{لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم}
﴿ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ﴾
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 116، 117].
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بما يجب أن يؤمَن به ﴿ لَنْ ﴾ تفيد تأكيد النفي ﴿ تُغْنِيَ عَنْهُمْ ﴾ لن تدفَع عنهم ﴿ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ﴾؛ ذَكَرَ الأموال لأن الأموال يفتدي بها الإنسان نفسه في مواطن الحرج، والأولاد لأنهم أشد الناس حماسًا في الدفاع عن آبائهم وأمهاتهم، فالإنسان لا يمكن أن يَدَعَ عدوَّه يبطش بأبيه أو أمه أبدًا وهو على قيد الحياة.
وكرر حرف النفي مع المعطوف في قوله: ﴿ وَلا أَوْلادُهُمْ ﴾ لتأكيد عدم غَناء أولادهم عنهم؛ لدفع توهُّم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذَّبِّ عن آبائهم.
و﴿ لَا ﴾ هنا تفيد ثلاثة أمور:
أولها: مزيد تأكيد للنفي الثابت بـ«لن».
وثانيها: أن تكرار «لا» يفيد أنهم كانوا يعتزون بالأموال والأولاد مجتمعين، ويعتزون بأحدهما منفردًا، فنفَى سبحانه وتعالى الغَناء عنهما مجتمعَينِ ومنفردَينِ أيضًا.
وثالثها: أن المال يكون قوة في مواضع، والولد يكون قوة في مواضع، فتكرار النفي يستبين أنه لا قوة تدفع مَقْتَ الله وغضبه، لا من المال ولا من الولد.
﴿ مِنَ اللَّهِ ﴾ من عذابه تعالى؛ أي لا يُرَدُّ عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم.
﴿ شَيْئًا ﴾ نكرة في سياق النفي ﴿ لَنْ تُغْنِي ﴾، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي شيء كان، سواء كان هذا الشيء شديدًا أم كان ضعيفًا.
وإن كان التصدُّق بالأموال يطفئ غضب الرب في حق المؤمنين، ويُغفَر لهم بموت أولادهم، أو استغفارهم.
ولم يُبيِّن هنا في هذه الآية هل نفيه لذلك تكذيب لدَعْواهم أن أموالهم وأولادهم تنفعهم، وبيَّن في مواضع أُخَرَ أنهم ادَّعوا ذلك ظنًّا منهم أنه ما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك، وأن الآخرة كالدنيا يستحقون فيها ذلك أيضًا، فكذَّبهم في آيات كثيرة.
فمن الآيات الدالة على أنهم ادَّعوا ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [سبأ: 35]، وقوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ﴾ [مريم: 77]؛ يعني: في الآخرة كما أُوتيتُه في الدنيا، وقوله: ﴿ وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ﴾ [فصلت: 50]؛ أي: بدليل ما أعطاني في الدنيا، وقوله: ﴿ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾ [الكهف: 36]، قياسًا منه للآخرة على الدنيا.
وردَّ الله عليهم هذه الدعوى في آيات كثيرة؛ كقوله هنا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ﴾ [آل عمران: 116]، وقوله: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56]، وقوله: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ﴾ [سبأ: 37]، وقوله: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [آل عمران: 178]، وقوله: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [الأعراف: 182، 183]، إلى غير ذلك من الآيات.
والكفار ما كانوا يعتزون إلا بالمال والولد، فهذا قائلهم يقول: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]، ولقد كانوا يربِطون بين المال وكل المعاني السامية، فكانوا يظنون أن كلَّ الخير وكلَّ الفضائل للأغنياء، وكلَّ الرذائل للفقراء، فلا يُتصوَّر من الأغنياء إلا الخير، ولا يُتصوَّر من الفقراء إلا الشر، ولقد أخذ منهم العَجَبُ عندما أرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو فقير؛ فقد قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 31، 32].
وفي هذا بيان خطأ نظرهم، فالغِنى والفقر لا يتجاوز كل منهما أنه قسمة الله تعالى للمعايش في هذه الحياة، أما رفع الدرجات، فأمرٌ آخر ليس مرتبطًا بالمال قلة أو كثرة، ويشير إلى أن الرفعة تكون للفقراء ليسخَرَ الأغنياء منهم، فيزداد الأوَّلون من الله قربًا، ويزداد الآخِرون من الله بعدًا.
ولماذا اعتبر النص الكريم الكفرَ سببًا لعدم غَناء الأموال والأولاد، مع أن طبيعة هذا الوجود تجعلها غير مغنية مؤمنًا أو كافرًا؟
والجواب عن ذلك أن المؤمنين لا يعتقدون أن أموالهم وأولادهم تغني عنهم من الله شيئًا، فلم يكن ثمة حاجة للنفي بالنسبة لهم، وفوق ذلك فإن المؤمنين يتخذون من الأموال والأولاد سبيلًا لرفع منار الحق وعزته، فهي تكفيهم بعض الكَفاء، وإن كانت لا تُغنيهم عن الله تعالى، ولأن كلمة ﴿ تُغْنِيَ ﴾ في معناها دفع الأذى، والله سبحانه وتعالى مُنزِل الأذى بالكافرين عقابًا لجرائمهم ولشرورهم، وما تعرَّض المؤمن لهذا الأذى، فلا حاجة لهذا الدفع.
﴿ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ مصاحبوها على الدوام وملازموها، فمعنى المصاحبة هنا الملازمة الدائمة المستمرة.
ولعل في هذا التعبير إشارة إلى أنهم بعد أن كانوا يصطحبون في الدنيا أموالَهم مفاخرين بها، وأولادَهم مستنصرين بهم، يصاحبون بدلهم في الآخرة نار الله الموقدة، وعذابه الأليم، وبعد أن تركوا نعيمًا غيرَ مقيم استقبلهم شقاء دائم مستمرٌّ.
﴿ هُمْ ﴾ الضمير هنا لتأكيد الحكم ﴿ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 116] أبدًا.
وصرح في موضع آخر أن كونهم وقودَ النار: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 10]، والمذكور هنا على سبيل الخلود؛ وهو قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 116].
﴿ مَثَلُ ﴾ هذا تشبيه تمثيلي؛ لأن التشبيه يقولون إنه نوعان: «تشبيه إفرادي» مثل أن نقول: فلان كالبحر، وفلان كالأسد؛ و«تشبيه تمثيلي» بمعنى أن تشبَّه الهيئةُ بالهيئة يكون المشبَّه شيئًا مؤلَّفًا من عدة أمور، والمشبَّه به كذلك يكون شيئًا مؤلَّفًا من عدة أمور، فيسمَّى عند البلاغيين تشبيهًا تمثيليًّا.
﴿ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ من المكارم ويُواسَون فيه من المغارم، بيانٌ لكيفية عدمِ إغناءِ أموالِهم التي كانوا يعوِّلون عليها في جلب المنافعِ ودفعِ المضارِّ، ويعلِّقون بها أطماعَهم الفارغةَ.
﴿ كَمَثَلِ رِيحٍ ﴾ وأفرَدَ “ريحًا”؛ لأنَّها مختصة بالعذاب؛ كما أُفرِدت في قوله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 24]، ﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [الروم: 51]، ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ ﴾ [فصلت: 16]، ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ﴾ [القمر: 19]، ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴾ [الذاريات: 41].
كما أن الجمع مختص بالرحمة:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾ [الروم: 46]، ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22]، ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57].
﴿ فِيهَا صِرٌّ ﴾ واختلف في الصر؛ فقيل: البرد الشديد، وقيل: النار؛ قاله ابن عباس، وقيل: الصر الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها، والأقوال الثلاثة متلازمة؛ فهو برد شديد مُحرِق يُبْسُه للحرث كما تُحرقه النار وفيه صوت شديد.
قال ابن عاشور: والصر: البرد الشديد المميت لكل زرع أو ورق يهُبُّ عليه فيتركه كالمحترق، ولم يُعرَف في كلام العرب إطلاق الصر على الريح الشديد البرد، وإنما الصر اسم البرد، وأما الصرصر، فهو الريح الشديدة وقد تكون باردة.
وفي هذا التشبيه بيَّن سبحانه أن هذا الإنفاق ليس خالصًا من الضرر في ذاته، فهو يحمل في ذاته ما يفسده ويجعله ضارًّا لَا نفْعَ فيه، وشرًّا لَا يمازجه خير، فقد شبَّه سبحانه إنفاقهم في هذه الحياة من حيث اشتماله على الضار، وعدم إثماره وإنتاجه، بالريح التي لا ترسل لواقح، ولا تكون نسيمًا عليلًا تُلقي في النفوس البِشْرَ والحُبُور، ولا تكون ريحًا يحمل للزرع عوامل النماء إذ يكون فيها غذاء، بل يكون فيها ما يميت الزرع والضَّرع، وهي الريح التي يكون فيها صِرٌّ، والصر معناه: البرد الشديد المميت للنبات، ومعنى اشتمالها على الصر وصفها به؛ أي: إنها ريح صرٌّ فهي ريح قارَّة باردة، مُهلِكة مُفنية، وليست مُنمية مبقية.
والتعبير بقوله تعالى: ﴿ فِيهَا صِرٌّ ﴾ يشير إلى أن الرياح فيها بطبيعتها رجاء، ولكنها اشتملت على ما يذهب بخيرها، وفي ذلك وصف من أوصاف من المشبه؛ وذلك لأن الإنفاق في ذاته قد يُرجَى منه النفع، ويُظَنُّ فيه، ولكنه اشتمل في ذاته ما يذهب بخيره، ولا ينبت إلا باطلًا، وذلك أنه بمقاصده التي لا يُقصَد بها وجه الله ولا نفع الناس، ولكن يُقصَد التفاخر والتباهي والتنافر، والاستطالة على الناس بفضول القول، يذهب كل خيره، فالتعبير بقوله سبحانه: ﴿ فِيهَا صِرٌّ ﴾ فيه إيماء إلى أن الأذى والضرر الذي لابس المشبَّه؛ وهو الإنفاق لم يكن من ذاته، ولكن من قلب المنفق ونيته، وغايته من الإنفاق، وإن هذا الإنفاق – كما أشار النص القرآني الكريم – يحمل في ذاته موجِب ردِّه.
﴿ أَصَابَتْ حَرْثَ ﴾ هو الزرع، وأصل كلمة «حرث» فَلْح الأرض وإلقاء البذر فيها، ثم أُطلِقت في مجاز مشهور على ما هو نتيجة ذلك؛ وهو الزرع، وقد أُطلِق على كل موضع يكون فيه إنتاج ولو لم يكن أرضًا وزرعًا؛ كما قال تعالى: ﴿ نِسَاؤكُمْ حَرْثٌ لكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ [البقرة: 223].
﴿ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله، وإنما وُصفوا بذلك لأن الإهلاكَ عن سَخَط أشدُّ وأفظع.
﴿ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ عقوبةً لهم ولم تدَعْ منه أثرًا ولا عِثْيَرًا، فعَدِمَه صاحبُه أحوجَ ما كان إليه، فكذلك الكفار يمحق الله ثوابَ أعمالهم وثمرتها، كما أذهب ثمرةَ هذا الحرثِ بذنوب صاحبه.
﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ﴾ بما بيَّنه من ضياع ما أنفقوا من الأموال.
﴿ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 117] ﴿ أَنْفُسَهُمْ ﴾ مفعول به مقدَّم، لأن نظم الكلام المعتاد: “ولكن يظلمون أنفسهم” وفائدة التقديم الحصرُ، يعني أنهم ما ظلموا الله عزَّ وجل، والله أيضًا ما ظلمهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم.
وصيغةُ المضارعِ في ﴿ يَظْلِمُونَ ﴾ للدَّلالة على التجدد والاستمرارِ.
• فهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته، فشبَّه سبحانه ما يُنفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر، وكسب الثناء، وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله، بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدًّا يُحرِق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته.
قال ناصر الدين في (الانتصاف): “والأقرب أن يُقال: أصل الكلام والله أعلم: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صرٌّ فأهلكته، ولكن خُولِف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة؛ وهو تقديم ما هو أهمُّ، لأن الريح التي هي مَثَلُ العذاب، ذِكْرُها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقُدِّمت عنايةً بذكرها، واعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة بردِّ الكلام إلى أصله على أيسر وجهٍ، ومثل هذا – في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة – قوله تعالى: ﴿ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ﴾ [ البقرة: 282] الآية، ومثله أيضًا: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، والأصل: أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة، والله الموفق”.
في النص القرآني إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يعاقب بالريح من يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي؛ فقال سبحانه: ﴿ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ [آل عمران: 117]، فإن هذا النصَّ الساميَ يومئ إلى أن الله تعالى يرسل في الدنيا عقابًا على أموال الظالمين فيهلكها، ولو اتخذوا الأسباب وما يجب اتخاذه من احتياط لحفظ الأموال، وإن ذلك التخريج لا يوجد ما يمنع من قبوله، بل الإذعان له لأن تدبير العبد واحتياطه، لا يمنع تقدير الرب وقضاءه، وإنَّ الريح كانت سببًا في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، فإن الله تعالى أرسل على المشركين ريحًا ألقت الرعب في قلوبهم مع كمال العُدَّة والعدد؛ وقال تعالى في ذلك: ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25]، ولقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأُهْلكَتْ عَاد بِالدَّبور))؛ [البخاري].
وإذا كان ذلك ثابتًا، فلماذا نستبعد أن يعاقب بعض الظالمين في الدنيا بإصابة حرثهم بريح؛ لفساد نياتهم، ولاستخدامهم المال في غير مواضعه؟ وإن الذين يستبعدون ذلك هم الذين يُفْرِطُون في الإيمان بالأسباب العملية، ولا يُذعنون للأحكام القدرية، وإن الزرع بالذات ليس لأحد أن يدَّعِي أنه يستطيع حمايته من الرياح والآفات، مهما يتخذ من الاحتياط، فإن للأجواء أثرَها، وللآفات الوبائية حكمَها، ولا سبيل إلى التوقِّي الكامل منها.
إذًا فالأمر في الريح يصيب الله بها بعض الظالمين لظلمهم حقٌّ لا ريب فيه.