ليسوا سواء


لَيْسُوا سَوَاءً

 

قال تعالى: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 113 – 115].

 

﴿ لَيْسُوا ﴾ الواو في ليسوا هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله: ﴿ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].

 

﴿ سَوَاءً ﴾ غير متساوين، فليسوا جميعًا أشرارًا، وأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق طائفة كبيرة من الناس اجتمعت على الشر اجتماعًا مطلقًا، بحيث يرتضيه الجميع ويقصدونه، ويريدونه ويبتغونه عامدين مريدين معتدين، بل إن منهم الضالَّ، ومنهم الْمُضِلَّ، ومنهم الناطقَ بالحق الذي لا يجد داعيًا، أو يُحمَل على السكوت في وسط نكران الضالين.

 

ففي وسط طغيان فرعون، وانقماع قومه في إرادته، وُجد مؤمن آل فرعون، ينطق فيهم قائلًا كما حكى الله تعالى عنه: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 28، 29].

 

وبعد أن ذَكَرَ سبحانه أنهم ليسوا سواءً، وقد ذكر أحوال أشرارهم، أخذ يُبيِّن أحوال أخيارهم:

﴿ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ ﴾ طائفة تُؤَمُّ وتُقصد ﴿ قَائِمَةٌ ﴾ موجودة حاضرة ليست ماضية خالية، فمعنى قائمة على هذا: موجودة.

 

وفسر الزمخشري كلمة قائمة بمعنى: مستقيمة على العدل والحق، مأخوذة من قولهم: أقمت العود فقام واستقام، أي: ثابتة على الإيمان والعمل الصالح، فهي قائمة يعني مستقيمة، قال ابن عباس: أي: مهتدية قائمة على أمر الله لم يُضيِّعُوه ولم يتركوه.

 

﴿ يَتْلُونَ ﴾ التلاوة تارة يُراد بها القراءة، وتارة يُراد بها الاتباع، فإن صلح المقام للمعنيين جميعًا حُمِلَ عليهما، وإن اختص بأحدهما اختص به، فإذا قلت: تلا عليَّ آية من القرآن، فالمراد القراءة، وإذا قلت: هذا الرجل يتلو آيات الله إخلاصًا وتعبدًا، فهذا يحتمل القراءة، ويحتمل الاتباع، وإذا كان يحتمل المعنيين وهما لا يتنافيان حُمِلَ عليهما؛ إذًا قوله: ﴿ يَتْلُونَ ﴾ يشمل تلاوة اللفظ وتلاوة العمل بآيات الله.

 

﴿ آيَاتِ اللَّهِ ﴾، وما هو الكتاب الذي يتلونه كما أشار الوصف الأول؟

 

الجواب عن هذا السؤال يستدعي بيان مَنْ هذه الطائفة التي استحقت تلك الأوصاف الجليلة التي وصفها الله تعالى بها، ونقول في ذلك: إن العلماء قد اختلفوا في ذلك على رأيين:

أحدهما: أنها طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأذعنوا للحق الذي جاء به ودعا إليه، ومن هؤلاء: عبدالله بن سلام، وطائفة من اليهود الذين كانوا يقيمون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ينطبق على النصارى أيضًا وغيرهم الذين يهتدون بهَدْيِ الإسلام، ويرتضونه عن بيِّنة دينًا لهم؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وفي أمثالهم ممن يكونون في قابل الأيام ما رواه البخاري: قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ)) ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ: أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ.

 

وعلى هذا الرأي يكون تفسير ﴿ قَائِمَةٌ ﴾ بمعنى موجودة؛ لأنها قد وُجِدت حقيقة، وارتضت الإسلام دينًا، تاليةً آياتِ القرآن آناءَ الليل.

 

الرأي الثاني: أن هذه الطائفة من أهل الكتاب ولم تعتنق الإسلام، وكانت قبله أو بعده ولم تبلغها الدعوة على وجهها، ولم تحرِّف التوراة أو الإنجيل، أو لم تأخذ بالمحرَّف منهما، وقد أُثِرَ ذلك الرأي عن بعض السلف؛ فقد رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال في معنى: ﴿ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ﴾: “أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزِع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيَّعوه”، ورُوِيَ عن قتادة أنه كان يقول في الآية: “ليس كل القوم هلك، لقد كان فيهم بقية”.

 

ويكون معنى ﴿ قَائِمَةٌ ﴾ على هذا التفسير بمعنى: مستقيمة مهتدية مؤمنة بالحق، مُذعِنة له.

 

وآيات الكتاب التي يتلونها على ذلك هي البقية الصحيحة من كتبهم التي تشتمل على أدعية كلها توحيد وضراعة، ونحو ذلك من أمثال بعض مزامير داود؛ مثل ما جاء في المزمور الخامس والعشرين: “إليك يا رب أرفع نفسي، عليك توكلت، فلا تدعني أَخْزَى، لَا تُشمت بي أعدائي، كلُّ منتظريك لَا يُخزَون، ليُخْزَ الغادرون بلا سبب، طُرقَك يا رب عرفني، سُبُلَك علمني، وربِّني في حقك وعلمني”، وأمثال هذه الأدعية والمناجاة لعلها البقية الباقية من تلك الكتب التي حُرِّف فيها الكلم عن مواضعه.

 

﴿ آنَاءَ اللَّيْلِ ﴾ أوقاته وساعاته، واحدها: إنًى، وإنًى وآناء مثل: مِعًى وأمعاء.

 

﴿ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آل عمران: 113] يُصلُّون؛ لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود، وَصَفَهم بتلاوة آيات الله وهي أفضل الذكر وأعلى «أوصاف القول»، وبالسجود وهو أفضل «أوصاف الفعل»؛ لأن السجود أفضل من القيام، وأفضل من الركوع؛ حيث إن الساجد أقرب ما يكون من ربِّه.

 

والثناء عليهم بالسجود لأنه أعظم مظاهر الخضوع لله، واختلفوا في توقيته؛ فقال بعضهم: هو في قيام الليل، وقال ابن مسعود: هي صلاة العَتَمَة يُصلُّونها ولا يُصليها من سواهم من أهل الكتاب.

 

فعَنْ عَبْدِالله بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: ((أَخَّرَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الصَّلاَةَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الأَدْيَانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ الله فِي هَذِهِ السَّاعَةِ غَيْرَكُمْ قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ ﴾ [آل عمران: 113] إِلَى ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 115]))؛ [إسناده حسن].

 

وقيل: ومعنى يسجدون؛ أي يخضعون ويتطامنون للحق ولا يجحدون، ويتجهون إلى ربهم، يَرجُون رضاه، ولا يستكبرون عن نداء الحق إذا دُعُوا، فكنَّى بالسجود عن الخضوع المطلق الذي يُعَدُّ السجود مظهره.

 

وقد ذكر ذلك الوصف مصدَّرًا بـ”هُم”، إذ يقول: ﴿ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾، فلم يقل: ويسجدون؛ للإشارة إلى أن الخضوع والإذعان للحق شأن من شؤونهم، وليس حالًا تعرِض لهم؛ إذ إن ذِكْرَ الضمير فيه تقوية الإسناد وتوثيق لدوامه واستمراره.

 

﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ بيان حال من أحوالهم، وهي الحال الدائمة المستمرة التي جعلتهم مستقيمين على الحق مهتدين بهَدْيِهِ، فإن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يجعل المؤمن يُذعن للحق، ويخلص في كل ما يطلب، ولا يُحِبُّ الشيء إلا لله، ويكون الله تعالى سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، فلا يكون منه إلا ما يكون للحق جل جلاله، وتكون كل مشاعره وأهوائه تبعًا لأوامر الله تعالى ونواهيه؛ هذا هو الإيمان بالله.

 

أما الإيمان باليوم الآخر، فإنه يعرف به حقيقة هذه الدنيا، وأنها لعب ولهو، وزينة وتفاخر، وأنه في هذه الحياة الآخرة يلقى الله سبحانه وتعالى، وأنه إذ يلقاه يجد كلَّ ما عمِل من خير محضرًا، وما عمِلَ من سوءٍ يَوَدُّ لو أن بينه وبينه أمدًا بعيدًا، وإذا عمل حساب ذلك اللقاء، ما أقدم على شرٍّ إلا مُضطرًّا أو لِمامًا.

 

وفي الآية تعريض بأن إيمانَ اليهودِ والنصارى بهما مع قولهم: عزيرٌ والمسيح ابنا الله، وكفرِهم ببعض الكتب والرسل، ووصفِهم اليومَ الآخِرَ بخلاف صفته ليس من الإيمان بهما في شيء أصلًا، ولو قُيِّد بوصف الإيمان فقط، فربما تُوُهِّم أن المنتفيَ عنهم هو القيدُ المذكورُ مع جواز إطلاقِ الإيمانِ على إيمانهم بالأصل، وهيهات.

 

﴿ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ هذا هو العمل الذي يُفيضون به على غيرهم، ويشعرون بأن عليهم حقًّا بالنسبة للحق الذي أدركوه؛ وهو أن يتواصَوا بالحق، ويتناهَوا عن الباطل، ويأمروا بالمعروف الذي تُقِرُّه العقول، ولا تُنكره الفطرة المستقيمة، فإن المؤمن الْمُذْعِنَ للحق يدعو إليه، ولا يسكت على باطل ولا يرتضيه، وتلك صفة أهل الخير من أهل الكتاب، وعلى عكس ذلك أهل الشر، فإنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه؛ ولذا قال تعالى في أهل الشر منهم: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].

 

فهما صفتان أُخْرَيان لأُمةٍ أُجرِيتا عليهم تحقيقًا لمخالفتهم اليهودَ في الفضائل المتعلقةِ بتكميل الغيرِ، إثرَ بيانِ مُباينتِهم لهم في الخصائص المتعلقةِ بتكميل النفسِ، وتعريضًا بمداهنتهم في الاحتساب، بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناسِ وصدِّهم عن سبيل الله، فإنه أمرٌ بالمنكر، ونهيٌ عن المعروف.

 

﴿ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ التي يعملونها، مبادرين في فعل أصنافِ الخيراتِ اللازمةِ والمتعدية، غير متثاقلين خشيةَ الفوات لمعرفتهم بقدر ثوابهم.

 

وأصل المسارعة في الخير فرطُ الرغبةِ فيه؛ لأن من رغِب في الأمر سارع في تولِّيه والقيامِ به، وآثَرَ الفَورَ على التراخي.

 

فهذه حال من أحوالهم المستمرة؛ وهي أنهم في خير مستمر، لا يجدون لحظة إلا يقومون فيها بخير، ولا تلوح لهم فرصة خير إلا يُقدِمون عليها.

 

ولقد ذكر بعض العلماء هنا وجه البلاغة في التعبير بـ(في) دون (إلى)؛ إذ كان مقتضى الظاهر أن يُقال: يسارعون إلى الخيرات، ولكنه سبحانه وتعالى قال: يسارعون في الخيرات، للإشارة إلى أن هؤلاء يسيرون في كل أعمالهم في سبيل الخير، فهم ينتقلون من خير إلى خير، في دائرة واحدة هي دائرة الخير، ينتقلون بين زواياها وأقطارها، ولا يخرجون منها، فهم لا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير، بل إنهم ينتقلون من خير إلى خير، فكان التعبير بـ(في) له موضعه من البيان.

 

قال أبو السعود: “وإيثارُ كلمةِ ﴿ فِي ﴾ على ما وقع في قوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 133]؛ للإيذان بأنهم مستقِرُّون في أصل الخيرِ، متقلِّبون في فنونه المترتبةِ في طبقات الفضلِ، لا أنهم خارجون عنها منتهون إليها… وفيه تعريضٌ بتباطؤ أهل الكتاب فيها، بل مبادرتهم إلى الشرور”.

 

﴿ وَأُولَئِكَ ﴾ فيه من معنى البُعد؛ للإيذان بعلوِّ درجتِهم، وسموِّ طبقتِهم في الفضل، وإيثارُه على الضمير للإشعار بعلة الحُكم والمدح؛ أي: أولئك المنعوتون بتلك الصفاتِ الفاضلة بسبب اتصافِهم بها.

 

﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 114] وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 199].

 

فهذه الأوصاف كلها سَلَكَتْهم في عِداد الصالحين، ولم تجعلهم في زمرة الفاسقين الذين ذمَّهم الله سبحانه وتعالى، والصالحون الذين دخل هؤلاء في جماعتهم هم الذين صلحت أحوالهم، واستقامت أمورهم، وفي التعبير بقوله تعالى: ﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 114] إشارة إلى أنهم بهذه المزايا، وتلك الصفات قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله تعالى، وذكر أن أكثرهم فاسقون، فهم قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين.

 

﴿ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ﴾؛ أي: لن يُعدَموا ثوابَه ألبتةَ، ولن يجحدوه، بل يُعترف لهم به، ويُجزَون به وافيًا.

 

والكفر: ضد الشكر؛ وهو إنكار وصول النعمة الواصلة، عبَّر عنه بذلك إظهارًا لكمال تنزُّهِه سبحانه وتعالى عن ترك إثابتِهم، بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى من القبائح، وإيثارُ صيغةِ البناءِ للمفعول للجري على سنن الكبرياء.

 

و﴿ مِنْ ﴾ هنا تفيد العموم؛ أي: إن يفعلوا أيَّ خير كائنًا ما كان، مما ذُكر أو لم يُذكر، قليلًا كان أو كثيرًا، فلن يُحرَموا ثوابه، وقد أكَّد احتسابه بـ﴿ لَنْ ﴾؛ لأن النفي بها يفيد التوكيد.

 

﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 115] تذييلٌ مقرِّرٌ ما قبله، فإن علمَه تعالى بأحوالهم يستدعي تَوْفيةَ أجورِهم لا محالة، والمرادُ بالمتقين إما الأمةُ المعهودةُ، وُضِعَ موضِعَ الضميرِ العائدِ إليهم؛ مدحًا لهم وتعيينًا لعُنوان تعلُّقِ العلمِ بهم، وإشعارًا بمناط إثابتِهم هو التقوى المنطويةُ على الخصائص السالفة، وإما جنسُ المتقين عمومًا، وهم مندرجون تحت حُكمِه اندراجًا أوَّليًّا.

 

وتخصيص العلم بالمتقين من أجل الحث على التقوى، والحذر من مخالفتها، وعدم القيام بها، وإلا فإن الله عليم بالمتقين وبضدهم.

 

وفيه إشارة إلى أن النية الطيبة في الخير مع سلامة العقيدة، ونزاهة النفس تجعل العمل طيبًا مرجوَّ الثواب دائمًا؛ لأن الأساس دائمًا تقوى القلوب.

 

وفي هذا التذييل الكريم إشارات إلى أمور ثلاثة:

أولها: أن تقوى القلوب هي أساس لكل خير، وهي المجنِّب من كل شر.

 

والثاني: أن التقوى إذا كانت شأنًا من شؤون النفس، صار الشخص لا يُوصَف إلا بأنه من المتقين، وصار عمل الخير كسجيَّةٍ له من السجايا.

 

والثالث: أن الله عليم بكل ما تُخفيه القلوب، وهو يجزي بما يعلم.

 

اللهم وفِّقنا لتقواك، وأنِرْ بصيرتنا، وطهِّر قلوبنا من رجس الهوى، إنك سميع الدعاء.

 

ومجمل هذه الآيات من إنصاف القرآن، فهو لا يُعمِّم حكمه إلا حيث يكون التعميم هو الحق الذي لا شكَّ فيه، وإن كان في قومٍ مَن هم جديرون بالثناء، ذَكَرهم، وكذلك كان الشأن في ذكر أهل الكتاب؛ فيقول: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 75]، ويقول سبحانه: ﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأعراف: 159].

 

وفي هذه الآية يذكر بالخير العظيم طائفة من هؤلاء، فيقول الحَكَمُ العَدْلُ تعالَتْ كلماته: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً ﴾ [آل عمران: 113].





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
مكتبه السلطان – كتب الكتاب واجمل حضن بعد كتب الكتاب ❤ العروسة مش مصدقه نفسها 🙈😭 حضن رومنسي قوي ❤ربنا يوعدنا كلنا❤
الخوف من الله (خطبة)