ما أصيب به الإسلام والمسلمون من الشرور والفتن والدواهي والمحن
ما أُصيب به الإسلام والمسلمون من الشرور والفتن والدواهي والمحن
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد – رحمه الله -:
أما بعد: فلا يخفى ما أُصيب به الإسلام والمسلمون من الشرور والفتن والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذان بالوداع، والنفاق قد أشرف وأقبل باطلاع، والإسلام بدأ يرتحل من عُقر داره لتقصير أهله؛ إذ لم يشرحوا للناس محاسنه وفضائله وحكمه وأسراره، ولم يقوموا بالدعوة إليه بغرْس محبته في القلوب، بذكر ما تقدَّم فإن الآيات القرآنية الدالة على الدعوة أكثر من آيات الصوم والحج الذين هما ركنان من أركان الإسلام الخمسة.
والاجتماع المأمور به في قوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ﴾ [آل عمران: 103]، تهدَّمت مبانيه والائتلاف والتعاون، ذهب وذهبت معانيه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، نرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو رُكن من أركان الإسلام في قول طائفة من العلماء، ضعف جانبه وكثُر في الناس، وتنوَّعت مقاصد الخلق وتباينت آراؤهم، فالمنكر للمنكر في هذه الأزمنة، يقول الناس فيه: ما أكثر فضوله وما أسفه رأيه، وربما غمزوه بنقصٍ في عقله، ومن سكت وأخلد قيل: ما أحسن عقله وما أقوى رأيه في معاشرته للناس ومخالطته لهم.
والله قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فأخصُّ أوصاف المؤمنين المميزة لهم من غيرهم، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأس الأمر بالمعروف الدعوة إلى الإسلام، وإرشاد الناس إلى ما خُلقوا له، وتبصيرهم بما دل عليه كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتحذيرهم من مخالفة ذلك.
قال الإمام الغزالي في قوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [التوبة: 71]، وصف الله المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين؛ انتهى.
وفي قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ﴾ [الأعراف: 165]، ما يدل على أن الناجي هو الذي ينهى عن السوء دون الواقع فيه والمداهن عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأساس الأعظم للدين، والمهم الذي بعث الله لأجله النبيين، ولو أهمل لاضمحلَّت الديانة، وفشت الضلالة، وعم الفساد وهلك العباد.
إن في النهي عن المنكر حفاظَ الدين وسياج الآداب والكمالات، فإذا أُهمل أو تُسوهِل فيه، تجرأ الفُسَّاق على إظهار الفسوق والفجور بلا مبالاة ولا خجلٍ، ومتى صار العامة يرون المنكرات بأعينهم ويسعونها بآذانهم، زالت وحشتُها وقُبحُها من نفوسهم، ثم يتجرأ الكثيرون أو الأكثر على ارتكابها، ولكن يا للأسف استولت على القلوب مداهنةُ الخلق وانْمَحت عنها مراقبةُ الخالق؛ حيث اندرس من هذا الباب عمله وعلمه، وانمحى معظمه ورسمه، واسترسل الناس في اتباع الأهواء والشهوات.
ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظٌ للشريعة وحماية لأحكامها، تدل عليه بعد إجماع الأمة وإرشاد العقول السليمة إليه – الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ مثل قوله تعالى: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 113، 114]، فدلت الآية الكريمة على عدم صلاحهم بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر؛ حيث لم يشهد لهم بذلك إلا بعد أن أضاف إليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد ذمَّ سبحانه وتعالى مَن لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فقال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79]، وهذا غاية التشديد ونهاية التهديد، فبيَّن سبحانه وتعالى أن السبب للعنهم هو ترك التناهي عن المنكر، وبيَّن أن ذلك بئس الفعل.
ولا شك أن من رأى أخاه على منكر ولم يَنهه عنه، فقد أعانه عليه بالتخلية بينه وبين ذلك المنكر، وهو عدم الجد في إبعاد أخيه عن ارتكابه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لُعِنوا في كل لسان على عهد موسى في التوراة، ولُعنوا على عهد داود في الزبور، ولُعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولُعنوا على عهد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63]؛
قال القرطبي: وبَّخ سبحانه وتعالى علماءهم في تركهم نهيهم، فقال: ﴿ لَبِئْسَ ما كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾، كما وبَّخ من سارع في الإثم بقوله: ﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 62]، قال: ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فإن الأمة في عهد استقامتها وتمسُّكها بالسنن، لا تطيق أن ترى بين أظهرها عاصيًا ولا معصية، فإذا رأت شيئًا من ذلك ثارت ثورة الأسد، ولم تهدأ إلا إذا أذاقت المجرم ما يليق به، وما يستحق على قدر جريمته، تفعل ذلك غيرةً على دينها وطلبًا لمرضاة ربها، والمجرمون إذا رأوا ذلك كفُّوا عن إجرامهم، وبالغوا في التستر إذا أرادوا تلويث أنفسهم بما يرتكبون، فإذا لم تسقهم الأئمة ولم تُراع سننَ دينها، ضعُفت غيرتُها، أو انعدمت كليًّا في نفوسها؛ إذ لو شاهدت ما شاهدت من المعاصي، إما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة لا يخاف معها العاصي، ولا ينزجر عن معصيته، وأما أن يتفق الجميع على الإغماض عن ذلك العاصي، فيفعل ما يشاء بدون خوف ولا خجلٍ، فيرفع ذووا الإجرام رؤوسهم غير هيَّابين ولا خجلين من أحد.
ولقد وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عند كلِّ أحد ممن يُرجى ويظن أنهم حماة الإسلام وأبطال الدين؛ مما جعل العصاة يَمرحون في ميادين شهواتهم، ويفتخرون بعصيانهم بدون حسيب ولا رقيبٍ، ولو شئت لقلت ولا أخشى لائمًا: نحن في زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل، وأصبحت الدولة لهم، وأهل الفضيلة المتمسكون بأهداب دينهم عندما ينكرون على المجرمين إجرامهم يكونون كالمضغة في الأفواه البذيئة، ترميهم بكل نقيصة وأقل ما يقولون: إنهم متأخرون جامدون في بقايا قرون الهمجية، يبتسمون ويقهقهون ويغمزون بالحواجب والعيون، ويُخرجون ألسنتهم سخرية واستهزاءً بهم، ويضحكون من عقولهم، لَما راجت الرذيلة في هذا العصر هذا الرواج.
وما درى هؤلاء المرذولون أنهم في غاية من السقوط والهمجية التي ليست دونها هَمجية لفساد عقولهم وبُعدهم عن معرفة أوامر دينهم.
وناهيك لو قام كلٌّ منا بما عليه من الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الناس وعظتهم، وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم – لاستقر الخير والمعروف فينا وامتنع فُشوُّ السر والمنكر بيننا: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25].
وقد صرَّح العلماء رحمة الله عليهم بأنه يجب على الإمام أن يولي هذا المنصب الجليل والأمر الهام الذي هو في الحقيقة مقام الرسل، محتسبًا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكون ذا رأي وصرامة، وقوة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
فدلَّت الآية الكريمة على أنه يجب على المسلمين أن تقوم منهم طائفةٌ بوظيفة الدعوة إلى الخير، وتوجيه الناس وعظتهم، وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامة دينهم، وأن يكونوا على المنهج القويم والصراط المستقيم، والمخاطب بهذا كافة المسلمين، فهم المكلفون لا سيما الإمام الأعظم، وأن يختاروا طائفة منهم تقوم بهذه الفريضة الهامة التي هي أحد أركان الإسلام في قول طائفة من العلماء.
قِفا نبكِ على رسوم علوم الدين والإسلام الذي بدأ يرتحل من بلاده، ولكن يا للأسف على منام القلوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على الإسلام بما لا حقيقة له.
لقد انطمس المعنى وذهب اللبُّ، وما بقِي إلا قشور ورسوم، واكتفى الكثيرون من الإسلام بمجرد الانتساب إليه، بدون أن يعملوا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم، بذكر فضله وعظمته، وإيضاح أسراره وحِكَمِه، وغرس العقيدة الحقة في قلوبهم، فهذا واجب المسلمين بعضهم لبعض، كلٌّ على قدر استطاعته ومقدرته.
هذا وأسأل الله أن يوفِّق المسلمين وولاةَ أمورهم لِما فيه صلاحهم وصلاح دينهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وهو حسبُنا ونعمَ الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا إلى يوم الدين.