ما ورد في معاني الباء في القرآن


ما ورد في معاني الباء في القرآن

 

وأهل اللغة يُطلِقون على حروف الجرِّ حروفَ المعاني؛ وذلك أن هذه الحروف تدل على معانٍ متعددة ومختلفة، تُستفاد من السياق الذي وردت فيه، وإن كان لكلِّ حرفٍ من حروف الجر معنًى أصليٌّ، إليه تُرَدُّ سائر معانيه التابعة الأخرى.

 

وقد ذكر ابن هشام النحوي أن حرف (الباء) في اللغة يفيد عددًا من المعاني، وذكر لمعظمها شاهدًا أو شاهدَين من القرآن، وفيما يلي ذِكْرٌ للمعاني التي ورد عليها حرف (الباء) في القرآن الكريم، مع التمثيل لها، وننقل أقوال المفسرين بصددها:

 

الأول: باء الإلصاق؛ قال ابن هشام: “وهو معنًى لا يفارقها؛ فلهذا اقتصر عليه سِيبَوَيهِ”، وكلام سيبويه يفيد أن معنى الإلصاق في (الباء) معنًى أصليٌّ، وغيره من المعاني تابع له، ومن أمثلة (الباء) التي جاءت بحسب هذا المعنى في القرآن قوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن (الباء) هنا معناها الإلصاق؛ قال الزمخشري: “المراد إلصاق المسح بالرأس”، وقال ابن هشام: “الظاهر أن (الباء) فيها للإلصاق”، بَيدَ أن القول المعتمَد في هذه الآية أن (الباء) هنا تفيد التوكيد، وبتعبير المفسرين: زائدة، والمعنى: وامسحوا رؤوسكم.

 

الثاني: باء التعدية، وتُسمَّى باء النقل أيضًا، وهي عند جمهور النحويين ترادف الهمزة، فإذا قلت: خرجت بزيدٍ، فمعناه: أخرجت زيدًا؛ وعلى هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ [البقرة: 17]؛ قال أبو حيان: “الباء في ﴿ بِنُورِهِمْ ﴾ للتعدية”، وقد ألمح ابن عاشور هنا إلى أمر ذي بال، فقال: “إن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيَّنه المحققون من النحاة، فإن أصل قولك: ذهبت بزيد، أنك ذهبت مصاحبًا له، فأنت أذهبته معك، ثم تُنُوسِيَ معنى المصاحبة”، ولأجل هذا الملحظ اعتبر ابن عاشور أن (الباء) في قوله سبحانه: ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ ﴾ [الإسراء: 68] لتعدية “يخسف” بمعنى المصاحبة.

 

الثالث: باء الاستعانة؛ وهي الداخلة على آلة الفعل، كقولك: كتبت بالقلم، والمثال القرآني الشهير في دلالتها على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ﴾ [الفاتحة: 1]؛ قال أبو حيان: “الباء في ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ﴾ للاستعانة”، وتقدير الكلام: أقرأ أو أتلو مستعينًا بـ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ﴾، وعلى هذا أيضًا قوله تعالى: ﴿ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [الأنعام: 38]، فـ(الباء) هنا للاستعانة.

 

الرابع: باء السببية؛ وهي التي تُرتِّب أمرًا على أمرٍ؛ والمثال عليها قوله عز وجل: ﴿ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾ [البقرة: 54]، فظُلْمُهم أنفسهم سببه عبادة العجل، ومنه قوله عز وجل: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ﴾ [العنكبوت: 40]؛ أي: عاقبناهم بإرسال الريح، والأخذ بالصيحة، والخسف، والغرق بسبب استكبارهم في الأرض، وصدهم عن سبيل الله، و(الباء) بحسب هذا المعنى كثيرة في القرآن.

 

الخامس: باء المصاحبة؛ المثال القرآني الأبرز عليها قوله سبحانه: ﴿ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا ﴾ [هود: 48]؛ قال ابن عاشور: “الباء للمصاحبة؛ أي: اهبط مصحوبًا بسلام منا، ومصاحبة السلام – الذي هو التحية – مصاحبة مجازية”، ونظير هذا قوله عز وجل: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ﴾ [الحجر: 46]؛ أي: ادخلوا الجنة مصحوبين بالسلامة، والمعنى: مسلَّمًا عليكم، كما حُكِيَ عن الملائكة أنهم يدخلون على أهل الجنة، يقولون: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ [الرعد: 24].

 

السادس: الظرفية؛ والمثال عليها قوله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ﴾ [آل عمران: 123]؛ قال ابن السَّمين الحلبي: “في الباء قولان: أظهرهما: أنها ظرفية؛ أي: في بدر، كقولك: زيد بمكة؛ أي: في مكة”، ونحو هذا قوله تعالى: ﴿ إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ﴾ [القمر: 34]؛ أي: في وقت السَّحَرِ، وهو وقت قبيل الصبح.

 

السابع: باء المقابلة؛ وهي الداخلة على الأعواض؛ والمثال عليها قوله سبحانه: ﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾ [البقرة: 178]، (الباء) هنا باء المقابلة والمعاوضة، والتقدير: الحر مأخوذ بالحر، والعبد مأخوذ بالعبد، والأنثى مأخوذة بالأنثى، وعلى حسب هذا المعنى عز وجل: ﴿ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 151]؛ قال ابن عاشور: “(الباء) للعِوَضِ، وتسمى باء المقابلة”.

 

الثامن: باء المجاوزة، كـ(عن)؛ ومثال هذا قوله سبحانه: ﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 59]، المعنى: فاسأل عنه؛ قال ابن عاشور: “(الباء) تأتي بمعنى (عن)، وهو من معاني (الباء) الواقعة بعد فعل السؤال”، واستشهد بالآية المذكورة، ومن هذا الباب أيضًا قوله تعالى: ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾ [المعارج: 1]؛ أي: عن عذابٍ واقعٍ.

 

التاسع: باء الاستعلاء؛ ومثال هذا قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ [آل عمران: 75]، فـ(الباء) هنا تفيد الاستعلاء؛ بدليل قوله سبحانه: ﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ﴾ [يوسف: 64]، ونظير مجيء (الباء) بمعنى (على) أيضًا قوله عز وجل: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [المطففين: 30]؛ أي: مرُّوا عليهم؛ بدليل قوله سبحانه: ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ﴾ [الصافات: 137].

 

العاشر: باء الغاية؛ وهي التي بمعنى (إلى) التي تفيد الغاية؛ والمثال عليه قوله سبحانه: ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾ [يوسف: 100]؛ قال أبو حيان: “و﴿ أَحْسَنَ ﴾ أصله أن يتعدى بـ(إلى)؛ قال تعالى: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]، وقد يتعدى بـ(الباء)؛ قال تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، كما يُقال: أساء إليه، وبه”، وقال ابن عاشور: “وعندي أن (الإحسان) إنما يُعدَّى بـ(الباء) إذا أُريد به الإحسان المتعلق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها، وهو معنى البر؛ ولذلك جاء: ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾ [يوسف: 100]، وإذا أُرِيد به إيصال النفع المالي، عُدِّي بـ(إلى)، تقول: أحسن إلى فلان، إذا وصله بمال ونحوه”.

 

الحادي عشر: باء التبعيض؛ المثال الأبرز هنا ما ذهب إليه الشافعي من أن (الباء) في قوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ﴾ [المائدة: 6] تفيد التبعيض؛ أي: فامسحوا ببعض رؤوسكم، فالفرض عنده مسح ربع الرأس، وجعلوا منه قوله عز وجل: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴾ [الإنسان: 6]، فـ(الباء) هنا بمعنى (من)؛ أي: من بعضها، وهذا على قولٍ في معنى هذا الحرف هنا؛ وقد قال ابن عاشور: “إن الاستعمال العربيَّ يكثُر فيه تعدية فعل الشرب بـ(الباء) دون (من)، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة، أو كانت الباء زائدة”، ومراد ابن عاشور أن (الباء) في الآية ليست بمعنى (من) التي تفيد التبعيض.

 

الثاني عشر: باء القَسَم؛ ومثاله على ما قاله بعضهم قوله عز وجل: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ﴾ [الأعراف: 134]، ذكر الزمخشري أن (الباء) في الآية على معنيين، الثاني منهما: أنها باء القسم، والمعنى: أقسمنا بعهد الله عندك، لئن كشفت عنا الرجز لنُؤمنَنَّ لك، ومثال مجيء (الباء) بمعنى القسم أيضًا قوله سبحانه: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17]؛ قال الشوكاني: “هذه (الباء) يجوز أن تكون باء القسم، والجواب مُقدَّر؛ أي: أقسم بإنعامك عليَّ، لأتُوبَنَّ”.

 

الثالث عشر: باء التوكيد، ويُعبِّر المفسرون عنها بـ(الباء) الزائدة، ويريدون بهذا التعبير أن حذفها من الكلام لا يُخِلُّ بالمعنى، وأن ذكرها يفيد التوكيد، ثم هم بعدُ يقولون: إن زيادة (الباء) تكون في مواضع:

فتُزاد في الفاعل؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 6]؛ قال ابن عاشور: “الباء زائدة للتوكيد”؛ أي: كفى الله حاسبًا لأعمالكم ومجازيًا بها، ونظيره قوله عز وجل: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 132]؛ قال الرازي: “اعلم أن (الباء) في قوله: ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ ﴾ [النساء: 6]، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ ﴾ [الإسراء: 65] في جميع القرآن زائدة، هكذا نقله الواحدي عن الزجَّاج”.

 

وتُزاد في المفعول؛ مثال ذلك قوله سبحانه: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، (الباء) في ﴿ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ زائدة، والتقدير: تُلقوا أيديكم؛ قاله القرطبي، ونحو هذا قوله عز وجل: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ [مريم: 25]، (الباء) زائدة مؤكِّدة.

 

وتُزاد في المبتدأ؛ والمثال عليه قوله تعالى: ﴿ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ﴾ [القلم: 6]، (الباء) زائدة، والمعنى: أيكم المفتون؟ قال قتادة: أي المجنون الذي فُتِنَ بالجنون، وثمة أقوال أُخَرُ في معنى (الباء) هنا غير هذا، وتُزاد في الخبر؛ من ذلك قوله عز وجل: ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 74]، التقدير: وليس الله غافلًا عن عَمَلِ عباده، بل يعلم عمل كل عامل، ويحاسب كلًّا على عمله، ومن أمثلة زيادة (الباء) في الخبر أيضًا قوله عز وجل: ﴿ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ﴾ [يونس: 27]؛ قال ابن كيسان: الباء زائدة، والمعنى: جزاء سيئة مثلها، كما قال: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40].

 

هذه جملة المعاني التي جاء عليها حرف (الباء) في القرآن الكريم على ما ذكره المفسرون وأهل العربية.

 

تنبيه:

وواضح من الأمثلة التي ذكرناها لمعنى (الباء) في القرآن الكريم، أن المفسرين قد يختلفون في تعيين وتحديد معنى من هذه المعاني، فيُرجِّح كلٌّ منهم معنًى يراه هو الأوفق والأنسب في الدلالة على معنى الآية، ولا حرج في ذلك، فاحتمال الحرف لأكثر من معنى أمرٌ وارد، بل لعل في الاختلاف خيرًا؛ إذ فيه معنًى مفيد، وحُكمٌ جديد.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحميل كتاب ثورات الربيع العربي ؛ مقارنة بالثورات العالمية pdf
المجملات النافعات في مسائل العلم والتقليد والإفتاء والاختلافات الثالث: التقليد