ما حكم أخذ المفتي أجرة على إفتائه؟
ما حكم أخذ المفتي أجرةً على إفتائه؟
محل الخـلاف:
أجاز عامّة أهل العلم لمن انتصب للفتوى، وكان من أهلها أن يأخذ رزقًا من بيت مال المسلمين،[1] إلا إذا تعيّنت عليه، وله كفاية،[2] وأجاز عامتهم كذلك قبول المفتي ما يهدى إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، ويثيب عليها،[3] ولأنه إنما يُهدى إليه لعلمه؛ بخلاف القاضي،[4] ما لم تكن سببًا في أن يفتيه بما لا يفتي به غيره؛ فتكون رشوةً محرمة.[5]
فإن لم يكن له رزق،[6] فهل يجوز للمفتي أخذ أجرة بسبب الإفتاء؟، اختلفوا في ذلك على خمسة أقوال:
القول الأول: يجوز للمفتي أن يأخذ أجرةً.[7]
واستدلوا: بأنه إن لم يأخذ أجرةً أفضى ذلك إلى ضررٍ، وحرجٍ يلحقه في نفسه وأهله، وإن لم يفتِ حصل الضرر للمستفتين، وكلاهما منتفٍ شرعًا، فتعيّن الجواز.[8]
ويمكن أن يناقش: بأن هذا الاستدلال إنما يصح في حالة كون الامتناع عن الأخذ يضره، لا مطلقًا.
القول الثاني: يجوز للمفتي أن يأخذ أجرةً إن شغلته الفتيا عن كسبه[9].
واستدلوا: بأن الفتيا إن قطعت عليه اكتسابه أضرّت بحاله؛ فجاز له الأخذ في هذه الحالة.[10]
القول الثالث: يجوز للمفتي أن يأخذ أجرةً من مجموع الناس، لا من أعيان من يفتيهم.[11]
واستدلوا: بأنه كالحاكم؛ فلا يأخذ من أعيان من يعمل له، أما إن كان الأجر من مجموعهم فيسوغ؛ كالرزق؛ ليتفرغ لفتاويهم، وكتابة نوازلهم،[12]وباب الأرزاق أقرب إلى باب الإحسان منه إلى المعاوضة؛ بخلاف الإجارة.[13]
القول الرابع: يجوز أخذ الأجرة على كتابة الخطّ، لا على الفتوى.[14]
واستدلوا: بأن المفتي تلزمه الفتوى، لا الكتابة، وخطّه قدرٌ زائدٌ على جوابه، فله أخذ الأجرة عليه.[15]
ويمكن أن يناقش: بأنه قد لا يلزم من الجواب الخطّ، ثم إن هو كتبه قُيد أجره بقدر أجرة مثله، دون تقدير مدّة اشتغاله بالكشف عن الجواب وتحريره، وهذا ضررٌ عليه.
القول الخامس: لا يجوز للمفتي أن يأخذ أجرةً، ويلزمه الجواب مجانًا بلفظه وخطّه، ولا يلزمه الورق، ولا الحـبر.[16]
واستدلوا: بأن الفتيا منصب تبليغ عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تجوز المعاوضة عليه، كما لو قال له: لا أعلمك الإسلام، أو الصلاة إلا بأجرة.[17]
ويمكن أن يناقش: أنه قد يعطى ما يكفيه، لا على جهة المعاوضة، بل على نحو الجعل أو الرزق من بيت المال.
سبب الخـلاف:
صورة هذه المسألة تشملها صورة الخلاف في مسألة أخذ الأجر على القربات المتعدية غير المتعيّنة، ووجه ذلك ظاهرٌ؛ إذ الفتوى قربة متعدية النفع إلى الغير، ومحل النـزاع هنا في الفتوى غير المتعـيّنة، فمن أجاز الأجرة راعى حصول النفع المتعدي، ومن منعها غلّب جانب القربة، ويضاف لذلك – في خصوص هذه المسألة – خوف التّهمة من التساهل في الإفتاء؛ لأجل الأجر.
القول المخـتار:
لا يخلو حكم أخذ المفتي للأجرة من الكراهة؛ لكن متى تأكدت الحاجة الشديدة إلى تفريغه للإفتاء، جاز إعطاؤه مالاً من أموال المصالح العامّة، أو من تبرعات المقتدرين، لا من أعيان من يفتيهم، مع اشتراط البروز في العدالة والورع، وحـثّه على الأولى بأن يتبرع بذلك، ويحتسبه لوجه الله عز وجل، وبهذا تجتمع المصالح، وتضعف التّهمة.[18]
[1] ينظر: الفقيه والمتفقه، للخطيب، (2/ 347)، روضة الطالبين، للنووي، (11/ 110)، المبدع، لبرهان الدين ابن مفلح، (10/ 25)، صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35)، شرح الكوكب المنير، للفتوحي، (4/ 547)، ونقل ابن القيم وجهًا آخر بالمنع، إعلام الموقعين، (4/ 178).
[2] ينظر: آداب الفتوى، للنووي، ص (39)، المبدع، لبرهان الدين بن مفلح، (10/ 25)، حاشية الدسوقي، (1/ 20)، الكوكب المنير، للفتوحي، (4/ 547) صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35)، وقد ذكر احتمالاً بالجواز.
[3] أخرجه البخاري، في كتاب الهبة وفضلها، باب المكافأة على الهدية، (3/ 206)، برقم 2585.
[4] ينظر: آداب الفتوى، للنووي، ص (40)، المبدع، لبرهان الدين بن مفلح، (10/ 25)، حاشية ابن عابدين، (5/ 373)، كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 301)، منار أصول الفتوى، للقاني، ص (292)، صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35)، وعن المروذي لا يقبل إلا أن يكافئ عليها، ينظر: شرح الكوكب المنير، للفتوحي، (4/ 547)، وقال بالكراهة ابن القيم في إعلام الموقعين، (4/ 178)، ونحوه الحطاب في مواهب الجليل، (6/ 121).
[5] ينظر: آداب الفتوى، للنووي، ص (40)، إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 178)، المبدع، لبرهان الدين بن مفلح، (10/ 25)، حاشية ابن عابدين، (5/ 373)، كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 301) شرح الكوكب المنير، للفتوحي، (4/ 547)، صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35).
[6] ينظر: آداب الفتوى، للنووي، ص (39)، المبدع، لبرهان الدين بن مفلح، (10/ 25)، صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35).
[7] ينظر: حاشية الدسوقي، (1/ 20)، شرح الكوكب المنير، للفتوحي، (4/ 87).
[8] ينظر: شرح الكوكب المنير، للفتوحي، (4/ 87).
[9] ينظر: المبدع، لبرهان الدين بن مفلح، (10/ 25)، منار أصول الفتوى، للقاني، ص (290)، صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35).
[10] ينظر: صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35).
[11] ينظر: الفقيه والمتفقـه، للخطيب، (2/ 347)، آداب الفتـوى، للنووي، ص (39)، المبدع، لبرهان الدين ابن مفلح، (10/ 25)، كشاف القناع، للبهوتي، (6/ 301)، شرح الكوكب المنير، للفتوحي، (4/ 87).
[12] ينظر: الفقيه والمتفقه، للخطيب، (2/ 347).
[13] ينظر: شرح الكوكب المنير، للفتوحي، (4/ 87).
[14] وقد جعله النووي كالحيلة، وعزاه لأبي حاتم القزويني، ينظر: آداب الفتوى، ص (39)، المبدع، لبرهان الدين بن مفلح، (10/ 25)، حاشية ابن عابدين، (5/ 374)، صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35)، شرح الكوكب المنير، للفتوحي، (4/ 87).
[15] ينظر: حاشية ابن عابدين، (5/ 374)، صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35).
[16] ينظر: إعلام الموقعين، لابن القيم، (4/ 178).
[17] ينظر: المصدر السابق.
[18] ينظر: روضة الطالبين، للنووي، (11/ 110)، صفة الفتوى، لابن حمدان، ص (35).