معايشة النصر والفرج قبل وقوعه منهج نبوي (خطبة)


معايشة النصر والفرج قبل وقوعه منهج نبوي

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي كتب على عباده الإيمان والعمل الصالح، وجعل الصبر والتوكل على الله مفتاح الفلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد المتفائلين وقدوة العاملين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي المقصرة أولًا بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأوَّلين والآخرين ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].

 

عباد الله، حديثنا اليوم عن قضية عظيمة تهمُّ كل إنسان يسعى للنجاح والتغيير والنصر والتمكين والفوز في الدنيا والآخرة، وهذا مفهوم إسلامي عظيم يعزز اليقين والتفاؤل، ويرسخ الإيمان بوعد الله وصدق موعوده مهما كانت التحديات والصعاب والابتلاءات.

 

إن المؤمن يعيش بثقته بالله وتوكُّله عليه، متفائلًا بما وعده الله به، ومتيقنًا أن العاقبة للمتقين، حتى لو كانت الظروف المحيطة حالكةً أو العقبات كبيرة. ومن خلال قصص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، نتعلَّم كيف عاشوا النجاح قبل أن يتحقق، وكيف ثبتوا على الإيمان حتى جاء النصر من عند الله. إن كثيرًا من أبناء الأمة اليوم ينهزمون قبل انتهاء المعركة ويفشلون قبل انتهاء الجهد، وييأسون في وسط الطريق، وهذه الأمور ليست من سمات المسلم الحق والمؤمن الصادق الواثق بربِّه المتوكل عليه.

 

عباد الله، في غزوة الخندق، كان المشهد شديدًا وصعبًا على المسلمين؛ حيث تجَمَّع الأحزاب من كل مكان يريدون القضاء على الإسلام، كان المسلمون في حال من الجوع والخوف والحصار، حتى قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ [الأحزاب: 10].

 

في هذا الموقف العصيب، بينما يحفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق مع أصحابه، اعترضتهم صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول، وضربها قائلًا: “بسم الله”، وفي أول ضربة قال: “الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشام!”، ثم ضرب الثانية وقال: “الله أكبر، فُتحت فارس!”، ثم ضرب الثالثة وقال: “الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح اليمن!”.

 

تأملوا أيها الأحبة في وقت الحصار والجوع والخوف، يبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتح أعظم ممالك الأرض، هذا هو الإيمان بالله، واليقين بنصره. وفي موقف آخر يعزز هذا اليقين، كان النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة إلى المدينة، وقد خرج سراقة بن مالك في أثره طمعًا في المكافأة، فلما أدرك النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام، وقال له: “كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟”، سراقة، وهو مشرك في ذلك الوقت، يستمع إلى هذا الوعد الغريب. كسرى أعظم ملوك الأرض آنذاك، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يرى هذا المستقبل المشرق، وتمرُّ الأيام، ويأتي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويُفتح ملك فارس، ويُلبس سراقة سواري كسرى، أي يقين هذا؟! وأي ثقة بالله؟!

 

أيها المؤمنون، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أُريت في المنام أن أصحابي يركبون البحر كالملوك على الأسرة”؛ [رواه البخاري].

 

هذا الحديث كان في مكة قبل أن يكون للمسلمين قوة أو جيش. ومع ذلك بشَّر النبي أصحابه أنهم سيغزون البحر، وكان أول من حقق هذا الوعد الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ومن كلماته المشرقة صلى الله عليه وسلم، قوله: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل”؛ [رواه أحمد].

 

لقد كان هذا الوعد في زمن بدا فيه الإسلام محاصرًا، ومع ذلك عاش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا اليقين، فعملوا وبذلوا حتى انتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وأيضًا ما أخرجه البخاري من حديث خباب بن الأرَتِّ رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”. وقد تحقق هذا الوعد، حيث عَمَّ الأمن والأمان في زمن الخلفاء الراشدين، وأصبحت الطرق آمنة بفضل من الله وتطبيق شريعته.

 

أيها الإخوة، القرآن الكريم مليء بالقصص التي تعزز مفهوم معايشة النجاح والنصر والفرج ووقوعه، فهذا يوسف عليه السلام عاش يقين النجاح وهو في السجن، وقال لصاحبيه: ﴿ يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ﴾ [يوسف: 41]، وكان يعلم أن الله سيخرجه من السجن، وأن رؤياه ستتحقق، وهذا موسى عليه السلام حينما أدركه فرعون وجنوده عند البحر، قال قومه: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، فرَدَّ موسى بكل ثقة: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].

 

أيها المسلمون، إياكم واليأس، إياكم والهزيمة والاستلام، عيشوا النجاح والنصر والتمكين حتى قبل وقوعه؛ لأنه محقق لا محالة، والله لا يخلف وعده.

 

قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلامًا على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

عباد الله، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الغار: “يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا”، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟”، قال ابن القيم رحمه الله: “إذا أوصدت الأبواب في وجهك، فتذكَّر أن الله قد يفتح لك بابًا لم يخطر على بالك”.

 

أيها المسلمون، علينا أن نثق بوعد الله، وأن نعمل على تحقيق الأهداف التي رسمها لنا الإسلام، فمعايشة النجاح والنصر تعني أن نخطط، ونسعى، ونعمل بجد، ونتوكَّل على الله، ونبذل من الأسباب ما استطعنا، وعلينا الصبر عند الأزمات، فكل عقبة هي جزء من طريق النجاح، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 6]، وعلى المسلم كذلك أن يتفاءل ولا ييأس ولا ينهزم أو يستسلم فهو في كن الله ورحمته وملكه، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 87].

 

عباد الله، علينا أن نزرع الأمل في الآخرين، فالتفاؤل والإيجابية تنتقل إلى من حولنا، فتكون سببًا في تحفيزهم للعمل والنجاح.

 

أيها الإخوة المؤمنون، لنكن من المؤمنين بوعد الله، العاملين على تحقيقه، ولنعيش بروح الأمل والتفاؤل، موقنين أن الفرج قريب، وأن النصر مع الصبر، واليسر مع العسر.

 

عباد الله، في ظلِّ ما يجري من أحداث جسام على ثرى الأرض المباركة فلسطين وغزة، وهي على شدتها تمثل إرهاصات لقرب تحقق وعد الله ونصره على الصهاينة المحتلين والمعتدين؛ ففي معركة اليوم الجارية سقط صنم الدولة الصهيونية وتهشمت صورة جيشها، وأساء وجهها طائفة مؤمنة صدق فيهم وصف الله تعالى ﴿ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ﴾ [الإسراء: 5].

 

نسأل الله أن يرزقنا الثقة به، والعمل لنصر دينه، وأن يجعلنا من المتفائلين بنصره الموقنين بوعده.

 

ثم اعلموا أن الله تبارك وتعالى قال قولًا كريمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وارض اللهم عن بقية الصحابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمَنِّك وفضلك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودَمِّر أعداءك أعداء الدين، وأعل كلمتك العليا إلى يوم الدين، وانصر عبادك المجاهدين في فلسطين وغزة وفي كل مكان، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين، والحمد لله رب العالمين.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
حسرات المجرمين والظالمين يوم القيامة (خطبة)
Book Review ‘Targeted: Beirut’ by Jack Carr and James M. Scott – LSE