ليهنأ لك الموت أيا يسرى


“ليهنأ لكِ الموت أيا يسرى”

صباح يوم عاشوراء من العام الخامس والأربعين بعد الأربعمائة والألف من هجرة الحبيب عليه الصلاة والسلام، إنه ليس ككل صباح؛ إذ يعيد الزمن ذاكرته للوراء قبل عام تحديدًا، إذ كانت ركابي تحط رحلَها في مدينة مكناس بالمغرب الإسلامي، ففي مثل هذه الأيام ارتبطتُ بأعظم إنسانة، وأشرف زوجة، وأطهر عشير؛ إذ قادني قدر المولى عز وجل وتوفيقه بزواجي من الأديبة العفيفة التقيَّة النقيَّة الصالحة المخبتة: يسرى بنت أحمد الطويل، لتبدأ معها مرحلةٌ جديدةٌ من مراحل الحياة، فيها أيام سمان بعد أعوامٍ عجاف، خروجًا من وادي الجدب إلى الربيع الخصيب!

كانت يسرى مثالًا ونبراسًا للمرأة المسلمة المعتزة بدينها وبحجابها، لم تكترث لحياة الرفاهية والانحلال، وجعلت من تعلقها بربِّها وبدينها وقودًا للسير في هذه الدنيا، أكملت دراستها الجامعية، وأكملت مرحلة الماجستير في علم الأصول بامتياز، وبدأت مرحلة الدكتوراه في ذات التخصص ليكون بداية عامها الأول لزواجنا مصاحبًا لدراستها؛ هذا لما شاهدتُه من حرصها على سماع الندوات والمحاضرات النافعة، والانشغال بما يفيد، وما يخص إدارة البيت، فقد حازت السبق، فهي الأولى دومًا في الإعداد والتجهيز والتنسيق تقضي جُلَّ وقتها بين كتبها وكتابة بحثها وبين تعلم مهارة أو طريقة تقوم بإعدادها لأهل بيتها!

ما إن حطت أقدامنا بعد الزواج أرض الحرمين استبشرت خيرًا بقربها من الحرم المكي والحرم المدني، وفي أول شهر من زواجنا حظينا معًا بعمرة رأيت من حالها فرحها وتعلُّقها بهذا المكان الطاهر، كيف لا وفي كل مرة آتي لزيارة والدتي بالطائف كانت تتلطَّف بالطلب بأن تذهب للصلاة في الحرم المكي اغتنامًا للزمان والمكان وأُنْسًا بالجلوس في أعظم بقعة!

وبعد استقرارنا في مدينة الرياض رأيت منها كل خير وشاهدت من حالها ما يثلج الفؤاد، ويبهج الروح، فعلى امتداد الأشهر التي قضتها معي كانت في خدمتي وأحسبها تتعبَّد الله بذلك، فاحتياجاتي ومستلزماتي دومًا جاهزة، ومتطلباتي مُلبَّاة، لا تتضجر ولا تتملل ولا تجادلني في نقاش، فلم ترفع عليَّ صوتًا قطُّ، فإن لم يُسعِفْها المقال التزمت الصمت والهدوء، وآثرت سكينة المقام، فكانت نِعْم الزوجة ونِعْم الرفيق، مع ما تقوم به في خدمة أطفالي والقيام بشؤونهم ومتابعة مراحلهم الدراسية، وإعانتي على تربيتهم أعظم ما تكون به المعونة!

تمضي الأيام وكأنها ضوء يبصر ما حولك، جمال روحها ودماثة أخلاقها تنسيك غثاء الحياة، والمواقف معها ومع أولادي أكثر من أن تُحصَى وتُعَد، لكن حقيقة يسرى أنها جنة تمشي على الأرض بحبها وبعطائها وبرحمتها للصغير والكبير، ولها في حب الأطفال والتعامل معهم ما يأسر القلوب، فقد كانت تُوليهم عنايتها وعطفها وحلمها ودعاءها أن يرزقها الله الابن العالم الصالح، فجاءت البشرى بذلك في أول زواجنا، وكم كانت فرحتها عظيمة بذلك، وجلست تترقَّب وتعتني بحملها، وكأنه بين يديها، وأصبح شغلها الشاغل كيف سيكون هذا الطفل، وماذا ستقدم له، وماذا سيحيطه من رعاية حتى يكون عالمًا على مذهب الإمام مالك وتيمُّنًا بذلك، إمامًا وعالمًا ومالكي المذهب وأصوليًّا متقنًا كوالدته!

وبينما الأيام تمضي سريعًا نترقب سويًّا في كل يوم مولودنا الجميل يشاء الله في يوم الجمعة التاسع عشر من ذي الحجة أن أذهب بها للمستشفى للمراجعة بعدما رأيت من حالها التعب، وذهبنا في رحلة أخيرة، ودَّعتني بيديها وكلنا أمل أن نلتقي في اليوم التالي، وجرى بيننا عبر الهاتف أكثر من مكالمة لمتابعة الحالة، وفي نهاية كل مكالمة تودعني وتوصيني بالأولاد، ثم تهمس لي: “أُحِبُّك” ولم أكن أحسب أنها آخر كلمة سأسمعها، ولن يكون بعدُ منها همس؛ إذ تعرَّضت في صبيحة يوم السبت لمضاعفات حادة أدخلتها لموت دماغي لم يمهلها سوى أيام لتصعد الرُّوح إلى بارئها في صباح آخر يوم من العام، ويكون أول أيام العام الحالي أول أيام عزائها!

فكان قدري بيسرى عامٌ مبتدؤه فرح ومنتهاه وختامه مأتم وعزاء، فله ربي الحمد، وله الثناء، وله منِّي ما يشاء من الرضا بقضائه، والصبر على بلائه!

لقد رحلت يسرى صاحبة البسمة والبهجة والمشاغبة والملاطفة، رحلة العالمة بحق زوجها والمتعبدة بخدمته والقائمة بأمره، رحلت الحنونة الرحيمة من كانت أُمًّا لأطفالي وحِضْنًا آمِنًا لهم، رحلت سلوة النفس ومُنْية الروح ومتاع الدنيا الحق، رحلت البارَّة بوالدتها وبأهلها، الباذلة حياتها ووقتها لمن حولها، رحلت ذات الأيادي البيضاء مع الصغير والكبير، رحلت أم مالك وبقي مالك كما أرادت -إن شاء الله- قرة عين لها لا تنقطع!

يسرى وما أدراك ما يسرى! نسيم الحياة العابر، وعبق الفؤاد الحنون، احتوتني كطفلٍ يبحث عن يدين تنتشله من وحل دنسه! استكانت لها نفسي، وخضعت لها قوتي حتى ما إنْ قاومت بصفحات الماضي؛ إذْ بجناح رحمتها يظلني ويهيم بي وأجدني مُحلِّقًا معها، أحببت بيتي بوجودها، وأَلِفتُ محادثتها كل مساء، واستأنست بمجالستها كل حين، أعادتني لداري بعد وحشة غياب، برحاب حنانها الذي ملأ أرجاء البيت، كنت أنتظر ذكرى مرور عام على زواجي بها لكن شاء القدر أن تكون ذكرى زواجنا يوم رحيلها!

أستودعك الله يا يسرى، فالفراق موجع، والوداع لم يكن يومًا في مخيلتي أن يكون بهذه المفاجأة وبهذه المأساة، لكن عزائي أن ربي اختارك لجواره وأحسن بك إذ قادتك أقداره لتأتي من أقصى الغرب ليكون ثراك ومثواك الطاهر في مكة أحب مدينة عندك! ويصلي عليك الملايين في فجر يوم الجمعة الثالث من مُحرَّم، فشتان بين جوار الرحمن وجواري!

أتذكر تلك اللحظة المؤلمة وأنا أنفضُ يديَّ من تراب قبرك إذ عدت ثقيلًا منكسرًا لا أملك إلا دمعةً لا أستطيع إبرازها وزفرةً لا أستطيع إطلاقها، وكأن الله كتب لي في لَوْح مقاديره هذا البلاء في أمرك، فرزقني بك ثم استلبكِ مني وأراد أن يُتمِّم قضاءه بأن أعود لدارٍ ليس فيها ظل خطاك ولا مُحيَّا جبينك!

لن أنسى يا يسرى رؤيتكِ على سرير المرض حتى كدت أن أجزع، وحينما خفت عليكِ الموت ضاقت بي الأرض بما رحبت، لأول مرة أشعر أن الموت يطرق باب بيتي ولا يستأذن في اختياره، فكانت نظراتي لك في سريرك نظرات وداع أخيرة، وأن الأمر ليس تشخيص طبيب ولا انتظار دواء؛ وإنما قدر نافذ.

فحينما خاطبتكِ ولم تجيبي علمت أني ثَكِلتُك فأعود إلى داري، وتمنعني وحشة فقدك أن أرمي جسدي المُنْهك على فراش كنَّا نضحك ونتسامر عليه قبل أيام، لن أنسى تلك الليلة التي قضيتها كجثة هامدة، أتذكر بوضوحٍ ذلِك الشعور الذي نهش جوفي، أتذكرُ مرارته ووطأته على صدري، ويكابدني من حينها الوجع ما أكابد فأقوم ملتجئًا إلى مولاي أدعوه أن يُخفِّف وطأة ووحشة هذا الوداع المرير!

ما أتعس وجهَ الحياة من بعدك! وما أشدَّ ظلمةَ البيت الذي أسكنه بعد فراقك إيَّاه! فلقد كنتِ شمسًا مشرقةً تضيء لي كلَّ شيءٍ فيه، أما اليوم فلا ترى عيني مما حولي أكثر مما ترى عينُ سائر في ليل بهيم!

وكما قال الأول: “لقد طال عليَّ الليل حتى مللتُه، ولكنني لا أسأل الله أن ينفرج لي سواده عن بياض النهار؛ لأن الفجيعة التي فُجِعْتُها بكِ لم تبق بين جنبيَّ بقيةً أقوى بها على رؤية أثرٍ من آثار حياتك، فيا لله لِقلبٍ قد لاقى فوق ما تُلاقي القلوب، واحتمل فوق ما تحتمل من فوادح الخطوب!”

لقد كان حظي من هذه الدنيا ألا يتزحزح لي شقاء وغثاء في طريقي ووجهتي، فما كنت أجد مرارة فقدك لو لم أذق حلاوة قربك، فقد كان لا بُدَّ أن تجري فيَّ سُنَّة البلاء التي يجريها الله بين عباده، فلما استوت زهرة حياتي معك على سوقها واستطعمتُ من ثمارها، انتزعك مني الموت كما تُنتزع الكأس الباردة من يد الظامئ العطشان!

لكن أحسب أنَّ الله اصطفاك من عباده الصالحين والله حسيبك، وقد وجدت لكِ وأنا أسلو بمصابي فيكِ أبوابًا عديدة طرقتها ووصلتي بها جنات النعيم، وأرجو أنك نلت شرفها وحظيتِ بها، فرِضا زوجك أولها وأنا راضٍ عنك تمام الرضا وقد وعدكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “أيُّما امرأةٍ ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة”، ومنها طلبك للعلم وانقطاعك إليه وقد قال صلى الله عليه وسلم: “من سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغي فيه عِلْمًا سَهَّل الله له طريقًا إلى الجنة”، ومنها تقواك وحسن أخلاقك التي يشهد بها من عرفك وقد قال صلى الله عليه وسلم: “أكثر ما يدخل الناس الجنة التقوى وحسن الخلق…” ومنها صلاتك في وقتها وصيامك وعِفَّتك وحياؤك وطاعتك لزوجك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت”، وعلم من صاحبك ولازمك نشأتك منذ الصغر في عبادة الله إلى يوم قبضك ورحيلك ولم تكملي سبعًا وعشرين ربيعًا وهذا وعد من رب العالمين في محكم التنزيل بأنك على خير ولا خوف عليك؛ إذ يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف: 13، 14].

وإنَّ من جبر المصاب وسلوة الخاطر ما أرجوه وأدعو الله به بأن أكون ممن قال الله فيهم: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف: 69، 70]، فلا لمثلي عملٌ مُنْجٍ، إلا أني أحتسبك شهيدةً في مولودك الأول، فتشفعي لمن كنتِ له ملء السمعِ والبصر!

يقيني يا يسرى أن يديك التي كنت تدفعين بها عني وحشة الدنيا ستدخلني إلى جنة الخُلْد، ولم يبق إلى ذلك إلا انتظار الموت، وأحسب أنه أمرَّ من الموت لولا شوقٌ إلى الله يهونه عليَّ!

فالله أسأل أن يجبرني فيك، ويجمعني بك في الفردوس الأعلى من الجنة، والحمد لله أولًا وأخيرًا.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
تحميل كتاب نماذج من أسماء الأعلام الجغرافية والبشرية المغربية pdf
رجال الأشعريين من المحدثين وأصحاب الأئمة (عليهم السلام)