مبايعة النبي على السمع والطاعة


مبايعة النبي على السمع والطاعة

 

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن تقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم؛ رواه البخاري وغيره.

 

وأخرج أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم فقد تودع منهم، ولقد كان سلفنا الصالح الكرام لهم مواقفُ عظيمة شريفة ونوادرُ طريفة وقصص غريبة وحكايات عجيبة، دالة على صدق إيمانهم وقوة يقينهم وشدة ورعهم، فكانوا لا يخشون في الله لومة لائم، أو كلمة مداهن، أو فرية، أو قوة ظالم، بل يجاهرون بالحق بكل صراحة، وينطقون بالصدق وإن غضب الخلق، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في أشد المواقف وأحرجها.

 

وإليك ما كان من موقف الصحابي الجريء أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مع مروان بن الحكم والي معاوية بن أبي سفيان، فمن السنة المأثورة والطريقة المعروفة من فعله صلى الله عليه وسلم: إذا خرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم بتقوى الله، ويأمرهم بحلال الله وينهاهم عن حرامه، ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في عيد الأضحى أو الفطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت التابعي الكبير والمولود في الزمن النبوي.

 

فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، وفيه مخالفة للسنة الصحيحة، والعمل المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجذَبت بثوبه؛ ليبدأ بالصلاة قبل الخطبة، فجذبني فارتفع على المنبر فخطب قبل الصلاة، فقلت له ولأصحابه: غيرتُم والله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، فإنهم كانوا يقدمون الصلاة على الخطبة في العيدين، فقال مروان: يا أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم من تقديم الصلاة على الخطبة في العيدين، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم؛ لأن الذي أعلم طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا باتباعه والتأسي به: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]، فقال مروان معتذرًا عن ترك السنة: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة، فتأمل هذا الموقف المشرف الذي وقفه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وكيف جذب مروان بثوبه، وقال له غيرتم: والله ولم يَخَفْ صولة الإمارة وجاه الحكم، وجاهر بالحق، وأنكر البدعة وأمر بالسنة على رؤوس الأشهاد من الناس، فحفظه الله ونصَره وأيَّده وأعزَّه، وصدق الله حيث قال: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40]، وقال جل وعلا: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾ [محمد: 7].

 

ورُوي أن ضبة بن محصن العنزي قال: كان علينا أبو موسى الأشعري أميرًا بالبصرة، فكان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشأ يدعو لعمر رضي الله عنه قال: فغاظني ذلك فقمت إليه، فقلت: أين أنت من صاحبه تفضله عليه فصنع ذلك جمعًا.

 

ثم كتب إلى عمر يشكوني يقول: إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض في خطبتي، فكتب إليه عمر: أن أشخصه إليَّ، فأشخصني إليه فقدمت فضربتُ عليه الباب، فقال: من أنت فقلت: أنا ضبة، فقال: لا مرحبًا ولا أهلًا، قلت: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي، ولا مال، فبما استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنبٍ أذنبته، ولا شيء آتيته، فقال: ما الذي شجر بينك وبين عاملي، قال: قلت: الآن أخبرك به، أنه كان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم أنشأ يدعو لك، فغاظني ذلك منه، فقمت إليه فقلت له: أين أنت من صاحبه، تفضله عليه، فصنع ذلك جمعًا.

 

ثم كتب إليك يشكوني، قال: فاندفع رضي الله عنه باكيًا، وهو يقول: أنت والله أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك؟ قال: فقلت: غفر الله لك، قال: ثم اندفع باكيًا، وهو يقول: والله لليلة من أبي بكر ويوم، خير من عمر وآل عمر.

 

وبعث الحجاج الظالم المشهور إلى الحسن، فلما دخل عليه، قال: أنت الذي تقول: قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدرهم والدينار، قال: نعم، قال: ما حملك على هذا؟ قال: ما أخذ الله على العلماء من المواثيق ﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ [آل عمران: 187]، قال: يا حسن، أمسِك عليك لسانك، وإياك أن يبلغني عنك ما أكره، فافرُق بين رأسيك وجسدك، نعوذ بالله من الظلمة وأعوان الظلمة من أمثال الحجاج.

 

شعرًا:




الظلم نارٌ فلا تَحقر صغيرته
لعل جذوةَ نار أَحرقت بلدَا

ثم تطاوَل الزمن ومضت فترة منه، فاندرس هذا الواجب وعفت أثاره، وامَّحت معالمه وانطوت أخباره، وداهن الناس بعضهم بعضًا، وجبُن الناس عن المصارحة للولاة في المخالفات إلا نوادر مرُّوا خلال القرون الأولى، أما نحن فصارت شجاعتنا وصلابتنا وإنكاراتنا حول ما يتعلق بالدنيا، أما ما يتعلق بالدين فليس عندنا من الإنكار إلا التلاوم فيما بيننا إذا أمِن بعضنا من بعض، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

قال ابن القيم رحمه الله:


 

وقد قيل: إن المنكرات أشبه بجراثيم الأمراض في تنقُّلها وانتشارها، والتأثر بها بإذن الله، فإن وجدت كفاحًا يحجر عليها في مكانها حتى يقتلها ويبيدها، سلم منها موضعها، وسلم منها ما وراءه، وإذا لم تجد كفاحًا وتُركت وشأنها اتَّسعت دائرتها، وتفشَّت في جميع الأرجاء، وقضت على عناصر الحياة، وعرضتها للفناء والدمار.

 

ومن هنا كان أثر المنكرات غير خاص بمرتكبيها، وكان الساكتون عليها عاملين على نشرها وإذعانها، وبهذا الموقف السلبي يكونون أهلًا لحلول العقاب بهم، وإصابتهم بما يصاب به المباشرون لها.

 

ومما يدل على هذا قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾ [الأنفال: 25]، وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد في آخر رسالة له تتضمن الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قفا نبكِ على رسوم علوم الدين والإسلام الذي بدأ يرتحل من بلاده، ولكن يا للأسف على منام القلوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على للإسلام بما لا حقيقة له.

 

لقد انطمس المعنى وذهب اللبُّ، وما بقي إلا قشورٌ ورسوم، اكتفى كثيرون من الإسلام بمجرد الانتساب إليه بدون أن يعلموا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم، بذكر فضله وعظمته، وإيضاح أسراره وحِكمه، وغرس العقيدة الحقة في قلوبهم، فهذا واجب المسلمين بعضهم لبعض، كلٌّ على قدر استطاعته ومقدرته؛ ا. هـ.

 

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر: «أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام أن أقلب مدينة كذا وكذا بأهلها، قال: يا رب إن فيهم فلانًا لم يَعصك طرفة عين، قال: فقال: أقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعَّر فيَّ ساعة قط».

 

وذكر الإمام أحمد عن مالك بن دينار قال: كان حبرٌ من أحبار بني إسرائيل يغشى منزله الرجال والنساء، فيعظهم ويذكِّرهم بأيام الله، فرأى بعض بنيه يغمز النساء في يوم، فقال: مهلًا يا بني، فسقط من سريره، فانقطع نخاعه، وأُسقطت امرأته، وقُتل بنوه، فأوحى الله إلى نبيهم أن أخبر فلانًا الحبر: أني لا أُخرج من صلبك صدِّيقًا أبدًا ما كان غضبك إلا أن قلت: مهلًا يا بني، إذا فهِمت ذلك، فاعلم أن الانتقام إذا وقع ليس هو أخذًا للبريء بجريمة المذنب كما يظن البعض، وإنما هو أخذًا للمذنب بجريمة ذنبه، فالذنب ذنبان: ذنب يصدر عن شخص، وهو الفعل نفسه، وذنب يصدر عمن يعلم هذا الذنب وهو يقدر على مكافحته، ثم هو يبعد نفسه عن مكافحة هذا الذنب طمعًا في مال أو مكانة، وبذلك يكون شريكًا في العمل على نشره؛ ا. هـ.

 

وفي السنن أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حكم بكفر أهل مسجد بالكوفة، قال: واحد إنما مسيلمة على حق فيما قال، وسكت الباقون، فأفتى بكفرهم جميعًا؛ ا. هـ من الدرر السنية.

 

قلت: لأن الواجب عليهم أن يكذِّبوه، ويقولوا له: كذبت، بل هو على باطل، فالساكت شريك الفاعل لقدرته على الإنكار باللسان.

 

وقال سفيان: إذا أمرت بالمعروف شددتَ ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق.

شعرًا:




لا يُدرك المجد إلا مخلص ورعٌ
يراقِب الله في سرٍّ وإعلانِ
وليس تأخُذه في الله لائمةٌ
إذا رأى منكرًا في بيت إنسانِ

 

اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين، وعبادك الصالحين الذين أهَّلتهم لخدمتك، وجعلتهم آمرين بالمعروف فاعلين له، وناهين عن المنكر، ومُجتنبين له، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع مرضى المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
صورة مشرقة لمدرس لغة أجنبية
ضوابط قبول الزوج المعدد (1)