لولا الصلاة لكنا مثلهم
لولا الصلاة لكنا مثلهم
مع اليوم المزدحم بالمسؤوليات، ومع الخطط والأفكار التي تجد نفسك غارقًا فيها خلال اليوم، لن تجد لنفسك وقتًا بعيدًا عن ذلك التيار الهادر من القضايا والإشكاليات والأعمال المطلوبة والمواقف التي تمر بها، والحالات النفسية التي تتنقل فيها خلال هذه الدورة اليومية المتكررة، إلا أن تكون من الأقوياء الذين يستطيعون نزع أنفسهم لإعطائها حقَّها.
ولأن القوة لا تستمد إلا من القوي ولا تملأ نفسك وقلبك إلا إذا جعلت فيها مادة تشغيل خاصة، فقد شعرتُ يومًا أثناء الصلاة أنني دخلت وقت الراحة التي كنتُ أفتقدها خلال يومي، وأن هذا الوقت المستقطع لمُناجاة الخالق وسؤاله المتكرر للهداية وطلب اللحاق بالمهتدين هو ما يحتاج إليه يومي بحق كي أخرج من حالة التشتُّت التي يعانيها عقلي، وشعرت حينها أيضًا كم هو محروم مَن فقد تلك النعمة؛ نعمة أن تترك كل شيء في لحظة وتشرع بقلبك وعقلك في الاستجابة لداعي الفلاح، داعي القرب من صاحب القوة ومصدر الإمداد.
بعد أن تبينت لي حقيقة ما تمنحه الصلاة، فهمت أحد معاني هذا الحديث «العَهدُ الَّذي بيْنَنا وبيْنَهمُ الصَّلاةُ؛ فمَن ترَكَها فقدْ كَفَرَ»؛ (أخرجه الحاكم)، فهمت لِمَ كانت الصلاة حدًّا فاصلًا بيننا وبينهم، فبالإضافة إلى أنها تصديق الإيمان وبرهان التوحيد؛ لكونها أولى الأركان وأصل العبادة وعنوان الطاعة لمن أنت عبد له طوعًا وكرهًا، فهي ذلك الحَدُّ الفاصل بين حياة فيها نداء رجوع، فيها وقفة للقلب، فيها الله أكبر، وبين حياة لا تجد فيها إلا نفسك والآخرين والعالم المصنوع مِن حولك.
قد تقول إننا قد صرنا مثلهم رغم صلاتنا، بل إن منهم مَن تفوَّق علينا ووجد طريقًا لراحته النفسية عبر التأمل والترفيه والسفر وغيرها من وسائل إفراغ النفس من شوائبها، وربما يبدو أن هذا صحيح ظاهريًّا، لكننا حين نفهم ما تمنحنا إيَّاه الصلاة، يتضح لنا البون الشاسع كبُعْد ما بين المشرقين.
فلأن ربنا رحيم ويعلم ما بنا من ضعف وفقر إليه، كان فرض الصلاة يقوم بتلك المهمة الهامة؛ مهمة الرجوع والتوقف وتذكُّر مَن أنت وفيمَ سعيك، فالوقت الذي تستقطعه للصلاة ليس فقط هو الوقت الذي تتحرَّر فيه من ضغط الواجبات وتلاحق المهمات، إنه وقت الاتصال والزاد الذي تمنحه لروحك كي تبقى متماسكةً لا تتهاوى تحت مطارق عالمك الأرضي، ولكنه ليس اتصالًا بنفسك، يقظة روحية أو ذهنية كما يتحدث أهل الاختصاص النفسي، بل هو اتصال بمن خلقك.. بصاحب هذا الكون، الإله الواحد الذي ضرب لك هذا الموعد لتكون عنده، وبه وله، فأي أثر يمكن أن نتخيل لمن صلَّى حقًّا؟
إنك تملأ خزَّان وقودك الذي ينفد سريعًا خلال سعيك على الأرض، وتفرغ كأسك المترعة بأخلاطوأدواء وأغبرة وتُقبِل على رب الكون والسماء، تناجيه بما علَّمك، تذكره وتسبحه وتثني عليه وتحمده، ثم تطلب ما به تقوم حياتك وتستقيم به، الهداية بكل أنواعها، الهداية لطريقه؛ لأنك تضعف ولأنك تنسى ولأنك تنشغل، وتجهل كذلك وتتراخى وتمل، ولولا هدايته التي تحتاج إليها في كل لحظة لانحرفت كثيرًا، وربما سلكت وديان الضلال، أو خضت مع من استحقوا الغضب والإبعاد.
الصلاة المطلوبة هي إقامةللقلب أمام مولاه، عزل له عن مشاغبات النفس وتطلُّعات الجوارح، تلك المنطقة الفاصلة بين الدنيا التي كل شغلك فيها، همك، خططك وأفكارك وبين الآخرة التي تقترب كل يوم منها لكنها غائبة عن وعيك وعن أحلامك وهم قلبك، تأخذك الصلاة إذن من عالم إلى عالم، من همٍّ إلى همٍّ، من دنيا إلى علو.. هذه اللحظات هي ما تصنع تلك المسافة الممتدة بينك وبين الذي لا يقوم لربه، إمَّا جهلًا وإعراضًا وإما كسلًا أو كِبْرًا، وإنها لتجعل من وقفاتك المتكررة تلك بين يدي خالقك نهرًا جاريًا يغسل عنك الأدران والأوجاع، ويسقيك ألوانًا من القوة تُعينك على كل ما تلقى، كل ما يسوؤك، وكل ما تخشى، وكل ما لا تقدر عليه؛ ولذلك جاء الأمر بالاستعانة بالصلاة إلى جانب الصبر؛ لأنك تتصل خلالها بمصدر القوة وصاحب المُلْك كله.
في الصلاة يتذكَّر العبد أنه عبد يرجع إلى مولاه، يرجع إليه الآن، وسيرجع إليه غدًا، وإن غفل وسها ونسي في الركعات والأوراد، فما زال متصلًا، وما زال يعرف أنه محتاج فقير غير أنه سيظل محتاجًا إلى إقامة القلب وتوجيه بصره إلى من يلقى ويخاطب، أن يذكر أنه مقبل على ربِّه الكبير الجليل وقد دعاه وجعله مكرمًا مأذونًا له بالدخول والتقرُّب والنداء، سيظل محتاجًا إلى أن يجاهد التفاتاته إلى الدنيا التي دخلت من جوانب المساحة الصغيرة التي يقيم بها صلاته ولم تغادر بعد، أن يتعرف على معاني الصلاة وكيف يقيمها خاشعًا مخلصًا كأنها آخر اللحظات، فينال من إشراقاتها وأنوارها ما يجعلها محل الراحة ومنبع القوة ومركز البناء للنفس والقلب، موقنًا أنه لا غِنى له عنها ولا ينصلح حاله بدونها.