مع أستاذي أبي هاشم عز الدين البدوي النجار
مع أستاذي أبي هاشم عز الدين البدوي النجار
(1366- 1441هـ/ 1947- 2020م)
كان أستاذنا العلَّامة أبو هاشم نسيجَ وحدِه في كلِّ شيء:
في تمكُّنه من علوم العربية، وبصَره باللغة والشعر القديم.
وفي بيانه البليغ العالي؛ مَنطوقًا بلسانه، ومَرصوفًا ببَنانه.
وفي رقَّة قلبه ورهافة حسِّه، وفي غرابة طبعه وتقلُّب مِزاجه، وفي سَورة غضبه وحدَّة لسانه.
● كان يرِقُّ ويلطُف حتى تظنَّه ماءً عذبًا زُلالًا.
ويغضب ويتغيَّظ حتى تظنَّه حِممَ بُركان هائج.
● سألت عنه قديمًا أستاذنا العلَّامة محمد أحمد الدالي[1] رحمه الله فقال:
(لا أعرفُ اليومَ من هو أبصَرُ منه بالعربية والشعر القديم).
● وسمعت من أستاذنا العلَّامة شاكر الفحَّام رئيس مَجمَع اللغة العربية بدمشق:
أنه لقي الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد في مؤتمر بالكويت، فسأله عن شيخ العربية أحمد راتب النفَّاخ، ما باله يضَنُّ بإخراج علمه ونشر آثاره؟ حتى بات ينشر مقالاته أخيرًا بأسماءٍ وهمية مستعارة!
فاستغرب الفحَّام قوله، وأنكر أن يكون هذا من النفاخ، فما حاجتُه إلى النشر باسم مستعار؟! فأخبره الأسد أنه قرأ نقدًا عاليًا لديوان عَدِيِّ بن الرِّقاع العامِلي في مجلة المَجمَع الدمشقي، نشره النفاخ باسم مستعار.
فضحك الفحَّام وقال: صاحبُ هذا النقد ليس النفاخ، ولكنَّه أحدُ أصحابه وحَواريِّيه أخونا الأستاذ فلان.
فتملَّك العجَبُ ناصرَ الدين وقال: تقصد أن رجلًا غير النفاخ كتب ما كتب؟!
والله ما كنت أظنُّ أن على وجه الأرض من يكتب هذا إلا النفاخ!
وكان فلان ذاك هو أستاذنا أبا هاشم عز الدين البدوي النجار.
● وقد أخبرني هو نفسُه – أعني أستاذي أبا هاشم – أنه زار يومًا شيخَه العلَّامة أبا فهر محمود محمد شاكر في داره بالقاهرة، غِبَّ صدور نقده نشرةَ ديوان عَدِي بن الرِّقاع، ففرح به الشيخُ وأخذ بيده وقال هلمَّ أُرِكَ ما أفعل، وإذا به ينقل نقَدات تلميذه من المقال إلى هامش نسخته من الديوان، وقال له: (كنت طلبت من الحُمار فِهر أن ينقل تصحيحاتك إلى نسختي، بسِّ ما فعَلْش)!
● ومن المواقف الطريفة التي حدَّثني عنها:
أنه دخل يومًا على أستاذه أبي فهر فألفاه وصاحبَه العلامة محمود الطناحي متحيِّرَين في قراءة موضع من مخطوطة كتاب “طبقات الشافعية الكبرى” لابن السُّبكي، الذي كان يعمل الطناحي على تحقيقه، شمَسَت العبارة عليه فلجأ إلى شيخه أبي فهر مستعينًا ببصيرته، ولكنَّ الموضع استعصى على الشيخ أيضًا، ولم يهتدِ إلى صواب القراءة!
والعبارة في هذا الموضع الوعر جاءت نثرًا على هذا النحو: (بربن جبلة بن أبي عدي مثل سانه علو يجتمع)!
فطلب شاكر إلى تلميذه عز الدين أن يُدليَ بدلوه فيما اعتاصَ عليهما، فأخذ الورقة المخطوطة ونظر فيها نظرةً، ثم لم يلبث أن قال: صوابُ العبارة بيتٌ من الشعر:
(ترَكتُ جُبَيلةَ بنَ أبي عَدِيٍّ / يَبُلُّ ثيابَهُ عَلَقٌ نَجِيعُ).
فصرخ أبو فهر فرِحًا: (أحسنت، دَا انْتَ عظيم يا عز!).
وقال الطناحي طرِبًا: (والله هاكتُبها).
وكتبها في حاشية الكتاب 10/ 422 بتحقيقه مع عبد الفتاح الحلو.
قال في الهامش: (جاء هذا البيتُ في الأصول كلامًا منثورًا، محرَّفًا تحريفًا منكرًا، على هذا النحو… وقد كشفه وردَّه إلى صوابه صديقُنا العالم السوري الشابُّ الأستاذ عز الدين البدوي النجار، زاده الله علمًا وفقهًا وبصرًا).
● وكنت في أول لقاء لي بأستاذنا البدوي النجار عام 1993م وقد حدَّثني عن صلته الوثيقة بأبي فهر، وانتفاعه بعلمه، وتأثُّره بشخصيَّته= سألته كم سنةً لزمتَ الشيخ؟
فأجابني: 110 سنين.
ولمَّا رأى أَمارة الاستغراب على وجهي، قال: السَّنةُ في ذَرا (بفتح الذال) محمود شاكر تعدل عشر سنين!
يعني أنه لزمه إحدى عشرة سنة.
● ولعلَّ سائلًا يسأل: لمَ أغفل كثيرٌ ممَّن كتب عن الشيخ محمود شاكر ذِكرَ أبي هاشم فيمَن تخرَّج بشيخهم العلَّامة ولزم مجالسه؟
وأقول: يبدو لي مَردُّ ذلك إلى أن الأستاذ عز الدين كان يغلب عليه الصمتُ والتأمُّل في مجالس شيوخه، ومن هنا أن غاب عن كثير من مُرتادي مجالس الشيخ أبي فهر مكانةُ الرجل وبصيرتُه بالعربية، فأهملوا ذكره.
● وكان حدَّثني أستاذي النبيل محمد حسان الطيَّان أنه وزملاءه من أصحاب العلَّامة النفاخ، كانوا يَعْجَبون لأبي هاشم قبل أن يعرفوه، مستغربين التزامَه الصَّمتَ والغموض في مجالس شيخهم! حتى ظنُّوه رجلًا عاميًّا محبًّا للنفاخ وحريصًا على مجالسه، ولكن لا ناقةَ له في العلم ولا جمل.
حتى خاض النفاخ يومًا في مسألة شائكة من مسائل العربية، فإذا به يلتفتُ إلى أبي هاشم يسأله رأيه فيها، فخرج الرجلُ عن صمته، وتدفَّق بجواب علمي مُسهَب دقيق، ببيان عالٍ مُعجِب، شُدِهَ له الحاضرون!
ومن يومئذٍ علم أهلُ المجلس أيَّ رجل هو، وأيَّ علم ينطوي عليه صدرُه!
● ولمَّا كتبتُ عن شيخ أدباء العربية مصطفى صادق الرافعي، وكتابه “على السَّفُّود”،[2] عرَّجتُ على نشرة الكتاب الدمشقية الصادرة عن دار البشائر، قائلًا:
ممَّا امتازت به الطبعةُ الدمشقية التصديرُ البديعُ الذي كتبه العلَّامة الدكتور عز الدين البدوي النجَّار عضوُ مجمَع اللغة العربية بدمشق، وهو أحد عُمُد المدرسة الرافعية الأصيلة، ومن أصفياء شيخ العربية محمود محمد شاكر والآخذين عنه.
وقد بلغَ تصديرُه خمسًا وخمسين صفحة، صاغها بقلمٍ مِفَنٍّ صَناع، وبنمط رافعيٍّ أسلوبًا ومضمونًا، كشفَ فيها كشفًا دقيقًا عن مُلابسات الصراع الأدبي بين الرافعي والعقَّاد، واضعًا ذلك في سياقه التاريخيِّ الصحيح؛ نافذًا إلى أعماق الرجُلَين، مُحلِّلًا لنفس كلٍّ منهما ولانتحاءات فكره التي أدَّت إلى ما عَرَفنا من خصام شديد بينهما.
وانتهى الدكتور إلى أن كلًّا من الرجُلَين عبقريَّةٌ عظيمةٌ في تاريخ أدبنا العربي، لها سماؤها وأفُقُها العالي، وأن كتابَ “السفُّود” فصلٌ من فصول الأدب والنقد الحديث، لا بدَّ للدارس والمؤرِّخ منه، وقد رَجَعَ بعد تناسُخ الأيام من دونه كتابًا للتاريخ وحدَه، يحكُم له أو عليه، وما كان كذلك لم يكُن لغير الفنِّ الخالص، أو العلم الخالص، حظٌّ يَخلُدُ به أو يَبِيدُ.
● وكان من جميل صُنع الله بي أن خصَّني الأستاذُ بمجلس أسبوعي مساء كل خميس، في بيته الدمشقي العتيق بحيِّ العَمارة، استمرَّ أكثر من سنة، وكان يتردَّد إليه بين حين وآخر جارُه بيتَ بيت، أخونا الشيخ الحافظ الجامع المتقن وئام بدر وفقه الله.
وسمعتُ منه في مجالسنا تلك ورأيتُ ذكاءً وعلمًا، وبيانًا وفهمًا، وبصيرة نافذة، وعبارة محلِّقة، وأحوالًا غريبة عجيبة، وآراءً نافرة، وأحكامًا منفِّرة!
● ومن غريب ما كان يُكثر تردادَه: (أن الطناحي هَبَجَ هَبْجةً من علم محمود شاكر، وأن الدالي هَبَجَ هَبْجةً من علم النفاخ، أما هو فأخذ عقل شاكر وعقل النفاخ)!
وأمعن مرَّة في الإغراب بالطعن على علَمٍ من أعلام أساتذتنا الجِلَّة؛ من الذين انتفعنا بعلمهم، ونعِمْنا بفضلهم، وأنِسْنا بسماحة أخلاقهم. وصفَه بما ليس فيه من صفات الجرح والقدح!
وساءني قوله، لكني لزمت الصمتَ خشية غضبه، وأبى إلا أن يسمعَ رأيي في قوله، فأجبتُ بكلام ليِّن لا أواطِئُه فيه، وأرجو به رضاه، فما رضي منِّي ولا قَبِل!
وما فتئ يضيِّق عليَّ الخِناقَ ليسمع منِّي ما يحبُّ من الغمز في أستاذي، فما بلَّغته مُناه، ولا جنَحتُ عن يقين ما في نفسي مداراةً له. فإذا به ينفجر سُخطًا وغضبًا، ويصرخ بي صرَخات مدوِّية؛ نَهْرًا وكَهْرًا! حتى إن الفتى هاشمًا أسرع إلينا هلِعًا فزِعًا يستطلع الخبر؛ وقد اصفرَّ وجهه، وارتعدت فرائصُه، واصطكَّت رجلاه.
ولُذتُ بالصمت، لم أنبِس بحرف، وخرجتُ من داره عازمًا على ألا أعود!
وتقضَّت شهورٌ وأنا مقاطعٌ لمجلسه، هاجرٌ لوصله، حتى كانت جنازةُ شيخ من شيوخ الشام خرجتُ في تشييعها مع الخارجين، فلمَحتُ فيها أبا هاشم من بعيد، فحاذَرتُ أن يراني، ولكن ما هي إلا دقائقُ وإذا بيدٍ تربِّتُ كتفي من خلفي، والتفتُّ فإذا به هو بلحمه وشحمه، وقد مدَّ إليَّ يده بلهفة المشتاق، وعيناه تنطِقان بها قبل لسانه.
وسألني بلهجة وَدُودٍ تقطُر رقَّةً وحنانًا: كيف حالك يا أبا أحمد؟ اشتقت إليك، زُرني.
وألجمَ حالُه لساني، فلم أملك إلا أن أهزَّ رأسي.
وفي أَصِيل اليوم التالي كنت أقرعُ باب داره، وتلقَّاني على العهد به مرحِّبًا مغتبِطًا، وكأنَّ ما كان لم يكن.
● وبعدُ، فإن آفاقَ الكتابة عن أبي هاشم فسيحةٌ رحبة، وأرى أن أختمَ منشوري هذا بذكر خَصلتَين كريمتَين من شمائل الأستاذ:
أُولاهما: أنه على عُنفوان إبائه واعتداده بنفسه كان يُكرم ضِيفانه عظيمَ الإكرام، وكانت له عادةٌ لا يتركها أبدًا، وهي أنه حين يدخل زوَّارُه إلى غرفة الضيوف في داره، كان لا بدَّ أن يخلعوا نعالهم لدى باب الغرفة المفروشة بزَرْبِيَّة تغطِّي أرجاءها، فإذا همُّوا بالخروج سارع الأستاذ إلى أحذيتهم يُديرها إلى جهتهم لتيسير ارتدائها! يفعل هذا مع الكبير والصغير، ومع العالم وطالب العلم والعامِّي!
فإذا أبدى الضيوف الحرجَ من صنيعه، أنشد بيتَ حاتِم الطائي:
وإني لعَبدُ الضَّيفِ ما دامَ ثاويًا / وما فيَّ إلا تلكَ من شِيمةِ العَبدِ
والأُخرى: أنه على شدَّة عبارته وحدَّة لسانه في سَلْق من يخاصم من أهل العلم وغيرهم (بحقٍّ أو بغيره!)، كان إذا نُميَ إليه أن خصمه مريض أو أنه تُوفِّي يكفُّ لسانه عنه البتَّةَ، ولا يذكره بسوء أبدًا، بل يجتهد في الدعاء له بتأثُّر ظاهر.
وكان من هؤلاء شيخٌ فاضل اتهمه الأستاذ بسرقة كتاب له (ولا إخاله كان مصيبًا)! وما كاد يُذكَر الشيخُ في مجلسه حتى يَفْريَ عِرضَه فَرْيًا! وفي إحدى زياراتي له ذُكر ذاك الشيخ، واستشاط أستاذنا غضبًا كعادته، وأطلقَ لسانه في وَصْمه! فقلت له: لقيتُ أمسِ ابنَ الشيخ، وأخبرني أن أباه أصيب بجُلطة دماغية طرحته في الفراش، وبات عاجزًا عن الحركة والكلام، بيدَ أن لسانه بقي رَطبًا بذكر الله على عجزه عمَّا سواه!
وتوقعت أوَّل وَهْلة أن يفرح الأستاذُ ويشمت؛ لِما كنت أعرف من حنَقِه عليه! ولكني فوجئت به وقد انقلبت حاله؛ فخشع بصره ورقَّ صوته، وأخذ يدعو للشيخ دعاءً صادقًا بقلبٍ أسيفٍ كسير، وكأنه يدعو لوليٍّ حميم، ليس بينهما إلا حبٌّ وودٌّ وتكريم!
رحم الله أستاذنا عز الدين، وغفر لنا وله، وتجاوز عنَّا وعنه، وجزاه عن العربية وأهلها خير الجزاء.
سيرته الموجزة
ولد أبو هاشم عز الدين بن أحمد البدوي النجَّار في طرابُلُس الشام بتاريخ 12 ربيع الأول 1366هـ يوافقه 2/ 2/ 1947م، لأسرة دمشقية.
نال شهادة الدراسة الثانوية في دمشق عام 1965م، وحصل على الإجازة باللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق عام 1973م. ثم على شهادة الدكتوراه من جامعة الدراسات الإسلامية في كراتشي (باكستان) عام 1995م، وكان عنوان أطروحته (حماسة أبي تمام- دراسة وتحقيق).
تخرَّج في علوم العربية بالشيخين محمود محمد شاكر، وأحمد راتب النفَّاخ.
عمل في تدريس علوم العربية والأدب والنقد في جامعة بلاد الشام، قسم الدراسات العليا. وشارك في بعض ندَوات مجمع اللغة العربية بدمشق ومؤتمراته، ونشر في مجلَّته، وفي غيرها من المجلَّات العلمية والأدبية، وحقَّق بعض الكتب، واعتنى بغيرها وقدَّم لأُخرى. واختير عضوًا مراسلًا في مجمع دمشق عام 2000م.
توفَّاه الله بدمشق يوم الأحد 5 ذي الحِجَّة 1441هـ يوافقه 26/7/2020م.
ملاحظة: أفدتُّ في كتابة سيرته الموجزة من موقع مجمع اللغة العربية بدمشق، ومن ولده العزيز الأخ هاشم بن عز الدين البدوي النجار، جزاه الله خيرًا.
كتبه
أبو أحمد المَيداني
الرياض 25 من رجب 1443هـ
أبو هاشم عز الدين البدوي النجار ومعه تلميذه كاتب المقالة، وولده أحمد ذو الغنى
بتاريخ 14 ذي الحِجَّة 1423
خط الأستاذ أبي هاشم عز الدين البدوي النجار
من إهداء منه إلى الأستاذ المحقِّق منذر أبو شعر