مفاتيح الرزق (خطبة)


مفاتيحُ الرِّزقِ


الحمد لله العليِّ الأعلى، الذي قدَّر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعاه غُثاءً أحوى، الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، الحمد لله الذي خَلَقَ الزوجين الذكرَ والأنثى، من نطفة إذا تُمنى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبدُالله ورسوله، وخيرتُه من خَلْقِهِ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الذي خلقكم ورزقكم وآتاكم من نِعَمِهِ العظيمة، وآلائه الجسيمة، واختصَّكم بنعمة الإسلام من بين الخلائق؛ فله الحمد والشكر، والثناء والعظمة.

 

يا أهل التوحيد، يا إخوان العقيدة، آلاف الكائنات تعيش بلا خزائن ولا أرصدة في المصارف، ومع ذلك لا تحمل همَّ الرزق في الغد، ولا تخاف من المستقبل؛ لأن الحق جل وعلا قال في محكم التنزيل: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]، ويقول تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22]، ويقول تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الروم: 40].

 

لو اجتمعت الأمة كلها بقضِّها وقضيضها، وعسكرها وجيوشها، على أن يمنعوا عنك رزقًا قد كتبه الله لك، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس: 107]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن روح القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي – أي قلبي – أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها؛ فاتقوا الله، وأجْمِلوا في الطلب))؛ [صحيح الجامع].

 

إن الله جل وعلا كريم معطاء، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء؛ فهو القائل سبحانه: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل: 96]، ويقول جل وعلا في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألتَه، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقُصُ الْمِخْيَطُ إذا أُدخل البحر))؛ [مسلم]، لكنها الحكمة البالغة التي يقصر العقل البشري عن إدراكها في التضييق في الرزق على بعض العباد، وتوسعته على البعض الآخر؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، ولقد سُئِل الحسن البصري عن سرِّ زهده في الدنيا، فذكر أمورًا منها قوله: “وعلمت أن رزقي لا يذهب إلى غيري فاطمأنَّ قلبي”.

 

ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن رجلًا رأى عصفورًا يأتي كل يوم بقطعة لحم، فيضعها على رأس نخلة، ثم يرحل، فتعجب الرجل من هذا العصفور؛ إذ إن العصافير لا تعشعش في النخل، فتسلَّق النخلة، فوجد حيةً عمياء على رأس النخلة، ويأتي هذا العصفور بهذا اللحم، فإذا اقترب منها صوَّت لها، ففتحت فمها، فيُلقيه في فمها ثم يرحل؛ صدق الله إذ يقول: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ [العنكبوت: 60].


 

نعم، رزقُ العبد سيأتيه وقد كُتب له وهو في بطن أمه، فلن يسلُبَه منه أحد، ما على العبد إلا أن يأخذ بالأسباب التي يسَّرها الله له، ويُحسِن الظن بربه، وعليه أن يعلم أن للرزق مفاتيحَ ربانيةً، عليه أن يأخذ بها؛ قُربةً منه سبحانه، فإن من ورائها الجزاءَ العظيم، وقبل ذلك الأثرَ الواضح في الدنيا لمن أخذها بيقين.

 

إن من مفاتيح الرزق: الاستغفار؛ قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 – 12]، وقال الله تعالى عن هود عليه السلام: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [هود: 52]، فأكْثِرْ من الاستغفار، واملأ به وقتك في ليلك ونهارك، فإن رسولكم صلى الله عليه وسلم كان كثيرَ الاستغفار، وهو الذي قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

 

ومن مفاتيح الرزق الدعاء؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل العبد ربَّه حاجته كلها، ولا تنسَ دعاء الدَّين؛ فقد جاء مكاتِب إلى عليٍّ رضي الله عنه فقال: إني عجزت عن مكاتبتي فأعنِّي، قال: ألَا أُعلِّمك كلماتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثلُ جبل صِيرٍ دَينًا أدَّاه الله عنك، قل: ((اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأَغْنِني بفضلك عمن سواك))؛ [حسنه الألباني]، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((ألَا أُعلِّمك كلامًا إذا قلتَه، أذهب الله تعالى همَّك، وقضى عنك دينك؟ قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال))؛ [صحيح الجامع الصغير].

 

ومن مفاتيح الرزق التقوى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].

 

ومن مفاتيح الرزق التوكل على الله؛ وهو اعتماد القلب على الله، وتفويض الأمر إليه، مع الأخذ بالأسباب؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، وقال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 3]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكله، لَرزقكم كما يرزُق الطير؛ تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا))؛ [صحيح الترمذي].

 

إن المتوكلين على الله لا يأكلون إلا الحلال، وأما الذي يأكل الحرام، فهو أبعد ما يكون من التوكل؛ لأنه لو كان متوكلًا على الله حقًّا، لَانْتَظَرَ الرزق من الحلال، وأخذ بالأسباب المباحة، ولَما استعجله بالحرام؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يحملنَّكم استبطاءُ الرزق أن تأخذوه بمعصية الله؛ فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته))؛ [صحيح الترغيب].

 

ومن مفاتيح الرزق المتابعة بين الحج والعمرة؛ لحديث: ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما يَنْفِيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكِير خَبَثَ الحديد والذهب والفضة))؛ [صحيح النسائي].

 

ومن مفاتيح الرزق الإنفاق في سبيل الله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ [سبأ: 39]، وجاء في الحديث: ((اللهم أعْطِ مُنفقًا خَلَفًا))؛ [البخاري ومسلم]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال))؛ [مسلم].

 

ومن مفاتيح الرزق صلة الرحم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسَأ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَه))؛ [البخاري ومسلم].

 

كذلك من مفاتيح الرزق الصدقُ والبيان في جميع المعاملات؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((البيِّعان بالخِيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما))؛ [البخاري ومسلم].

 

ومن مفاتيح الرزق الإحسان إلى الضعفاء؛ ففي الحديث: ((هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم؟))؛ [البخاري]، أمة ترحم ضعفاءها، وتُشفق على فقرائها، أُمَّةٌ مرزوقة محفوظة مرحومة بإذن الله تعالى.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه كان غفارًا.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُالله ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

فمن مفاتيح الرزق الاستقامة على دين الله؛ يقول الله تعالى عن أهل الكتاب: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66]؛ أي: لفاضت عليهم النعمة، ولأتاهم رزقهم رغدًا من كل مكان؛ ويقول الله تعالى عن كفار مكة: ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16]؛ يقول ابن عباس رضي الله عنه: “إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسَعَةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القبر والقلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق”، سبحان الله! بعضهم يشتكي من قلة الرزق، وهو متهاون في أمر الصلاة، أو لديه تفريط في أوامر الله تعالى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]، البيت الذي يصلي أهله بيتٌ مرزوق، وبيت مبارك، وقد يُحرَم العبدُ الرزقَ بالذنوب التي يُصيبها، ولا يغرنَّك من يُعطى الرزق وهو مقيم على المعاصي والذنوب، فهذا استدراج له، وليس علامة رضا الرب عنه، فإنه تأتيه النعمة من ربه، ويقابلها بالمعصية، فما أسوأ فعله! قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]، فإذا استقام المرء على دين الله، وتوكل عليه، رزقه الله من حيث لا يحتسب.

 

شكا رجل إلى أحد الصالحين غلاء الأسعار، فقال: “والله ما أبالي لو أن حبة الشعير بدينار، عليَّ أن أعبده كما أمرني، وهو يرزقني كما وعدني”.

 

وصلوا وسلموا على رسول الله…





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
What's Next by Melissa Fitzgerald, Mary McCormack: 9780593184547 – Penguin Random House
Taylor Swift's 256-Page Eras Tour Book: Everything You Need to Know – Teen Vogue