ملخص كتاب: المجملات النافعات في مسائل العلم والتقليد والإفتاء والاختلافات
ملخص كتاب:
المجملات النافعات في مسائل العلم والتقليد والإفتاء والاختلافات – الثاني: العلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
مقدمة:
هذا هو المقال الثاني من خمس مقالات، في ملخص كتاب: المجملات النافعات في مسائل العلم والتقليد والإفتاء والاختلافات، لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ أحمد عبدالرحمن النقيب، الأستاذ بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، كلية التربية، جامعة المنصورة، مصر، الكتاب من إصدار دار طابة للنشر والترجمة، المنصورة، مصر، الكتاب يقع في 126 صفحة من القطع المتوسط، ويغطي أربعة أقسام رئيسة؛ هي: العلم، والتقليد، والاجتهاد والاتباع، والاختلاف، وقد سبق التعريف بموضوع الكتاب، وبيان محتواه إجمالًا، ووصف الكتاب، ومقدمته، في المقال الأول، ونتناول في هذا المقال ملخص الموضوع الأول في الكتاب؛ وهو: العلم.
فضل العلم:
أما العلم فله أفضال كثيرة نصَّ عليها الكتاب والسنة؛ يكفي من ذلك قول الله عز وجل:
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
أنواع العلم:
قال المصنِّف حفظه الله: العلم منه علم مشروع، وعلم غير مشروع، والعلم المشروع منه علم نافع، وعلم غير نافع.
العلم المشروع هو العلم الذي أذِن فيه الشرع، فإن انتفع به صاحبه ونفع به، كان علمًا نافعًا، وإن لم ينتفع به صاحبه، فهو علم مشروع غير نافع، وسيكون هذا العلم وبالًا على صاحبه، وحُجَّةً عليه.
والعلم غير المشروع هو العلم الفاسد في نفسه؛ لكون الشرع قد حرَّمه وذمَّه؛ إما نصًّا كالسِّحر ونحوه، أو استدلالًا كعلم الرقص.
وبالجملة، فكل علم يُنتفَع به ولا يترتب عليه إفساد ولا ضرر، فلا بأس به؛ أخرج هناد بن السري في “الزهد” (2/487)، قال: حدثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع قال: قال عمر: “تعلَّموا من النجوم ما تهتدون بها، وتعلَّموا من الأنساب ما تَوَاصَلون بها”، وذكر ابن رجب في “بيان فضل علم السلف على علم الخلف” (ص2) أن النخعي لا يرى بأسًا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به، ورخص في تعلم منازل القمر، وهذا بالطبع لا يشمل تعلمها للإفساد والتكهُّن، فهذا محرَّم مذموم.
العلم المشروع النافع:
هو العلم الذي أذِن فيه الشرع، النافع في ذاته، وصاحبه منتفِع به، وهو العلم الممدوح، يأتي على رأسه العلوم الموصِّلة إلى الله عز وجل، المبيِّنة لمقاصد خطابه الكريم، وخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم؛ كالعقيدة، والتفسير، والأصول، والتجويد، وغيرها، ويجب على المسلم أن يعلم منها القدر الذي يحتاجه؛ كأن يعلم وحدانية الله عز وجل وإفراده بالعبودية، ويتركز هذا المعنى في قلبه، ويعرف ما يُقيم به عبادته، وإذا ألمَّت به لامَّة، ونزل به أمر، فلا بد أن يعلم وجه الحق فيه قدر الاستطاعة؛ إما بالبحث العلمي، أو بالسؤال، كلٌّ حسب طاقته وقدرته، وكذلك أن يعرف الأشياء الضرورية التي يمكن للمرء معرفتها.
وإذا زاد المرء على حدِّ حاجته، وتوسَّع في معرفة علوم الآلات؛ كالنحو والصرف، والمعاني والبيان، والأصول، وعلوم الحديث، وزاد على هذا معرفته بعلوم القرآن والسنة، ووقف على إجماع وافتراق العلماء من أول الصحابة إلى من يُوثَق بهم من العلماء، حفِظ هذا ووعاه، فهذا بلا شكٍّ أفضل حالًا من حال الأول، وكلٌّ حسب طاقته يجتهد.
ويمكن أن يندرج تحت هذا مثل العلوم التجريبية التي فيها نفع عام يُقصَد من ورائه خدمة الدين والأمة؛ كحال المسلمين الأوائل الذين أسَّسوا علم الجبر خدمةً للشريعة والمسلمين، وكالذين اخترعوا القلم به مداده خدمةً لطلبة العلم، وهكذا في كل نظير.
وهذا العلم النافع هو ما عناه الله عز وجل في قوله:
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9].
﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
العلم المشروع غير النافع:
وهو ألَّا ينتفع صاحب العلم المشروع بعلمه، وهذه مصيبة؛ كحال علماء بني إسرائيل من اليهود والعياذ بالله، كانوا يعرفون الحق، ولكن لا يُحبُّونه، ولا يعملون به، آتاهم الله عز وجل حظًّا من العلم، وآتاهم من الآيات ما به يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل قال الله عز وجل فيهم:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
عرفوا، ولكن لم يعملوا، فهذا العلم لم يُورِثهم العمل، وإنما أورثهم الكفر والعياذ بالله.
قال الله عز وجل في شأن القرآن الكريم:
﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26].
نبع واحد، ولكن يضل به، ويهدي به؛ وهذا مثل قول الله عز وجل:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ [الجمعة: 5].
ومثل قول الله عز وجل في شأن العالم الذي لم ينتفع بعلمه فيعمل بمقتضاه، بل كفر بعد هذا العلم:
﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175، 176].
والهوى هو مَركَب الشيطان إلى النفس، فلا يُتصوَّر هوًى بدون شيطان، ولا يتصور شيطان بدون هوًى، وفي المثل السابق بيان أن العلم يمكن أن يكون سببًا في كارثة الإنسان، إذا لم يَصِلْه هذا العلم بالله عز وجل، وإذا لم يُورِثه التواضع والخشية وتهذيب الأخلاق؛ لذلك شبَّه الله عز وجل حال الذين أُوتوا حظًّا من العلم فلم يعملوا به، بل تركوه واتبعوا أهواءهم، بالكلب.
العلم غير المشروع:
وهو العلم الفاسد؛ يقول ابن رجب رحمه الله في “بيان فضل علم السلف على علم الخلف” (ص1) في العلم غير المشروع: “العلم الذي ذكره الله تعالى على جهة الذم له”، ثم ضرب أمثلة على ذلك؛ مثل علم السحر، وعلم الجدل والكلام، وإن استثنى البعض من هذا مَن تعلُّمه من أجل الجدال عن الإسلام، والرقص، والباليه، والموسيقى، فهذه علوم لم يأذَن فيها الشرع، بل نهى عنها؛ لِما فيها من اختلاط وعُرْيٍ، والعياذ بالله.
ينبغي لطالب العلم أن يحذر من عدة أشياء:
أولها: المعاصي والذنوب:
فلن يستقيم لك علمٌ وأنت صاحبُ معصية، وإذا وقعت في معصية، فبادِرْ بالتوبة إلى الله عز وجل؛ يقول الله عز وجل:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].
ثانيها: الجدل والْمِراء:
أن يبتغي العلم للمجادلة حتى يبرُز ويرتفع على أقرانه، فهذا مذموم؛ أخرج البخاري في “صحيحه” (7188)، قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج: سمعت ابن أبي مليكة يحدِّث، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغضُ الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم))، والألد: شديد الخصومة، أما الْمِراء، فأن يتظاهر ويتفاخر بعلمه، ويحب أن يُرى ويُعرَف، والحديث الصحيح في أول من تُسعَّر بهم النار معروف.
ثالثها: الاشتغال بالتكبُّر بالعلم:
وإظهار فضل علمه على الآخرين، ونسبتهم إلى الجهل، وتنقيصهم ليرتفع بذلك عليهم، وهذا لا يجوز، بل ينبغي أن يزيده العلم تواضعًا ووقوفًا على جهله قبل علمه، فيحمَد الله ويشكره على ما أنعم به عليه.
رابعها: طلب العلم عند الأصاغر:
وهم الرويبضة؛ وفي الأثر: ((إن من أشراط الساعة ثلاثًا: إحداهن أن يلتمس العلم عند الأصاغر))؛ [أخرجه ابن المبارك في “الزهد” (61)، مرفوعًا، وفيه ابن لهيعة]، وقد فسر ابن المبارك معنى الأصاغر في مدرج الخبر أنهم أهل البدع، ولعل هذا التفسير من ابن المبارك على جهة التمثيل لطائفة من أهل البدع يغلب عليهم السَّفَهُ، وإلا فقد أخرج أحمد في “مسنده” (13445) مرفوعًا: ((الفُويسق يتكلم في أمر العامة)).
بل يجب على طالب العلم ومُحبِّه والسائل عنه أن يأخذه من كلام الصحابة والتابعين، ومن فهِمَ عنهم، وسار على هداهم؛ إذ لو لم يأخذ العلم منهم، فاته الخير كله؛ ذكر ابن رجب في “بيان فضل علم السلف على علم الخلف” (ص6)، عن الأوزاعي: “العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان غير ذلك فليس بعلم”.
أخرج البخاري في “صحيحه” (100)، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزِعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقَبْضِ العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأضلوا))، وهو نصٌّ في أن رفع العلم لا يكون بمحوِهِ من الصدور، بل بموت العلماء، وبقاء الجهَّال الذين يتعاطَون مناصب العلماء في الفُتيا والتعليم، يفتون بالجهل ويعلمونه، فينتشر الجهل ويظهر، وقد ظهر ذلك ووُجد على نحو ما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصًا في هذه الأزمان.
وإياك – أيها الحبيب – والاغترارَ بالرأي، والتشدُّق والتفصُّح بالكلام، فلا بد أن تحذر من الخلط بين المتشدقين في كلامهم من أهل البدع والأهواء، وصغار الأسنان، سفهاء الأحلام، وبين أهل العلم حقًّا.
خامسها: الانشغال بالآخرين دون نفسه:
أخرج البخاري في “الأدب المفرد ت: عبدالباقي” (592)، قال: حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون، قال: حدثنا مسكين بن بكير الحذاء الحراني، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم قال: سمعت أبا هريرة يقول: ((يُبصِر أحدكم القَذَاة في عين أخيه، وينسى الجِذْلَ – أو الجذع – في عين نفسه))؛ قال أبو عبيد: الجِذْلُ: الخشبة العالية الكبيرة.
سادسها: كثرة الخوض والكلام فيما لا يفيد:
لأنه إذا تعوَّد الخوض فيما لا يفيد، ضاع منه ما يفيد، فاستروح ما لا يفيد، وشقَّ عليه ما يفيد.
سابعها: تداخل النوايا وعدم تحرير النية:
لا بد من تحرير النية، عند الطلب، وأثناء الطلب، ومن صلحت نيته في البداية، كملت أعماله في النهاية؛ يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5].
أخرج البخاري في “صحيحه” (54)، قال: حدثنا عبدالله بن مسلمة قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة بن وقاص، عن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
علامات العلم النافع:
للعلم النافع في ذاته، النافع لصاحبه، الذي هو العلم الممدوح، علاماتٌ.
أولها: التواضع:
كلما ازداد العبد علمًا بربه ومعرفة به، ازداد منه خشيةً ومحبة، وازداد له ذلًّا وانكسارًا.
ثانيها: أن يهرُب صاحبه من المدح والشهرة وحب الرياسة:
فإذا وقع له ذلك من غير قصد واختيار، كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته بحيث يخشى أن يكون مكرًا واستدراجًا.
ثالثها: أن صاحبه لا يدَّعي العلم ولا يفتخر به على أحد:
ولا ينسُب غيره إلى الجهل، إلا من خالف السُّنَّة وأهلها، فإنه يتكلم فيهم غضبًا لله لا غضبًا لنفسه، ولا قصدًا لرفعتها على أحد.
رابعها: الخشية من الله عز وجل:
قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
خامسها: حب السلف من الصحابة والتابعين والعلماء الأعلام ومن سلك سبيلهم:
حبُّهم، وتوقيرهم، والأخذ منهم، وعدم قبول ما خالف فيه أحدهم الدليلَ برفق وإحسان، والتعصب للحق الذي جاؤوا به.
سادسها: حب القرآن والتعلق به:
أن يملك القرآن عليه شِغافَ قلبه.
سابعها: أن تكون له معية صالحة:
تأخذ بيده، وتقوِّي عزمه؛ لأنه أحيانًا قد يُصاب بالضعف، قد يأتيه الشيطان، فمن الذي يُثبِّته؟ هذه المعية الصالحة، سواء من جملة من يصحبونه في العلم، أو من جملة أهل الديانة، أو من جملة المشايخ والعلماء، على حسب توفيق الله عز وجل له.
مسألة: مقتضى العلم: العمل بهذا العلم:
لا انفصال بين العلم ومقتضاه (العمل)، فوجود شِرْذمة من اللابسين للَبوسِ العلم غير العاملين به، أو وجود جُهَّال جعلوا أنفسهم أولياءَ، لا يعني أن العلم لا يقتضي العمل، فحالُ الفريقين على خطأ، بل حالهم كحال اليهود المغضوب عليهم الذين علِموا فلم يعملوا، وكحال النصارى الذين عمِلوا بغير علمٍ فضلُّوا، إذًا لا بد للعلم من مقتضًى؛ وهو العمل، فلا يجوز للمرء أن يعلم ولا يعمل بعلمه، أو يعلم ويعمل ولا يبلِّغ، بل هي أصول متزامنة متعانقة، لا تنفصل واحدة عن أختها، فلا بد من: العلم، والعمل، والدعوة.
مسألة: لماذا يُطلَب العلم؟
أولًا: لأن طلبه لله عبادة:
العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله عز وجل، ومن جملته طلب العلم؛ قال الآجري في “أخلاق العلماء” (ص34): “رُوِيَ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة”.
ثانيًا: لأن طلب العلم من أسباب زيادة الإيمان:
الإيمان يزيد وينقص، ومن أعظم أسباب زيادته طلبُ العلم؛ يقول الله عز وجل:
﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124، 125].
ثالثًا: لأن الحُجَّةَ لا تُقام إلا به:
الحُجَّة: البرهان القاطع؛ يقول الله عز وجل:
﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
رابعًا: لأنه من صُور جهاد الكفار والمعاندين والمبتدعة ونحوهم:
يقول الله عز وجل مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأُمَّتَه من بعده:
﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52].
وهذا ظاهر قديمًا في ردود أهل الإسلام على أعدائهم بالحُجَّة والبرهان، وهذا مطلوب في أزماننا.
قلت: ورد في الأثر عن ابن عباس في (به): “أي بالقرآن”، وأن السورة مكية قبل فرض الجهاد، ولابن القيم كلام ماتع في هذا في “زاد المعاد” في أول الجزء الثالث.
خامسًا: لأنه من أعظم أسباب الثبات على الدين والطريقة السَّوِيَّة زمنَ الفتن:
فمن ذا الذي يُهرَع إليه الناس عند نزول الفتن وعصف رياحها؟ إنهم العلماء، ومواقف العلماء على مدار التاريخ تثبت ذلك واضحًا جليًّا.
سادسًا: لأن العلم يُورِث الأخلاقَ الفاضلة:
الأدب قبل العلم، والعلم يزكو بالأدب، ومن ثَمَّ يزكو الأدب أيضًا بالعلم، إنها العلاقة المتنامية المتصاحبة، والأدب مكرُمة، ومن أعظم أسباب تحصيل الآداب وطرائق السلوك سلوكُ طريق العلم.
ثامنًا: لأنه شرط من شروط الولاية في الدنيا والآخرة، وحيازة الدرجات في الجنة:
قال الله عز وجل:
﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
تاسعًا: لأن به نفعَ الأمة، ببيان الحلال والحرام والْمُشْتَبِه:
قال الله عز وجل:
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 7].
عاشرًا: لأنه من أسباب قمع الشيطان:
فلا يقوم قائمة في النفس، فيُفسدها بالشبهة أو بالشهوة؛ قال الله عز وجل:
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
الحادي عشر: لأنه سبب في توحيد الأمة:
فإن تقديم التوحيد والاتباع سبب في توحيد الأمة، والجهل سبب في فُرقتها.
الثاني عشر: لأنه محافظة على إرث الإسلام وإبقاء على أهل الدين والملة:
العلم شرف أمة الإسلام، وإرثها عن أسلافها، فالمحافظة عليه محافظة على إرث الإسلام، وإبقاء على أهل الدين والملة، وتثبيت لمعالم هُوِيَّةِ الأمة.
مسألة: إلى متى يُطلَب العلم؟
بعض الناس يظن أنه إذا قرأ كتابًا، أو حصل بعض المعلومات أو المعارف في فنٍّ، طار بذلك، وحسب أن منهلَ العلم قد توقف عندئذٍ، والصحيح أن العلم يُطلَب حتى الممات، وأسباب ذلك أن أسباب طلب العلم المذكورة سابقًا ليست موقوتة بوقت، بل لا تنتهي إلا بالممات، هي أسباب لآخر الوقت، ومنتهى النَّفَس، وآخر العمر.
أخرج مسلم في “صحيحه ط: التركية” (26)، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب كلاهما، عن إسماعيل بن إبراهيم، قال أبو بكر: حدثنا ابن علية، عن خالد، قال: حدثني الوليد بن مسلم، عن حمران، عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة)).
ختامًا:
اللهَ أسأل أن يوفقنا إلى العلم النافع، ومقتضاه من العمل الصالح، والحمد لله رب العالمين.
قلت: هذه نهاية المقال الثاني من هذه السلسلة المباركة، ملخص كتاب: المجملات النافعات في مسائل العلم، والتقليد، والإفتاء، والاختلافات، كان المقال الأول مقدمة، وتعريفًا بالكتاب، وبيان موضوعه، وأهميته، وهذا هو المقال الثاني في ملخص الموضوع الأول من الكتاب: العلم، والمقال القادم إن شاء الله – وهو المقال الثالث – في ملخص الموضوع الثاني من الكتاب؛ وهو: التقليد.