لماذا هذا التعب والكدح (خطبة)


لماذا هذا التعب والكدح؟

 

الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضلَّ الضالُّون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، أحمَده سبحانه على نعمه الغِزار، وأشكره وفضلُه على مَن شَكَرَ مِدرار، لا فوز إلا في طاعته، ولا عزَّ إلا في التذلُّل لعظمته، ولا غِنى إلا في الافتقار لرحمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المختار، الرسول المبعوث بالتبشير والإنذار، صلى الله عليه وسلم صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والإبكار؛ أما بعد عبــــاد اللـــه:

فهل سأل أحدنا نفسه: لماذا هذا التعب والكَدْحُ في هذه الحياة؟ لماذا يتعبَّد المتعبِّدون، وينفق المتصدقون؟ لماذا يأتي المسلم في ميدان المعركة يبيع نفسه، وهي أغلى ما يملك لله دون تردد أو خوف؟ وما الذي يدفع المسلم إلى قول الحق، وهو يعلم أنه ربما يخسر بسبب ذلك حياته؟ وما الذي يدفع المسلم إلى مقارعة الظلم والظالمين، والباطل وأهله، وهو يدرك أنه قد يُؤذَى في نفسه وأهله وماله؟ وما الذي يجعل المسلم وهو نائم في أحلى نومة، وربما بعد تَعَبٍ، فيسمع: حي على الصلاة، فينتفض من فراشه طاعةً لله؟ وما الذي يدعو المسلم إلى الصبر وتحمُّل المعاناة والمرض، وربما الفقر والجوع، ولا يمد يده إلى الحرام؟ ولماذا يحرص المسلم على تربية أهله وأولاده التربية الحسنة، مهما كلَّفه ذلك من مشقة وعناء؟ أليس طلبًا للفوز بمرضاة الله وجنته؟ إنه ومع انشغالنا بالدنيا وزينتها ومصائبها يجب ألَّا ننسى هذه الحقيقة، التي دعا إليها القرآن، وتمثَّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه الحياة، وبها كانت السعادة تملأ النفوس، والخير يعُمُّ الديار.

 

في صحيح مسلم عن خالد بن عمير العدوي قال: ((خَطَبَنا عتبة بن غزوان، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإن الدنيا قد آذَنَتْ بصَرْمٍ، وولَّت مسرعة، ولم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابُّها صاحبُها، وإنكم منتقلون منها إلى دارٍ لا زوالَ لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذُكِرَ لنا أن الحَجَر يُلقَى من شَفَةِ جهنمَ فيهوي فيها سبعين عامًا لا يُدرِك لها قعرًا، ووالله لتُملَأنَّ، أفعجِبْتُم؟ ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنةً، وليأتيَنَّ عليها يومٌ وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتُني سابعَ سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قَرِحَت أشداقُنا، فالتقطتُ بُردةً فشَقَقْتُها بيني وبين سعد بن مالك، فاتَّزرت بنصفها، واتَّزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحدٌ إلا أصبح أميرًا على مصر من الأمصار))؛ قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 25].

 

أيها المؤمنون عبـــــاد اللـــه: إن الله سبحانه وتعالى قد أعدَّ الجنة دارًا لأهل كرامته، وجعلها جزاءً لأهل إحسانه وطاعته، سبحانه وتعالى خلق جنة عدن بيده، وهو الذي يعطي بلا حساب، وهو الكريم المنَّان سبحانه وتعالى، ونفوسنا في هذه الدنيا الدَّنِيَّة قد اشتغلت بالمادة، ونسيت ما أعدَّ الله من الجزاء؛ ولذلك صار العمل قليلًا، والبذل ضعيفًا، ولو أن الناس تذكَّروا وتذاكروا ما أعدَّ الله لهم إذا هم أخلصوا لله النية، وعمِلوا بالطاعة، لَتضاعَفَت أعمالهم، وانصرفوا عن الدنيا إلا قليلًا، ولَأخذوا منها كَزَادِ الراكب، وصار جُلُّ عملهم للآخرة، والمسلم محتاج إلى من يذكِّره بهذا النعيم، وما جعل الله الجنةَ ولا قصَّ علينا ما فيها، إلا لتتحرك الأرواح إلى بلاد الأفراح، وإلى مستقر رحمة الله سبحانه وتعالى، هي والله نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحُلَلٌ كثيرة في مقام أبدًا، في حَبْرَةٍ ونَضْرَة، في دور عالية سليمة بهيَّة، تتراءى لأهلها كما يتراءى الكوكب الدُّرِّيُّ الغائر في الأُفُق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر))؛ [البخاري ومسلم]، واقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17].

 

وانظروا معي إلى رحمة الله بعباده، وإلى هذا النعيم؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّثنا عن آخر من يدخل الجنة: ((رجل فهو يمشي على الصراط مرة، ويكبو مرة، وتَسْفَعُه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجَّاني منكِ، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين، فترتفع له شجرة، فيقول: أي رب، أدْنِني من هذه الشجرة، أستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله تبارك وتعالى: يا بنَ آدم لعلي إن أعْطَيْتُكَها سألتَني غيرَها؟ فيقول: لا يا رب، ويعاهده ألَّا يسأله غيرها، وربُّه يعذِره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيُدنيه منها فيستظل بظلِّها، ويشرب من مائها، ثم تُرفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: يا رب، أدْنِني من هذه لأشرب من مائها، وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا بنَ آدم، ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتُك منها أن تسألني غيرها، فيعاهده ألَّا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيُدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم تُرفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأُولَيَينِ، فيقول: أي رب، أدْنِني من هذه الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا بنَ آدم، ألم تعاهدني ألَّا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب، هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذِره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيُدنيه منها، فإذا أدناه منها، سمِع أصواتَ أهل الجنة، فيقول: يا رب أدْخِلْنِيها، فيُقال له: ادخل الجنة، فيقول: رب كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخَذَاتِهم، فيقول الله: يا بنَ آدم، ما يُرضيك مني؟ أترضى أن يكون لك مثل مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيتُ ربِّ، فيقول: لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فيقول في الخامسة: رضيتُ ربِّ، فيقول الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك، ثم يقول الله تعالى له: تَمَنَّ، فيتمنى، ويُذكِّره الله: سَلْ كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأمانيُّ، ثم يدخل بيته ويدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، فيقول: ما أُعطيَ أحدٌ مثل ما أُعطيتُ، قال موسى عليه السلام: ربِّ، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتُ، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تَرَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر))؛ [صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما].

 

عبـــــاد اللـــه: الشوق إلى الجنة والتطلُّع إليها تجعل حياةَ المسلم عامرةً بالخيرات والأعمال الصالحة، فلا تغره الحياة الدنيا، ولا تشغله زينتها وأموالها وقصورها، والشوق إلى الجنة يُهذِّب النفوس، ويُربِّيها على الاستقامة على شرع الله، مهما كلَّف ذلك من ثَمَنٍ، وانظروا إلى هذه المرأة التي كانت ملكة على عرشها، على أسِرَّةٍ ممهَّدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، لكنها كانت مؤمنة تكتم إيمانها؛ إنها آسية، امرأة فرعون، كانت في نعيم مقيم، فلما رأت قوافل الشهداء، تتسابق إلى السماء، اشتاقت لمجاورة ربها، وكرهت مجاورة فرعون، فلما قتل فرعونُ الماشطةَ المؤمنةَ، دخل على زوجه آسية يستعرض أمامها قواه، فصاحت به آسية: الويل لك، ما أجرأك على الله! ثم أعلنت إيمانها بالله، فغضب فرعون، وأقسم لتذوقن الموت، أو لتكفرن بالله، ثم أمر فرعون بها فمُدَّت بين يديه على لوح، ورُبِطت يداها وقدماها في أوتاد من حديد، وأمر بضربها فضُرِبت، حتى بدأت الدماء تسيل من جسدها، واللحم ينسلخ عن عظامها، فلما اشتدَّ عليها العذاب، وعاينت الموت، رفعت بصرها إلى السماء؛ وقالت: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم: 11]، وارتفعت دعوتها إلى السماء؛ قال ابن كثير: “فكشف الله لها عن بيتها في الجنة فتبسَّمت، ثم ماتت”.

 

عبـــــاد اللـــه: إن الناس اليوم في غفلة في عصر الماديات والشهوات، يُبدُون استغرابهم من موظف يُمسك يده عن الحرام مع فقره وحاجته، ومن رجل كثير الصلاة والصيام، ماذا يريد، وهم في غفلتهم يعمهون؟ ومن رجل منَّ الله عليه بالمال الحلال ينفقه في أوجه الخير أينما كانت، لماذا يفعل ذلك؟ يندهشون ويستغربون من ذلك المسلم الآمِر بالمعروف، والناهي عن المنكر، لماذا يعرض نفسه للمخاطر؟ ويستغربون من تلك المرأة المحافظة على صلاتها وصيامها، وحجابها وحيائها، وهم يعيشون في القرن الواحد والعشرين، لماذا لا تعيش حياتها كما يقولون، فتلبَس كما تلبس النساء، وتسهر وتخالط الرجال، وتُزيِّن نفسها بالموضة وآخر الموديلات؟ أليس طلبًا لمرضاة الله، وطمعًا في جنته؟

 

قال يحيى بن معاذ: “في طلب الدنيا ذل النفوس، وفي طلب الآخرة عز النفوس، فيا عجبًا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى، ويترك العز في طلب ما يبقى”، اللهم ردَّنا إليك ردًّا جميلًا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.

 

الخطــــبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد عبـــــــاد الله:

فهل يُعقَل أن يدرك عقل المرء هذا النعيمَ ثم يزهد فيه؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ هذا داعي الخير يناديك، ويحرك فيك نشاط التنافس والمسارعة: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، فسارع إلى المغفرة والملك العظيم؛ فقد دعاك البشير:

يا طالب الدنيا الدَّنِيَّة إنها
شَرَكُ الرَّدى وقرارة الأقذارِ
دار متى ما أضحكت في يومها
أبكت غدًا تبًّا لها من دارِ

 

فاللبيب من باع الدنيا بالآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى: 4]، والكَيسُ من صنع السعادة بيده، فبحث عن طريق الجنة فسلكه، وإنما طريقها توحيد الله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأداء الفرائض والواجبات، والبعد عن الفواحش والكبائر والمحرمات، والتقرب إلى الله بالنوافل وصالح الطاعات، والإنابة والتوبة إلى الله في الظلمات والخلوات، والاستغفار من الخطايا والزَّلَّات، والتَّنَوُّر بنور العلم، وسليم الفهم والعمل بذلك، وملازمة الإخلاص والصدق مع الله، فإن السالك لهذا الطريق لا يُخيَّب ظنه، ولا يُعرقَل سيره، ولا يضيع سعيه، حتى لا يستوي الصالح بالطالح، ولا المحسن بالمسيء، ولا المؤمن بالكافر، ولا المظلوم بالظالم؛ وصدق الله العظيم: ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: 35]، وقوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20].

 

عباد الله: اصبروا وصابروا ورابطوا، واعملوا الخير، وإياكم وفتنَ الدنيا وشهواتِها وشبهاتها، وملذاتها ومغرياتها، واكدحوا في دنياكم في مرضاة ربكم؛ لترتاحوا في أخراكم، وتفوزوا برضا ربكم، هـــذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل أعداءك أعداء الدين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أحوالنا، ورُدَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألِّف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتهم.

ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وارحمهما كما ربَّونا صغارًا.

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا ووالدينا عذاب القبر والنار.

 

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحميل كتاب أعرف عن pdf
تحميل كتاب أعراس آمنة – رواية pdf