{لن يضروكم إلا أذى}


﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى

 

قال تعالى: ﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [آل عمران: 111].

 

﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ ﴾ أهل الكتاب ﴿ إِلَّا أَذًى ﴾، والأذى هو الألم الخفيف لا يبلغ حد الضر الذي هو الألم الشديد، وقد قيل: هو الضر بالقول فقط.

 

أي: لن يضروا المؤمنين ضررًا يبقى أثرًا في جماعتهم، ويؤثر في قوتهم، بالغلبة أو الاستئصال، أو ضررًا لا نكاية فيه، ولا إجحاف لكم، وإن وقع منهم أذى؛ وذلك لأن الضرر قسمان: ضرر يترك أثرًا في الأمة، فيضعف قوتها، ويوهن أمرها، وضرر لَا أثر له: كالأذى بالقول أو الفتنة في الدين تتناول الآحاد، أو محاولة التأثير في ضعاف الإيمان، أو محاولة بثِّ روح النفاق بين الجماعة من غير أن يعم ويشيع.

 

وقد نفى الله سبحانه وتعالى النوع الأول من الضرر نفيًا مؤكدًا بلفظ (لَنْ) فإنها تدل على تأكيد النفي باتفاق علماء اللغة، وقال الزمخشري وطائفة كبيرة من اللُّغويين: إنها تدل على تأبيد النفي. وعلى ذلك يكون «الاستثناء متصلًا»، ولا يكون منقطعًا؛ لأن الأذى مهما ضؤل نوع من الضرر، وإن لم يبق أثرًا.

 

والقول الثاني: أن الاستثناء هنا منقطع، وعلى هذا القول يكون المعنى: لن يضرُّوكم ولكن يؤذونكم، والأذية لا يلزم منها الضرر؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب:٥٧] فأثبت أنهم يؤذون الله ورسوله. وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:١٧٦]. وفي الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي))؛ [مسلم]، فالضرر منتفٍ عن الله، والأذية حاصلة، ومن أمثلتها قوله تعالى في الحديث القدسي: ((يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ))؛ [البخاري]، ويوضح هذا أنه لو صلَّى إلى جانبك رجل قد أكل بَصَلًا أو ثومًا فإنك تتأذَّى برائحته ولكن هل يضرُّك؟ لا يضرك، وهذا القول أصح وهو أن «الاستثناء منقطع»، وهو وإن كان خلاف الأصل لكنه أعلى في البلاغة.. لن يضروكم ولكن الأذى ستصبرون عليه والأذى ليس بضرر.


والآية وعد من الله لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وللمؤمنين، أن أهل الكتاب لا يغلبونهم، وأنهم منصورون عليهم، لا ينالهم منهم اصطلام إلا إيذاء بالبهت والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين.

 

والشرط في نفي الضرر الذي يؤثر في الجماعة الإسلامية أن تكون مؤمنةً بالله حق الإيمان، آخذةً بتعاليمه مهتديةً بهديه، وأن يسودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو خاصتها، ورباط وحدتها، وإلا فإن الضرر البالغ يصيبها؛ لأنها فقدت مشخصاتها ومكوناتها.

 

في تفسير العثيمين: “فإن قال قائل: يرد على دعواكم أن اليهود يعملون بنا اليوم ما هو من أشد الأضرار، ومعلوم أن خبر الله تعالى لا يخلف؟


فالجواب أن نقول: الخطاب للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، ومن كان على مثل ما كان عليه نبي الله وأصحابه فلن يضره اليهود ولا النصارى، أما من يعتقد أن الدين الإسلامي دين رجعية وتخلُّف، ويبدله بغيره من القوانين الرجعية الوضعية، فهؤلاء لا يكتب لهم النصر، ويضرونهم بالأذى القولي والفعلي والاقتصادي وفي كل شيء، وإلا فإن كلام الله تعالى لا يخلف أبدًا.


فقوم يقاتلون قتالًا جاهليًّا مبنيًّا على القومية المتمزقة وعلى أسس باطلة مضادة لدين الله فهؤلاء لا يستحقون النصر؛ ولذلك فإن اليهود الآن يفعلون الأفاعيل بنا، من يقدرون على الفعل ببدنه فعلوا، ومن لا يقدرون فإنهم يفعلون به ما يفعلون من المضار الاقتصادية العالمية.


وحينئذٍ تبقى الآية محكمة غير منسوخة، باقية إلى يوم القيامة، لكن المشروط يتوقف على الشرط، فانتفاء الضرر موقوف على وجود شرطه وهو أن نطبق سيرة من وعدوا بهذا الوعد وهم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه”.


وفيه ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه، وعلى تحقير شأن الكفار، إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلَّا ما يصلون إليه من إسماع كلمة بسوء.


﴿ وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ﴾ يفِرُّون منهزمين، فيجعلون الأدبار تليكم، وهو كناية عن الانهزام؛ لأن المنهزم يولي ظهره للمنهزم منه، ولسان حاله يقول: “النجاء النجاء”.

 

وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور؛ لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب، وفيه إشارة إلى جبنهم، وأنهم يفرون فرارًا أمام خصومهم، وكذلك كان الشأن في قتال المسلمين الأوَّلين للكُفَّار اليهود والنصارى، فقد قاتل المؤمنون بني النضير وبني قريظة ويهود خيبر وغيرهم، وكانوا يفرون فرارًا، وقد كتب الله على بعضهم الجلاء، وعلى بعضهم الفناء، وعلى بعضهم البقاء في ذلة، وكذلك كان الشأن مع النصارى بالشام ومصر.

 

وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها؛ إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين؛ لأنَّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه، أو النصر المستمد من الله، وكلاهما ليس لهم.

 

﴿ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ«ثم» هنا ليست للمهلة في الزمان، وإنما هي للتراخي في الإخبار، ويسمى «التراخي الرتبي» وهو كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام.. فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسرُّ للنفس.. قال الزمخشري: التراخي في المرتبة؛ لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار.

 

و﴿ لَا يُنْصَرُونَ فيها النون وهو محل إشكال؛ لأن «ثم» حرف عطف و﴿ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ معطوف عليه، والمعطوف على المجزوم يكون مجزومًا.


ولكن (ثم) هنا ليست للعطف ولكنها للاستئناف والتقرير، ولا بد من هذا التقدير؛ لأنها لو كانت عطفًا على قوله: ﴿ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ لجزمت، ولقيل: “ثم لا ينصروا” وحينئذٍ يفسد المعنى؛ لأنه لو كان انتفاء النصر عنهم حين يقاتلوننا لأمكن لقائل أن يقول: إنهم ينتصرون بعد ذلك، ولصار انتفاء النصر مقيدًا بما إذا قاتلونا، ولكن الأمر ليس كذلك، فالنصر منفي عنهم أبدًا سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا؛ إذ منع النصر سببه الكفر؛ ولهذا قال: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فتبين الآن أن «ثم» هنا ليست عاطفة ولكنها استئنافية، والفعل بعدها مرفوع لأنها جملة مبتدأ بها لم تعطف على منصوب ولا مجزوم.


فهذه الجملة ﴿ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ خبرية ليس لها صلة لفظية بالجملة الشرطية، فليست معطوفة على جواب الشرط، فهي إخبار عن نفي الانتصار غير مرتبط بكونه في قتال أو غير قتال.

 

وكان العطف الخبري بـ «ثم» على مضمون الجملة الشرطية كلها، وكان التراخي لتقرير عدم النصر؛ إذ إنَّ عدم النصر المطلق الذي يكون بالقتال وغيره ينشأ من توالي الانهزام؛ إذ إن توالي الانهزام يلقى في قلوبهم بروح اليأس، فلا تكون لهم من بعد ذلك نصرة في أية ناحية من النواحي.

 

قال أبو السعود: “وإنما لم يُعطَفْ نفيُ منْصوريّتِهم على الجزاء؛ لأن المقصودَ هو الوعدُ بنفي النصرِ مطلقًا، ولو عطف عليه لكان مقيدًا بمقاتلتهم كتولية الأدبارِ، وكم بين الوعدين، كأنه قيل: ثم شأنُهم الذي أخبركم عنه وأبشرَكم به أنهم مخذولون مُنتفٍ عنهم النصرُ والقوةُ، لا ينهضون بعد ذلك بجَناحٍ، ولا يقومون على ساق، ولا يستقيم لهم أمرٌ، وكان كذلك حيث لقيَ بنو قريظةَ والنضيرِ وبنو قينُقاع ويهودُ خيبرَ ما لقُوا”.

 

فهذه الحال التي ذكرها الله سبحانه تفصيل لبيان ما تضمنته الجملة السامية ﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ﴾ من قبل، فإنها تضمنت أن هؤلاء لا يمكن أن يصيبوا المسلمين بضرر بليغ يبقى له أثر، وإنه من تفصيل بعض ذلك أنهم ينهزمون في قتال المسلمين.

 

والخطاب للمسلمين حين كانوا يمثلون الإسلام بالعقيدة والقول والفعل، وهم في هذه الحال سينتصرون على اليهود والنصارى والمجوس وسائر الكفار، وحينئذٍ لا يشكل علينا تغلب النصارى الصليبيين على المسلمين، ولا يشكل علينا تسلُّط اليهود على العرب؛ لأن القتال مع اليهود في راية العروبة قتال جاهلية وقتال طائفة لطائفة، لا لدين، بل ربما اعتقد اليهود أنهم يقاتلون للدين، وهم على باطل وأن الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم مكتوبة لهم إلى يوم القيامة: ﴿ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 21]، ويذكر أنه لما كانت هزيمة عام ١٣٨٧ هـ (1967م) لما دخلوا سيناء وما استولوا عليه من بلاد العرب صار الواحد من الجنود يأخذ التراب ويُقبِّله ثم يسجد عليه.


** وفيه تثبيتٌ لمن آمن منهم فإنهم كانوا يؤذونهم بالتلهي بهم وتوبيخِهم وتضليلِهم وتهديدِهم، وبشارةٌ لهم بأنهم لا يقدِرون على أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يُعبأ به مع أنه وعدهم الغلَبةَ عليهم والانتقامَ منهم، وأن عاقبةَ أمرِهم الخِذلانُ والذلُّ.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الإسلام دين الكمال والشمول
فضائل وكنوز التسبيح (خطبة)