ما بين سياط الخوف وحبال الرجاء


ما بين سِياط الخوف وحبال الرجاء

تقوى الله ومخافته من أهم عناصر الإيمان ومطالبه، وعلى المؤمن أن يعبد الله تعالى بين الخوف والرجاء، فيكون وسطًا بين الطمع فيما عند الله من أجر وثواب، والخوف من ناره وعذابه؛ فتتعادل المعادلة التي تتوازن بها كفَّتَيِ الميزان، ويتمكَّن بها المسلمُ من الحفاظ على سَيْرِهِ على عبادة الله بتوازن، في الطريق المستقيم الذي يقوده إلى جنة الله ورضوانه بأمان ويُسْرٍ، وقد أمرنا الله تعالى بعبادته تضرُّعًا وخُفْية؛ في قوله تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: 55]، فالمؤمن لا يزال خائفًا من عذاب الله، وإن فَعَلَ ما فَعَلَ من عبادات؛ فليس هناك أمان من سَخَطِه، ولا ضمان لجنته، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون، وكذلك لا ينقطع رجاءه من رحمته، وإن فعل ما فعل من الذنوب؛ وذلك لعلمه بصفات الله وأفعاله، وأنه تعالى عفوٌّ غفورٌ، وأن رحمته وسِعت كل شيء، وأنه يغفر مع التوحيد والتوبة كلَّ الذنوب بإذنه تعالى؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]؛ وجاء في الحديث الشريف: ((قُدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السَّبْيِ تبتغي، إذا وجدت صبيًّا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرْضَعَتْهُ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتَرَون هذه المرأةَ طارحةً ولدَها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألَّا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها))، والله تعالى رحيم بعباده المؤمنين، وقد يسَّر لهم سُبُلَ الهداية، وجَنْيِ الحسنات، وتكفير الذنوب، فجعل العملَ القليلَ من الطاعة يمحو أضعافَه من المعصية؛ كما جاء في الحديث القدسي: ((من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها وأزِيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها، أو أغفر، ومن تقرَّب منِّي شبرًا، تقرَّبت منه ذراعًا، ومن تقرَّب مني ذراعًا، تقرَّبت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُه هَرْوَلَةً، ومن لَقِيني بقُراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا، لَقِيتُه بمثلها مغفرة))، وبعد ذلك فإن الله يرسل الإشارات والنُّذُرَ والمصائب التي يبتلي بها العبد؛ ليتوب ويرجع إلى طريق الحق والهداية، وكما أن المؤمن ينظر إلى ألطاف الله، ويُحْسِن ظنَّه بربِّه، فهو أيضًا لا ينسى الوعد والوعيد، ولا يُثْنِيه حسنُ الظن عن العمل، بل حسن الظن يشجِّعه عليه؛ لأنه يزيده يقينًا وتصديقًا بوعد الله ووعيده، فيجِدُّ في أمره، والله تبارك وتعالى ينظر لقلوب العباد التي تنتهي بها النهايات والعِبرة بالخواتيم، والأفضل للعبد في حياته تقوية جانب الخوف على الرجاء، وعند قرب أجله وقبل الموت فلْيُقدِّم الرجاء على الخوف؛ وقد أشار إلى ذلك ابن القيم وبعض السلف، وهو مأخوذ من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الظن بالله عند الموت في الحديث: ((لا يَمُوتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحْسِن الظن بالله عز وجل))[1]، وكذلك للتحذير من سوء الظن بالله تعالى عند الموت حين ينقطع عمل العبد، فيكون حريٌّ به أن يُحْسِنَ الظن بالله وبأنه سيرحمه.

 

وأما الخوف من الله فهو الجانب الآخر من إيمان المؤمن، وهو أهم للعبد طوال حياته على وجه الأرض؛ فهو السِّياط الذي يسوق به نفسَه، ويروِّضها على طاعة الله، وهو الحبل الذي يتمسك به في ظلمات الفتن، وإغراءات الدنيا ومحاسنها، فخوفه من ربه ينهاه عن اتباع الشهوات، وأما الغافل فقد حُرِم من الخوف وما يجلبه للمؤمن من فوائدَ؛ ومن أهمها: تقوية الإيمان، والصبر على الطاعة، والاجتهاد في أمر الآخرة، والخوف في الدنيا أهم من الرجاء؛ وذلك لأن دخول النار مؤلم جدًّا للعبد، بخلاف عدم دخول الجنة، فهو ليس مؤلمًا، وإن كان مؤسفًا بلا شك؛ بمعنى آخر: إن كل الناس البَر والفاجر يخاف النار، ولكن لا يطمع في الجنة إلا القلة المؤمنة، وآيات التخويف كثيرة جدًّا في القرآن، ومنها ما تحدث عن أهوال القيامة، وسكرات الموت، والبعث، والحساب، والميزان، وأما أشدها رعبًا وموعظة فهو وصف النار الذي تستيقظ به البصائر، وتقشعر به الأبدان، فتفزع القلوب من مَرْقَدِها وَجِلَةً وخاشعة، تطلب العفو والسماح من الله، وتقوم الليل ساهرة ودامعة الأعين، فتغسل بها الذنوب والآثام، فتنال بذلك رضا الله وعفوه وغفرانه؛ قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]، وجاء في الصحيحين: ((ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الْمَلِكُ، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيَه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر))[2].

 

وأما الكافر، فهو يائس من رحمة الله، فهو لا يخافه ولا يصدِّق بوجوده أو تحقيق عقابه، ولا يبالي به، وقد أساء الظن بالله، وكذَّب بقدرته ووعيده، فأرْدَاه ذلك الظن إلى النار؛ قال تعالى: ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 23]؛ ذكر فيها ابن كثير أن الحسن قال: “إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم؛ فأما المؤمن فأحسن بالله الظن؛ فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن؛ فأساءا العمل”[3]، وأما المؤمن فقد صدَّق بالله وآمن بأنه ملاقيه، وأن الجنة حق، والنار حق، فجدَّ واجتهد في الأمر، وتاب عن ذنوبه وكفَّر، وأكثر من عمل الصالحات؛ فنال رضاءَ الله وثوابه وجنته؛ قال تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 59 – 63]، فيا له من فوز عظيم ناله من خاف ربه وتاب وأناب، وصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وجدَّ في الأمر، ففاز ونال ثوابًا دائمًا لا ينقطع، ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴾ [الواقعة: 25، 26]، فلا لغط ولا نقد، ولا تأنيب ولا شِجار، ولا فحش في القول، ولا ظلم ولا فقر، ولا مرض ولا بكاء، ولا ألم ولا حاجة، ولا خوف، بل هو نعيم مقيم، وسلام دائم، وقرة عين لا تنقطع، نسأل الله أن نكون جميعًا من الفائزين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


[1] أخرجه مسلم (2754)، والبخاري (5653).

[2] أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758).

[3] تفسير ابن كثير، ج 7، ص 158.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
«ما لا يُحمل على ظاهره في القرآن الكريم».. كتاب جديد لـ البسيوني عطية – بوابة أخبار اليوم
جريدة الرياض | «كتاب الرياض» يحتفي بـ«الإبل» رمزاً ثقافياً وقطاعاً اقتصادياً واعداً