ما جاء في بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
مدارسة كتاب الشمائل المحمدية للترمذي رحمه الله
45- باب ما جاء في بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
• البكاء غريزة فطرية تعتري الإنسان في أحواله المختلفة؛ فأحيانًا قد يبكي الإنسان على فَقْدِ قريب، أو موت حبيب، وأحيانًا قد يبكي الإنسان لألمٍ يُصيبه، أو يصيب أحد إخوانه، وأحيانًا قد يبكي الإنسان إذا سمِع القرآن متأثِّرًا متدبِّرًا، وأحيانًا يبكي الإنسان إذا ذكر ربه سبحانه وتعالى خشيةً وإجلالًا، وأحيانًا قد يبكي الإنسان إذا ذكر الجنة شوقًا إليها، أو النار خوفًا منها، وقد يبكي الإنسان من شدة الفرح.
• والبكاء أمر مُباحٌ لأنه غريزة في الإنسان، إلا إذا صاحبه شقٌّ للجيوب، أو ضربٌ للخدود، أو نِياحةٌ، أو نحو ذلك مما حرَّمه الشرع؛ فهنا يكون البكاء محرمًا.
• وأسوأ البكاء ما كان من أجل فَقْدِ متاع من متاع الدنيا الزائل، كمن يبكي لهزيمة فريقه الكروي الذي يشجعه.
• وخير البكاء ما كان من خشية الله تعالى؛ وهذا من صفات المرسلين، وعباد الله المتقين؛ كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58]، قرأ عمر رضي الله عنه هذه الآية، ونزل من على المنبر وسجد، ونظر إلى القوم فما رآهم بكَوا، فقال: أيها الناس، هذا السجود، فأين البكاء؟ أي: إن ربنا قال: ﴿ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58]، ولم يَقُل: خروا سُجَّدًا فقط.
• وقد وَرَدَ في ذلك فضل عظيم.
فقد أثنى الله تعالى به على أهل العلم: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83].
ومن السبعة الذين يُظِلُّهم الله تعالى في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: ((ورجلٌ ذَكَرَ الله خاليًا ففاضت عيناه)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَلِجُ النار رجلٌ بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله، ودُخَانُ جهنمَ))؛ [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((عينان لا تمسُّهما النار: عينٌ بَكَت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرُس في سبيل الله))، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس شيءٌ أحبَّ إلى الله من قطرتين وأثَرَين: قطرة من دموع من خشية الله، وقطرة دم تُهراق في سبيل الله، وأما الأثران، فأثَرٌ في سبيل الله، وأثَرٌ في فريضة من فرائض الله))؛ [صحيح سنن الترمذي]، سبحان الله! قطرة صغيرة من ماء قد تكون سببًا في نجاة العبد من النار، والفوز بالجنة.
• والنبي صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر يبكي ويضحك، ويحزن ويفرح، وكان بكاؤه من جنس ضحِكِه، وكان تارة على أُمَّتِهِ، ورحمةً، وعند كسوف الشمس، وعند قراءة أو سماع القرآن، وفي الصلاة، وعند احتضار ابنته، وعند موت عثمان بن مظعون.
1- عن عبدالله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفِهِ أَزِيزٌ كأزيز الْمِرْجَلِ من البكاء))؛ [رواه أبو داود].
• الْمِرْجَل: مثل: غليان القِدْرِ.
2- في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ عليَّ، فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟! قال: ((إني أُحِبُّ أن أسمعَه من غيري، فقرأت سورة النساء، حتى بلغت: ﴿ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41] قال: فرأيت عينَي رسول الله صلى الله عليه وسلم تَهْمِلان)).
• تهمِلان: تَدْمَعان.
3- عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((انكسفت الشمس يومًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي، حتى لم يَكَدْ يركع – من طول القيام – ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه، ثم رفع رأسه فلم يكد أن يسجُدَ، ثم سجد فلم يكد أن يرفع رأسه، ثم رفع رأسه فلم يكد أن يسجد، ثم سجد فلم يكد أن يرفع رأسه، فجعل ينفخ ويبكي، ويقول: ربِّ ألم تَعِدْني ألَّا تعذبهم وأنا فيهم، ربِّ ألم تَعِدْني ألَّا تعذبهم وهم يستغفرون، ونحن نستغفرك، فلما صلى ركعتين، انْجَلَتِ الشمس، فقام فحمِد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا انكسفا، فافزعوا إلى ذِكْرِ الله تعالى))؛ [رواه النسائي، وأبو داود].
4- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنةً له تقضي، فاحتضنها، فوضعها بين يديه، فماتت وهي بين يديه، وصاحت أم أيمن فقال: ((أتبكين عند رسول الله؟ فقالت: ألستُ أراك تبكي؟ قال: إني لست أبكي، إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تُنزَع من بين جَنْبَيه، وهو يحمَد الله عز وجل))؛ [رواه النسائي، وغيره].
• المقصود بها: ابنته زينب.
• (إنما هي رحمة): من معاناة الموت.
5- عن عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وهو ميت، وهو يبكي، أو قالت: عيناه تُهْراقان))؛ [رواه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وهو ضعيف].
• تُهراقان: بكاء لا صوت فيه.
6- في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((شهِدنا ابنةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمَعان، فقال: أفيكم لم يُقارِف الليلة؟ قال أبو طلحة: أنا، قال: انزل، فنزل في قبرها)).
• (ابنةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم): وهي أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجة عثمان رضي الله عنه.
• (لم يقارف): لم ينام مع أهله، وهذه سُنَّة.
• وفيه جواز أن يُنزِلها في قبرها من غير ذوي المحارم.
• خلاصة المواقف: بكى النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وعند سماع القرآن الكريم، وعند كسوف الشمس، بكاء رحمة وشفقة عند احتضار ابنته، وعند موت عثمان بن مظعون، وعند دفن ابنته.
• ومنها: بكاؤه على القبر؛ كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((زار النبي صلى الله عليه وسلم قبرَ أُمِّه، فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذَن لي، واستأذنته في أن أزورَ قبرها فأذِن لي، فزُورُوا القبور؛ فإنها تُذكِّر الموت))، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جِنازةٍ، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلَّ الثَّرى، ثم قال: يا إخواني، لِمِثْلِ هذا فأعدُّوا))؛ [رواه ابن ماجه].
• ومنها: بكاؤه لأجل أُمَّتِهِ؛ كما في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ((أن النبي تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، فرفع يديه، وقال: اللهم أُمَّتي أمتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فسَلْهُ: ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنُرضيك في أُمَّتِك ولا نَسُوؤك)).
أنواع البكاء وأقسامه:
يقول العلَّامة ابن القيم رحمه الله: “وينقسم البكاء إلى عشرة أنواع:
أولًا: بكاء الرحمة والرِّقة.
ثانيًا: بكاء الخوف والخشية.
ثالثًا: بكاء المحبة والشوق.
رابعًا: بكاء الفرح والسرور؛ ففي السيرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها… إن الله قد أذِن لي في الخروج والهجرة، قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة، قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ))، وبكى أبو هريرة رضي الله عنه من الفرح بإسلام أمه.
خامسًا: بكاء الجزع من وُرُود المؤلِم وعدم احتماله.
سادسًا: بكاء الحزن، والفرق بين بكاء الخوف وبكاء الحزن أن بكاء الخوف على ما هو آتٍ، وبكاء الحزن على ما وقع من فعل مضى، ودمعة الحزن تختلف عن دمعة الفرح؛ فإن دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن ساخنة؛ لذلك فرقٌ بين بكاء وبكاء.
سابعًا: بكاء الخَورِ والضعف.
ثامنًا: بكاء النفاق.
تاسعًا: البكاء المستعار والمستأجَر، كأن تأتيَ بامرأة لتبكي على رجل لا تعرفه، وتستعيرها بأجر؛ يقول أحد السلف لأبيه: يا أبتِ، ما لي أراك إذا تحدثت بكى الناس، وإن تحدث غيرك لم يبكِ أحد؟ قال: يا ولدي، ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، ليست من أُصيبت في زوجها أو ولدها، كمن يُؤتَى بها لتبكي بأجرٍ.
عاشرًا: بكاء الموافقة.