مقتضيات الجماعة وشرائط وجودها
مقتضيات الجماعة وشرائط وجودها
للجماعة المسلمة التي هي روح الإسلام وخلاصته في المجتمعات البشرية مقتضيات حاضرة بحضور تلك الجماعة في كلّ زمان ومكان، هذه المقتضيات هي ذاتها شرائط وجود الجماعة أو التجمع الإسلامي للدعوة أينما وُجدتْ.
ولا يمكن الإحاطة بتلك المقتضيات أو الشرائط قبل الفهم الشامل لحقيقة “الجماعة”، أو حقيقة “التجمع الدعوي”، أو “رُوح الجماعة المسلمة” في المجتمعات المتغايرة.
فالجماعة تعني انصهارَ الأفراد في قالب جماعي واحد، وهذا الانصهار يعني انسلاخَ الفرد من فرديته والتكيُّف مع قانون الجماعة وأصولها، وهذا ما عبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله) [أخرجه مسلم من حديث النعمان بن بشير، وهو عند البخاري بلفظ مغاير].
فقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون كرجل واحد) يشعر بالانسلاخ من الفردية والانصهار في الجماعة، وليس تحقيق هذا الانصهار في الجماعة شيئًا يسيرًا على النفس البشرية، ولذا امتنّ الله تعالى على نبيّه صلى الله عليهم وسلم بتأليف قلوب جماعته فقال: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 63].
فالجماعة تقتضي قيام القوي على الضعيف، والصحيح على المريض، والكبير على الصغير، والعالم على الجاهل، والغني على الفقير، والحليم على الطائش العجول.. فيعم خُلُق الرحمة والرأفة، والمحبة والتسامح، والعفو والفضل، واليسر والسهولة، والبذل والعطاء.. فتلتحم المنظومة وتسدّ فرجها وخللها وتكون (كرجل واحد)، كما قال صاحب الجماعة الأولى صلى الله عليه وسلم.
وقد نظن أن مقتضيات الجماعة تلك شيء سهل التحقيق، أو هو من فروع الكلام عن قضايا التزكية والتربية، ونغفل أن مقتضيات الجماعة من الرحمة واليسر والبذل.. وغير ذلك؛ هي في الأساس شرائط وجود روح الجماعة ثانية.
فالجماعة التي نسميها في واقعنا الدعوي (الجو الإيماني) أو (التعاون الدعوي) أو غير ذلك من المصطلحات والتسميات، هذه الجماعة لا يتحقق وجودها أولا، ولا تتحقق ثمرتها ثانيًا، بغير جهد وعمل شاقّين على النفس، كحال كلّ غاية عظيمة لا تتحقق إلا بشق الأنفس.
فالخروج عن الفردية (الأنا) والدخول في ربقة الجماعة يعني: تكيُّفَ الشخص بصفات ربما كانت جديدة عليه، أو شاقة غير معتادة عنده، ولهذا لا يطيق أغلب الناس التقيّد بواجبات التجمع، والتعاون الدعوي، إذ لم يتربَّ الفرد دعويًّا على التكيُّف بصفات الجماعة التي غالبًا لا توافق أهواءه وميلَه.
ومن هنا يعجِز كثير من الدعاة وطلاب العلم عن إيجاد الجماعة في محيطهم الدعوي، إذ لا تتوفّر شرائط وجود الجماعة واستمرارها عادة إلا بعد تربية فكرية وعملية طويلة على معانيها، ولنضرب على ذلك أمثلة حيّة من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم للمجتمعين:
• يقول صلى الله عليه وسلم: (طعامُ الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) [أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر، وروي كذلك من حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم].
فطعام الواحد الذي سيكفي الاثنين يعني أن أحد المجتمعينِ على الطعام سيرضى أن يشاركه أخوه طعامَه، لا نقول سيأكل من طعامه، بل نقول: يشاركه طعامه الذي هو (طعام الواحد) فقط، فلو لم يعِ صاحبُ هذا الطعام أن بركة الاجتماع على الطعام تعادل قدر الطعام كاملا، ولو لم يقدِّر حقَّ أخيه -بمقتضى الأخوة الدينية وحقوقها التي هي وقود الجماعة- في طعامه الخاص.. لو لم يستجمع كلّ هذا لربما استأثر بطعامه “الخاص” لنفسه، واستأثر غيرُه بماله، وغيرُه بهندامه، وغيرُه بوقته، وغيرُه بجهد، وغيرُه بجاهه، وغيرُه بعلمه.. وهكذا، كما هو واقعُ كثيرٍ منا إلا من رحم الله.
• ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدَهم) [أخرجه أبو داود والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع].
فأمر صلى الله عليه وسلم بتأمير أحد أفراد الجماعة المسافرة حفاظًا على وحدة تجمّعهم من الفُرقة والاختلاف، إذ لا يتم اجتماعٌ للبشر بغير تأمير أحدهم عليهم، لكثرة الاختلاف الناتج عن كثرة الأهواء والآراء.
لكن ليست كلّ النفوس تطيق هذا الأمرَ النبوي الحكيم، لما فيه من الإلزام والتقيُّد بالجماعة، ثم الانصياع لأمر صاحب التجمّع عند الاختلاف.
فالذي نفهمه إذن أن الاجتماع يعني مزيدًا من المرونة والسهولة، ومزيدًا من البذل والعطاء، ومزيدًا من الإيمان والإحسان، وهذا كله قليل فينا لضياع الجماعة التي لم ننشأ عليها ولم نتربّ في كنفها.
فانظر كيف نفتقد في واقعنا تلك المعالمَ النبوية للجماعة، حتى إننا كثيرًا ما لا نطيق بذلَ القليل لإخواننا، أو الصبر على أداء حقوقهم، أو الصبر على بعض أذاهم، أو الصبر على استيعابهم، أو الرحمة بهم والقيام عليهم.. وإذا وقع بيننا وبينهم خلاف فسرعان ما ننسى كلّ حقوقهم، فلا نرحم المخطئ، ولا نعذر المجتهد، ولا نقيل العثرة!
ولضياع تلك المعاني الاجتماعية والتكافلية أيضًا تنفر نفوسُ كثير منا عن التجمع، وتؤثر العملَ الفردي والبيئة الخاصة بها عن الجماعة، إذ لا يرى الفردُ بعين حاله في التجمع غيرَ سلبيات أفراده وآفات نفوسهم.
ولهذا كان واجبُ المربين والمصلحين والدعاة البحث أولا عن شرائط نجاح التجمع قبل الحديث عن التجمع ذاته، ثم إن التجارب كفيلة بعد ذلك باكتساب الحكمة والخبرة الضامنينِ للنجاح الدعوي عادة.
ونحن إذا أردنا أن نوجد جماعةً نستقي منها لدعوتنا، وتكون لنا أداة عون على طاعة الله تعالى: فلا بدّ من إدراك شرائط وجود الجماعة، تلك الشرائط التي هي مقتضيات وثمرات الجماعة، فإن تلك الشرائط متى وجدت فينا وفي كلّ مجتمع لنا فقد وجدت الجماعة.
وبعد: فالحديث عن ضرورة خلق الجماعة في المحيط الدعوي الإسلامي لكلّ داعية مصلح، وكل طالب علم مخلص.. حديث فرضته الطبائع البشرية، والشرائع السماوية، والواقع المشتت للجهود الفردية.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّ اللهم وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.