش الأسير الموثَق، وعَيش الخليِّ عيش الْمُسيَّب المطلَق؛ فالعاشق كما قيل:

 

الرابع: أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه؛ فليس شيءٌ أضيعَ لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور.

 

أما مصالح الدين، فإنها منوطة بلمِّ شعث القلب وإقباله على الله، وعشق الصور أعظم شيء تشعيثًا وتشتيتًا له.

 

وأما مصالح الدنيا، فهي متابعة في الحقيقة لمصالح الدين، فمن انفرطت عليه مصالح دينه، وضاعت عليه، فمصالح دنياه أضيعُ وأضيع.

 

الخامس: أن آفات الدنيا والآخرة أسرعُ إلى عشَّاق الصور من النار في يابس الحطب.

 

وسبب ذلك أن القلب كلما قرُب من العشق، وقوِيَ اتصاله به، بعُد من الله، فأبعد القلوب من الله قلوب عشَّاق الصور، وإذا بعُد القلب من الله، طرقته الآفات من كل ناحية، فإن الشيطان يتولاه، ومن تولاه عدوه، واستولى عليه، لم يَأْلُهُ وبالًا، ولم يَدَع أذًى يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله.

 

فما الظن بقلب تمكَّن منه عدوه، وأحرص الخلق على غيِّه وفساده، وبعُد منه وليُّه، ومَن لا سعادة له، ولا فلاح، ولا سرور، إلا بقربه وولايته؟

 

السادس: أنه إذا تمكَّن من القلب، واستحكم، وقوِيَ سلطانه، أفسد الذهن، وأحدث الوسواس، وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم، فلا ينتفعون بها، وأخبار العشَّاق في ذلك موجودة في مواضعها، بل بعضيها مشاهَد بالعيان.

 

وأشرف ما في الإنسان عقله، وبه يتميز عن سائر الحيوانات، فإذا عَدِمَ عقلَه، التحق بالحيوان البهيم، بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله، وهل أذهِبِ عقلَ مجنون ليلى وأضرابه إلا العشق؟ وربما زاد جنونه على جنون غيره؛ كما قيل:

قالوا جُننتَ بمن تهوى فقلت لهم
العشق أعظم مما بالمجانينِ
العشق لا يستفيقُ الدهرَ صاحبه
وإنما يُصرع المجنون في الحينِ

 

السابع: أنه ربما أفسد الحواس أو بعضها، إما فسادًا معنويًّا أو صوريًّا.

 

أما الفساد المعنوي، فهو تابع لفساد القلب، فإن القلب إذا فسد، فسدت العين والأذن واللسان، فيرى القبيح حُسنًا منه ومن معشوقه.

 

والرغبات تستر العيوب، فالراغب في الشيء لا يرى عيوبه، حتى إذا زالت رغبته فيه، أبصر عيوبه؛ فشدة الرغبة غشاوة على العين، تمنع من رؤية الشيء على ما هو به؛ كما قيل:

هَوِيتُك إذ عيني عليها غشاوة
فلما انجلت قطَّعت نفسي ألومها

والداخل في الشيء لا يرى عيوبه، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه، ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه؛ ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خيرًا من الذين وُلِدوا في الإسلام؛ قال عمر بن الخطاب: “إنما تُنقَض عُرى الإسلام عروةً عروةً، إذا وُلِد في الإسلام من لم يعرف الجاهلية”.

 

الثامن: أن العشق – كما تقدم – هو الإفراط في المحبة بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق، حتى لا يخلو من تخيله، وذكره، والفكر فيه، بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه، فعند ذلك تشتغل النفس عن استخدام القوى الحيوانية والنفسانية، فتتعطل تلك القوى، فيحدث بتعطلها من الآفات على البدن والروح ما يعِزُّ دواؤه أو يتعذر، فتتغير أفعاله وصفاته ومقاصده، ويختل جميع ذلك، فيعجز البشر عن صلاحه؛ كما قيل:

الحب أول ما يكون لجَاجةً
تأتي به وتسوقه الأقدارُ
حتى إذا خاض الفتى لُجَجَ الهوى
جاءت أمور لا تُطاق كبارُ

 

أنفع المحبة وأوجبها وأعلاها محبة الخالق سبحانه:

فكلُّ مَن تحبه مِنَ الخَلْقِ ويحبك، إنما يريدك لنفسه، وغرضه منك، والله سبحانه وتعالى يريدك لك، فكيف لا يستحي العبد أن يكون ربه له بهذه المنزلة، وهو مُعرِض عنه، مشغول بحب غيره، قد استغرق قلبه محبة سواه؟

 

وأيضًا فكل من تُعامِله من الخلق، إن لم يربح عليك، لم يعاملك، ولا بد له من نوع من أنواع الربح، والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه، فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة، وهي أسرع شيءٍ محوًا.

 

وأيضًا فهو سبحانه خلقك لنفسه، وخلق كل شيء لك في الدنيا والآخرة، فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته؟

 

وأيضًا فمطالبك بل مطالب الخلق كلهم جميعًا لديه، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمِّله، يشكر القليل من العمل ويُنمِّيه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه؛ ﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]، لا يشغله سمعٌ عن سَمْعٍ، ولا يغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرَّم بإلحاح الملحِّين، بل يحب الملحِّين في الدعاء، ويحب أن يُسأَل، ويغضب إذا لم يُسأَل، يستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه، ويستره حيث لا يستر نفسه، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه، دعاه بنِعَمِه وإحسانه وأياديه إلى كرامته ورضوانه، فأبى، فأرسل رسله في طلبه، وبعث إليه معهم عهده، ثم نزل سبحانه إليه بنفسه؛ وقال: ((من يسألني فأُعطِيَه؟ من يستغفرني فأغفرَ له؟)).

 

كمال اللذة ونعيم القلب تابعٌ لكمال المحبوب وكمال محبته:

وها هنا أمرٌ عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به؛ وهو أن كمال اللذة والفرح والسرور، ونعيم القلب، وابتهاج الروح تابع لأمرين:

أحدهما: كمال المحبوب في نفسه وجماله، وأنه أولى بإيثار الحب من كل ما سواه.

 

والأمر الثاني: كمال محبته، واستفراغ الوُسْعِ في حبِّه، وإيثار قربه، والوصول إليه على كل شيء.

 

وكل عاقل يعلم أن اللذة بحصول المحبوب بحسَب قوة محبته، فكلما كانت المحبة أقوى، كانت لذة المحب أكمل؛ فلذَّةُ مَن اشتدَّ ظمؤه بإدراك الماء الزُّلال، ومن اشتدَّ جوعه بأكل الطعام الشهيِّ، ونظائر ذلك، على حسَبِ شوقه وشدة إرادته ومحبته.

 

وإذا عُرِفَ هذا، فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه، بل هو مقصود كل حيٍّ، وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها، فهي تُذَمُّ إذا أعقبت ألمًا أعظمَ منها، أو منعت لذةً خيرًا وأجَلَّ منها، فكيف إذا أعقبت أعظم الحَسَرات، وفوَّتت أعظم اللذات والمسرَّات؟ وتُحمَد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة، لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما؛ وهي لذة الآخرة ونعيمها، وطِيب العَيش فيها؛ قال تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16، 17]، وقال السحرة لفرعون لما آمنوا: ﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 72، 73].

 

وأعظم نعيم الآخرة ولذاتها: النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع كلامه منه، والقرب منه؛ كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية: ((فوالله ما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه)).

 

لذات الدنيا ثلاثة أنواع:

فأعظمها وأكملها: ما أوصل إلى لذة الآخرة، ويُثاب الإنسان على هذه اللذة أتم ثواب؛ ولهذا كان المؤمن يُثاب على ما يُقصد به وجه الله من أكله وشربه، ولُبسه ونكاحه، وشفاء غيظه بقهر عدو الله وعدوه، فكيف بلذة إيمانه ومعرفته بالله، ومحبته له، وشوقه إلى لقائه، وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم؟

 

النوع الثاني: لذة تمنع لذة الآخرة، وتُعقِب آلامًا أعظم منها، كلذة الذين اتخذوا من دون الله أوثانًا مودةَ بينِهم في الحياة الدنيا، يحبونهم كحب الله، ويستمتع بعضهم ببعض؛ كما يقولون في الآخرة إذا لقُوا ربهم: ﴿ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام: 128، 129]، ولذة أصحاب الفواحش والظلم، والبغي في الأرض، والعلو بغير الحق.

 

وهذه اللذات في الحقيقة إنما هي استدراج من الله لهم؛ ليُذيقهم بها أعظم الآلام، ويحرمهم بها أكمل اللذات، بمنزلة من قدَّم لغيره طعامًا لذيذًا مسمومًا، يستدرجه به إلى هلاكه.

 

قال تعالى: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182، 183].

 

النوع الثالث: لذة لا تُعقِب لذةً في دار القرار ولا ألمًا، ولا تمنع أصل لذة دار القرار، وإن منعت كمالها، وهذه اللذة المباحة التي لا يُستعان بها على لذة الآخرة، فهذه زمانها يسير، ليس لتمتُّع النفس بها قدر، ولا بد أن تشغل عما هو خير وأنفع منها.

 

محبة كلام الله:

فإنه من علامة محبة الله، وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظر إلى محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرِب بسماعهم؛ فإنه من المعلوم أن من أحب محبوبًا، كان كلامه وحديثه أحبَّ شيء إليه.

 

وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: “لو طهُرت قلوبنا، لَما شبِعت من كلام الله”.

 

وكيف يشبع المحب من كلام محبوبه، وهو غاية مطلوبه؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومًا لعبدالله بن مسعود: ((اقرأ عليَّ، فقال: أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟ فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فاستفتح، وقرأ سورة النساء، حتى إذا بلغ قوله: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41]، قال: حسبُك، فرفع رأسه، فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرِفان من البكاء)).

 

اللهم إني عبدك، وابنُ عبدك، وابن أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيعَ قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذَهاب همي وغمي.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحريم إنكار وجود الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة
طفولة النبي صلى الله عليه وسلم