مذكرات عصفور… كتاب من طفولتي يعيد ذاكرة فقدتها بالحرب واللجوء


شُغفت بالقراءة كطفل، إلا أن أغلب ما احتوت عليه مكتبة والديّ كان كُتباً وروايات مملّة للكبار، فكنت أقرأ العناوين وأزفر بإحباط عندما لا أجد ما أستطيع قراءته.

ذات مرة، لاحظت أمي غيظي وناولتني كتاباً من مكتبتها ونصحتني بأن أقرأه. خلا الغلاف من أي رسوم أو معلومات ما عدا عنواناً خفيفاً ومقدمة مقتضبة: “جورج قس، مذكرات عصفور، مجموعة قصص قصيرة للأطفال”.

احتوى الكتاب حوالى عشرين قصة تشبه قصص كليلة ودمنة، بشخصيات حيوانية تعكس صفات إنسانية كالطمع والغرور والطيبة والخداع والخيانة والقسوة والتنمر والسذاجة والغباء وصراع الخير مع الشر والظلم والسجن والحرية.

إلا أن ما لفتني فيه هو النهاية الحزينة لجميع قصص الكتاب دون استثناء، وقد راقني ذلك كطفل.

لم يتعمد الكاتب، كعادة كتاب الأطفال، السخرية من عقولهم، ولم يعتبرني ساذجاً ويلون العالم بألوان زاهية كاذبة، بل نقل لي حزن العالم كطفل بأكبر قدر من الواقعية… الكبير يأكل الصغير، الغني يأكل الفقير، القوي يأكل الضعيف. كان الكتاب يقول بوضوح إن الشر ينتصر، وإن هذا قاس للغاية، لكنه الواقع.

لم يعتبرني الكاتب ساذجاً ولم يلون العالم بألوان زاهية كاذبة، بل نقل لي حزن العالم كطفل بأكبر قدر من الواقعية…

كلاجئ جديد في برد كندا، داهمتني نوبات حنين قارسة لذكريات الطفولة، وتحديداً، تلك التي أشعرتني بالدفء يوماً.

كان كتاب مذكرات عصفور، مما طغى على سطح ذاكرتي بفعل زوابع الحنين تلك. سألت والدتي عن الكتاب فأخبرتني أنّ توم قس، الفنان التشكيلي الذي رسم لوحات الكتاب، وشقيق الكاتب، كان صديقاً لوالدي في جامعة حلب. حاولت البحث عن توم قس على محرك البحث غوغل، إلا أنه فشل في إيجاد شيء غير توم وجيري.

أخذت أبحثُ عن الكتاب في كل مكان على شبكة الإنترنت. لم يسفر البحث على محرك البحث غوغل عن شيء سوى كتاب أطفال يحمل ذات الاسم، لمؤلف آخر وبعض أغنيات لجورج وسوف.

وجدت صفحة وحيدة تُفيد باقتضاب أن ذاك الكتاب هو من منشورات وزارة الثقافة في دمشق وهو صادر عام 1978. بحثت في عدة متاجر كتب عربية أعرفها، إلا أنني لم أتوقع أن يكون أيّ منها بهذا الحماس ليتملك نُسخة من مجموعة قصصية لكاتب مغمور من منشورات وزارة الثقافة في سوريا. طلبت من صديق لي في دمشق أن يسأل بعض المكتبات فلم يتذكر عنوانه أحد.

كان الأمر محبطاً. زاد إحساسي باستحالة إيجاد الكتاب من رغبتي في إيجاده. حاولت تذكر القصص على سبيل استعادة ما أمكن قبل أن يتسرب من شقوق ذاكرتي. كانت القصة الأولى في الكتاب تتحدث عن قط وفأر وناموسة. كانت الناموسة دوقة غنية تُريد الزواج، ليفضي طمع عرسانها القط والفأر بهم إلى الموت بعد أن تمتص دماءهم. كانت هناك قصة أخرى تتحدث عن الملكة البومة التي تحكم قوم الجراد وتطلب منهم أضحيات يومية، وقصة أخرى عن طائر اللقلق، الذي يسمى مالك الحزين، وعن عُصفورة أم تتبنى بيضة ثعبان يلتهمها بعد أن ربّته ليكبر. سُررت لأن ذاكرتي احتفظت بكم لا بأس به من الكتاب. تذكرت أيضاً بعض الصور المرسومة تحت عناوين القصص، وأخذت أصفها بشوق لليلى زوجتي وأروي لها القصص واحدة تلو الأخرى. كانت ليلى تصغي باهتمام وتسألني عن التفاصيل وتقترح طرقاً للبحث عن الكتاب، إلا أننا فشلنا في إيجاده في كل مرة.

انتهى الأمر إلى الاستسلام للأمر الواقع، والاكتفاء بما توفر من ذكريات مسلسلات الأطفال على اليوتيوب، وما استطعت استعادته من صور فوتوغرافية وجدتها أمي لدى أقربائنا.

أحسست أنني أستعيد جزءاً من ذاتي كاد أن يُمحى. جزءاً لم تشوهه الحرب ولم تلطخه الدماء ولم يقتل أوينهب أو يظلم.

ذات يوم، أرسلت لي ليلى ملف “بي دي إف” في محادثتنا الإلكترونية، ليطالعني عنوان الكتاب. توقف قلبي للحظات وأنا أحدق في الكتاب وفي ليلى، لأسألها في النهاية: “كيف؟؟”

تجيب: “أخبرت والدي أنك تبحث عنه واقترح أن يسأل بعض معارفه في وزارة الثقافة. تطلب الأمر بعض البحث في الأرشيف إلا أنه وجده واستطاع تصويره بالكامل”.

أخذت أُمرر الصفحات بسرعة، طالعتني صورة القصة الأولى عن الناموسة وعنوانها “إعلان زواج”.

مساء ذاك اليوم، أعددت كوباً من الشوكولاتة الساخنة طلباً للمزيد من الدفء، وغرقت أخيراً في الكتاب. قرأت أولاً قصة الناموسة، كان هناك أيضاً صرصار- عريس ثالث، ثم قرأت قصة البومة وأدهشني أنني استطعت تذكر أول قصتين بالترتيب الصحيح.

توالت القصص. قصة الملك الأسد الظالم الذي تهجره كل الحيوانات حتى وزيراه الضبع والذئب، اللذان خشيا أخيراً تحويلهما لرعيّة والتهامهما بدورهما، لتنتهي القصة بجنون الأسد وركضه ضاحكاً في أنحاء الغابة. الثعلب الذي أراد مساعدة الحيوانات ومنحهم حبوباً للذكاء فرفضها الجميع لأنهم أذكياء ولا يحتاجونها. الضفدع المغرور الذي اعتقد أن صوته ذهبي حتى أصبح وجبة عسرة الهضم للقلق عابر. الحمار الذي هرب بسرج مليء بالمال أنفقه لنيل لقب الكريم ابن الكريم، قبل أن يأكله الأسد ملك الغابة عند إفلاسه.

غريب كيف تهتاج مشاعرنا وتختلط. لم أكن حزيناً، ولكن دموعي انهمرت تلقائياً. أحسست أنني أستعيد جزءاً من ذاتي كاد أن يُمحى. جزءاً لم تشوهه الحرب ولم تلطخه الدماء ولم يقتل أوينهب أو يظلم. استعدت التفاصيل التي ارتبطت بقراءتها، والمشاعر التي اختزنتها في تلك الكلمات والصور والصفحات الصفراء التي قرأتها طفلاً. عشاء بقايا الفول المدمس من فطور الصباح مساء يوم الجمعة. الانبطاح على سجاد غرفة المعيشة السميك. تأنيب أمي المستمر لكي لا أُريح قدمي على مدفأة المازوت المشتعلة في وسط الغرفة كي لا أقلبها. قشعريرة الخوف من الاستيقاظ مبكراً للمدرسة في برد كانون. لذة اختلاس صفحتين أخريين من الكتاب بينما أرتدي صدرية المدرسة الكئيبة وأرتشف كوب الشوكولاتة الساخنة مع الحليب. اختزنت تلك الصفحات حتى لون أضواء النيون البيضاء وامتزاجها مع أخيلة النار البرتقالية المنعكسة من زُجاج المدفأة المستدير الملطخ دائماً.

ربما كان حتى مجرد كتاب دوري من كتب وزارة الثقافة الطليعية الهادفة، إلّا أنه انتهى لأن يكون مذكرة شخصية ودليلاً مادياً على تاريخ لاماديّ فقدت أغلبه بفعل الحرب واللجوء

تحكي القصة الأخيرة، التي حملت عنوان الكتاب، قصة عصفور وقع في القفص، ليكتب مذكراته عن حريته وعائلته قبل أن يموت مضرباً عن الطعام والشراب. أشعرتني مذكرات العصفور في قفصه بحزن لا يطاق كطفل، أما الآن، فلم تبد أكثر حزناً من ذكرياتي الحقيقية.

أنهيت قراءة القصة وأغلقت الكتاب وخرجت لأعانق ليلى ممتناً، وأحكي لها القصص مرة أخرى، بدقة أكبر هذه المرة، مصحوباً بزخم أكبر من الذكريات.

ربما كان كتاباً عادياً كئيباً، وربما كان حتى مجرد كتاب دوري من كتب وزارة الثقافة الطليعية الهادفة، إلّا أنه انتهى لأن يكون مذكرة شخصية ودليلاً مادياً على تاريخ لاماديّ فقدت أغلبه بفعل الحرب واللجوء.



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الوقوف المحرمة في القرآن الكريم لمحمد توفيق محمد حديد
{ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم…}